بعد القضاء على سلسلة طويلة من قادة حزب الله اللبناني، من حسن نصر الله إلى هاشم صفي الدين وفؤاد شكر وغيرهم، في عمليات اغتيال إسرائيلية ممنهجة، اختار الحزب نعيم قاسم أميناً عاماً جديداً ظهر في أول خطاب له ليقدم برنامجه لقيادة الحزب في توقيت صعب للغاية، وتحد وجودي حقيقي يواجه الذراع الإيراني الأقوى في منطقة الشرق الأوسط.

أبرز ما قاله قاسم في خطابه الأول هو تأكيده على استعداد حزب الله لحرب طويلة تتوافر له فيها وسائل الانتصار كافة، معبراً عن ثقته بأن "النصر على العدو سيكون حليفهم"، مشيراً إلى استمرار الحزب في "مساندة" غزة، ومبرراً موقف الحزب بأن "القرارات الدولية لم تخرج إسرائيل من أرضنا بل المقاومة" وأن "العدو الإسرائيلي يعتدي يوميا على لبنان منذ عام 2006، ومعتبراً أن "إسرائيل لم تكن ملتزمة بالقرار 1701 وأحصينا 39 ألف خرق جوي وبحري لهذا القرار الدولي"، ليصل إلى تشخيص حالة الحرب التي يخوضها الحزب بأنها "دفاع استباقي" في مواجهة ماوصفه بـ" مشروع كبير" تتعاون فيه إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا للقضاء على "المقاومة" ووجودها في المنطقة، وأن السبيل الوحيد لتعطيل وعرقلة هذا المشروع هو استمرار "المقاومة".

مضي نعيم قاسم على خط حسن نصر الله في تأكيد الولاء لإيران حيث قال "إيران تدعمنا لتحرير أرضنا، ولا تريد منا شيئا"، ولكنه فتح الباب مرحباً بدعم أي دولة عربية أو أي دولة من دول العالم ترغب في دعم مقاومة إسرائيل، ساعياً إلى نفي فكرة العمل كذراع أمامي يعمل بالوكالة لحساب إيران حيث قال "لا نقاتل نيابة عن أحد بل من أجل حماية لبنان وتحرير أرضنا وإسنادا لغزة، ولا أحد يقاتل نيابة عنّا ومشروعنا هو حماية الأرض والدفاع عن بلدنا"، وهو في ذلك يحاول أن يكون مختلفاً بعض الشىء عن سلفه نصر الله في التعبير عن الولاء لإيران، ساعياً لإمساك العصا من المنتصف وإرباك خصوم الحزب في توقيت بالغ الحرج، وهو ما يصعب معه القطع بأنه يختلف كلياً عن نهج نصر الله لسبب بسيط هو أن "التقية السياسية" توفر الغطاء المناسب لنعيم للابتعاد ولو قليلاً عن مسار نصر الله الذي كان يفاخر بالتبعية للمرشد الإيراني الأعلى ويتباهي علناً بأن الحزب يتلقى تعليماته من طهران، في حين تحدث نعيم قاسم عن "قناعات" تحرك من وصفهم بـ"جبهات المساندة" في اليمن والعراق.

حاول قاسم في خطابه الأول إظهار تماسك الحزب وعبوره لأزمة الاغتيالات وكذلك الاختراق الإسرائيلي الاستخباراتي الكبير الذي تعرض له، حيث تحدث عن "تعافي الحزب من الهجمات التي تعرض لها لأنه مؤسسة كبيرة ومتماسكة وذات امكانيات كبيرة"، وهو حديث ينطوي على مبالغات واضحة وأكاذيب واضحة لأن من الصعب القول بتعافي الحزب الذي فقد معظم قادته التاريخيين والميدانيين في هذه الفترة الوجيزة، ولكن خليفة نصر الله يريد بالتاكيد رفع الروح المعنوية لأتباع الحزب ومؤيديه ويتجنب الاعتراف بأزمة وجودية تهدد الحزب بالفعل.

