يعود دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ولكن هذه المرة وهو أكثر قوة وتأثيراً. الدعم الشعبي الكاسح الذي حصل عليه لم يشهده أي رئيس جمهوري منذ أكثر من عقدين، إلى جانب أغلبية بسيطة في مجلسي الشيوخ والنواب، وأغلبية محافظة في المحكمة العليا. هذه العوامل تمنحه سلطات واسعة لإعادة تشكيل مؤسسات الحكم وتنفيذ برامجه المثيرة للجدل دون عوائق كبيرة.
تتميز عودة ترمب بالظروف الاستثنائية التي تضعه أمام اختبار جديد. فالرئيس السابع والأربعون ليس كالرئيس الخامس والأربعين؛ إذ يعود أكثر خبرة، ولكن أيضاً أكثر نزقاً. التحديات التي تواجهه على الصعيدين الداخلي والخارجي تتطلب إدارة قوية وفعالة قادرة على التعامل مع أزمات معقدة من انقسامات محلية إلى حروب ومنافسات عالمية.
رغم أن ولايته الأولى اتسمت بالفوضى وسوء الإدارة، إلا أن هناك من يتوقع أن يكون ترمب أكثر نضجاً في ولايته الجديدة. الولاية الأولى كشفت عن نقاط ضعفه ودفعت به إلى اختبار السياسة الواقعية بشكل غير مسبوق. ومع ذلك، فإنَّ المؤشرات الأولية لا تعكس تحولاً جذرياً في أسلوبه. فالتعيينات التي أعلن عنها في إدارته الجديدة تشير إلى استمرار اعتماده على الولاء الشخصي بدلاً من الكفاءة.
خلال ولايته السابقة، تسبب أسلوبه بالاستغناء المفاجئ عن كبار المسؤولين، أحياناً عبر تغريدة على "تويتر"، في إضعاف الإدارة وإرباك العمل الحكومي. كما أن تعيين المسؤولين بصفة "قائم بالأعمال" أو "بالوكالة" تجاوزاً لموافقة مجلس الشيوخ أدى إلى إضعاف الهيكل الإداري. يبدو أن هذه الاستراتيجية ستتكرر، ما يثير تساؤلات حول قدرة إدارته على تحقيق إنجازات فعلية.
اكتساح الجمهوريين للانتخابات الرئاسية والتشريعية يعزز من موقف ترمب في تنفيذ برامجه الراديكالية. لكن هذا الاصطفاف قد يتحول إلى تحدٍ داخلي، خاصة أن حزبه يشهد تباينات أيديولوجية بين جناحه التقليدي واليمين المتطرف.
فاز ترمب في انتخابات وصفت بـ"الزلزال السياسي"، ويبدو أنَّ التغييرات التي يخطط لإدخالها على هياكل الدولة ستكون بنفس التأثير. من المرجح أن يركز ترمب على عملية إعادة تشكيل كبرى للمؤسسات الحكومية تحت شعارات مثل "إصلاح الإدارة" و"تقليص النفقات"، وهي شعارات قد تخفي وراءها أجندة سياسية تهدف إلى تقليص نفوذ مؤسسات الدولة.
أبرز ما يثير القلق بشأن إدارة ترمب الجديدة هو اختياراته للمناصب العليا. فيبدو أنه يكرر أخطاء الماضي بتعيين شخصيات تفتقر إلى الخبرة، أو تحيط بها الفضائح. على سبيل المثال:
بيت هيغسيث: مرشح وزارة الدفاع، مذيع في محطة "فوكس نيوز"، يفتقر إلى أي خلفية عسكرية أو خبرة أمنية.
مات غايتس: مرشح وزارة العدل، متورط في قضايا أخلاقية وجنائية.
تولسي غابارد: المرشحة لإدارة الاستخبارات، مثار جدل بسبب ظهورها المتكرر على وسائل الإعلام الروسية.
إقرأ أيضاً: سعد الرميحي.. بصمة في الصحافة
هذه التعيينات قد تؤدي إلى إدارة غير مستقرة، تفتقر إلى الكفاءة، وتعتمد بشكل كبير على الولاء الشخصي لترمب، مما يزيد من احتمالات سوء الإدارة.
إحدى أولويات ترمب في ولايته الجديدة هي تنفيذ عملية تطهير واسعة في المؤسسات الحكومية. يستخدم ترمب خطاباً شعبوياً يتهم فيه "الدولة العميقة" بأنها عقبة أمام إرادة الشعب. وبالتعاون مع شخصيات مثل الملياردير إيلون ماسك وفيفيك راماسماوي، يسعى إلى تقليص المؤسسات الحكومية، وربما إلغاء بعضها بالكامل.
إيلون ماسك: يلعب دوراً رئيسياً في "إصلاح الإدارة"، مستعيناً بأفكاره الجريئة حول الاقتصاد والتكنولوجيا.
فيفيك راماسماوي: يدعو إلى إلغاء وزارة التعليم ومكتب التحقيقات الفيدرالية، بالإضافة إلى وقف تمويل مئات البرامج الحكومية التي يراها غير ضرورية.
إقرأ أيضاً: التفاخر بالإقامة الأوروبية: بين الغربة والحنين للوطن
هذه الخطوات ستترك تأثيراً عميقاً على البنية الإدارية للولايات المتحدة، وقد تؤدي إلى تقويض الكثير من الحقوق المكتسبة للمواطنين.
يواجه ترمب بيئة داخلية مليئة بالتحديات: انقسامات سياسية حادة، توترات عرقية واجتماعية، وضغوط اقتصادية ناجمة عن التضخم وارتفاع الديون. على الصعيد الدولي، تواجه الولايات المتحدة صعود الصين كقوة عظمى، واستمرار الحرب في أوكرانيا، وتوترات مع إيران وكوريا الشمالية.
كل هذه القضايا تتطلب إدارة متمرسة وفريقاً يمتلك الخبرة الكافية للإبحار في هذه المياه المضطربة. ومع ذلك، يبدو أن الأولويات السياسية لترمب تركز أكثر على ترسيخ سلطته وتصفية حساباته السياسية بدلاً من بناء استراتيجية شاملة لمعالجة هذه التحديات.
إقرأ أيضاً: الشغب الرياضي والعقوبات الخجولة!
مع فريق يعتمد على الولاء الشخصي، ونمط حكم يفتقر إلى الانفتاح على الآراء المختلفة، يبدو أن ترمب يمهد الطريق لتزايد النزعة الديكتاتورية في اتخاذ القرارات. هذا الاتجاه قد يؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات الأميركية، وإضعاف الديمقراطية، وزيادة حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي.
إدارة ترمب الجديدة تُعد نقطة تحول في تاريخ الولايات المتحدة. قد تكون فرصة لإصلاح ما أفسدته سنوات من التراجع الإداري والسياسي، أو قد تكون بداية مرحلة من الفوضى والديكتاتورية. يبقى السؤال قائماً: هل سينجح ترمب في تحقيق أجندته المثيرة للجدل؟ أم أن مقاومة المؤسسات والمجتمع المدني ستقف عائقاً أمامه؟
في كلّ الأحوال، سيظل مستقبل أميركا تحت إدارة ترمب محط أنظار العالم، في انتظار ما ستكشفه الأيام القادمة.
التعليقات