استغل نعيم قاسم استهداف إحدى المسيرات لمنزل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في محاولة اثبات قوة "المقاومة" والبرهنة على ذلك بهذا الحدث، الذي كان مخططاً له ـ كما يبدو ـ ليكون تطوراً رمزياً في معركة الصورة والحرب النفسية المحتدمة بين إسرائيل و"حزب الله"، وهو مايفسر قول نعيم قاسم أن نتنياهو نجا هذه المرة وأن "وربما أجَله لم يحن بعد"، في تهديد مبطن بتكرار العملية، ليكون حديثه هنا بمنزلة رد غير مباشر على تلويح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت باستهداف نعيم قاسم في وقت قريب.

بدا خطاب نعيم قاسم شبيهاً بخطاب سلفه نصر الله في مقاطع عديدة من حيث الميل للمبالغة والتحشيد حيث خطاب الجانب الإسرائيلي قائلاً "نحن نؤلم مليونا إسرائيلي يعيشون القلق بسبب صواريخنا" وأنكم "ستُهزمون حتماً لأنّ الأرض لنا وشعبنا متماسك حولنا.. فاخرجوا من أرضنا لتخففوا خسائركم وإلاّ ستدفعون ثمناً غير مسبوق"، مخاطباً السفيرة الأمريكية في لبنان قائلاً "لن تري لا أنت ولا من معك هزيمة المقاومة ولو حتى في الأحلام". ويبدو في هذه النقطة انه يعيش منفصلا عن الواقع أو يعيش حالة إنكار متعمدة إن خط الدفاع الأول لحزب الله على الشريط الحدودي قد دمرته دولة إسرائيل ومسحت بلدات لبنانية كان يختبئ فيها حزب الله ويخزن إسلحته وصواريخه، وحاليا تواصل هجومها نحو خط الدفاع الثاني حيث بقايا قيادات وكوادر حزب الله وتمهد دولة إسرائيل لترك علامات فارقة على الفترة الطويلة، حتى لا تتيح لأي تهديدات مستقبلية فرصة للتكون.

في توشيح استراتيجية حزب الله تحت قيادته قال قاسم "قادرون على الاستمرار لأيام وأسابيع وأشهر ومستعدون لحرب طويلة"، مشيراً إلى أن الحزب "سيخرج من هذه المواجهة أقوى ومنتصراً، كما انتصر في حرب تموز 2006"، ما يعني أن الرهان الأساسي لحزب الله هو على عامل الوقت وقدرته على استنزاف قدرات الجيش الإسرائيلي وتكبيده أكبر خسائر ممكنة، وقد قال قاسم في ذلك "العدو لن يتمكن من الرهان على الوقت لأن خسائره كبيرة وهو سيضطر إلى وقف عدوانه"، مشيراً إلى ما وصفه بـ"مرحلة إيلام العدو"، وهو هنا لا يتحدث عن الحقائق الواقعية بقدر ما يواصل نهج نصر الله في الحديث عن خيالات وأوهام النصر وفق مفهوم إيران ووكلائها، الذي يقصد به في هذه الحالة استمرار بقاء الحزب وافلاته من حرب تستهدف تدمير قدرته على تهديد دولة إسرائيل أو توجيه أي ضربة ضدها.

من ناحية أخرى دولة إسرائيل لا تتهاون مع هذه التهديدات وتتعامل معها بجدية بالغة حيث تقوم بتصفية القيادات العسكرية والسياسية التابعة لحزب الله على الأراضي اللبنانية او السورية، فيما تقوم بقطع طرق الإمداد والدعم اللوجستي والعسكري للأسلحة والصواريخ القادمة من سوريا إلى لبنان، وتمزق شبكة حزب الله وانفاقه ومقراته حيثما كانت.

خلاصة القول أن نعيم قاسم يبدو أكثر تشدداً وتطرفاً من سلفه نصر الله الذي كان يميل إلى تقديم خطب دعائية تلفزيونية لا تتضمن أي مؤشرات واضحة حول سياسة/ خطط الحزب وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى أن قاسم يسعى لملء الفراغ القيادي الكبير الذي تركه نصر الله، وبالتالي يرى في إظهار التشدد والتوجيه بعمليات أكثر جرأة في الداخل الإسرائيلي، السبيل الأمثل لاثبات قدراته القيادية والثقة بامكانيته في قيادة الحزب بهذه المرحلة. الأمر المؤكد أن دولة إسرائيل وضعته محل إهتمام ومتابعة وبالتأكيد سيكون هدف لعملية تصفية متى توفرت الظروف المناسبة.