غادرنا الولايات المتحدة بعد إقامة امتدت لسنوات، متوجهين إلى أوروبا، مع بداية الثورة السورية وما ترتب عليها من تداعيات أصابت قلوب وأرواح السوريين في الداخل والخارج. أفضى هذا الوضع إلى نزوحٍ قسري للكثيرين بحثاً عن الأمان، فكانت الدول الأوروبية هي الوجهة الأبرز لكونها أقرب إلى الوطن من حيث المسافة والتقاليد. وبينما يفصل الولايات المتحدة عن أوروبا ما يصل إلى تسع ساعات من فرق التوقيت، كواشنطن، أوريغون، كاليفورنيا، ألاسكا، وهاواي.. ناهيك بولايات الوسط الأميركي مثال أيوا، أوهايو، الينوي، إنديانا، لويزيانا، كانساس، كنتاكي، كولورادو، ميزوري، ميشيغان، مينيسوتا، ونبراسكا، واعتمد السوريون في اختيار وجهتهم على عوامل القرب الجغرافي وسبل الأمان المتاحة.

كان اختياري لوجهتي في النمسا دافعاً من القلب، فهي من الدول التي تجمع بين الأمان وجمال الطبيعة وهدوء الحياة. كانت فيينا، العاصمة الأيقونة، محط إعجابٍ لكل من زارها؛ مدينة تستقبل زائريها بترحيبٍ حار، وتحمل مزيجاً من التراث الغني والطموح المتجدد. فهي ليست مجرد مكان، بل تجربة تجسد متعة العيش وفن الحياة. يتجلى ذلك في شوارعها الأنيقة، وموسيقى موزارت وبيتهوفن، والحفلات التقليدية التي تضفي عليها طابعاً أسطورياً، يكاد يجعل الإنسان في حالة حلمٍ مستمرة.

لكن، وعلى الرغم من الجمال الظاهري لهذه المدن، يبقى السؤال مطروحاً: هل نحن حقاً مقتنعون بالاغتراب؟ وهل الإقامة الأوروبية، بما تحمله من مزايا، كفيلة بجعلنا ننسى حب الوطن؟ أم أنَّ هذه المزايا تبقى قشوراً لا يمكنها أن تحجب أشواقنا وأحلامنا العالقة هناك، حيث الوطن والأهل والأحبة؟ هناك في "الحارة"، حيث كنا نجتمع في أحاديث يومية عفوية مع المارين في الشوارع، نحيا بسلام نادر، ونجتمع بمحبة عميقة، تنبعث تحياتها للجدّة وللعمّة والخالة وللأصدقاء من كل زاوية.

ورغم التفاخر الذي يطغى على أحاديث المغتربين الذين حصلوا على جنسيات أو إقامات أوروبية، يبقى للغربة جانبٌ مرير. فما من إقامة، مهما كانت مغرية، تملك أن تزيل شعور الفقد الذي يعيشه المغترب في البعد عن وطنه وأهله. يسعى المغتربون كثيراً وراء ما يُسمى بدول النعيم، فترى السوريين يقصدون ألمانيا، وفرنسا، وهولندا، والنمسا، والسويد، وبريطانيا، والدنمارك، وغيرها من الدول الأوروبية، رغم كل التحديات والمخاطر والتكاليف الباهظة التي يتحملونها.

إقرأ أيضاً: الموسيقى ومعالجة مرضى الأعصاب

هذه المغامرة التي يخوضها المغتربون ليست إلا مغامرة قاسية وغير مضمونة. فالكثيرون يدفعون مبالغ هائلة قد تصل إلى 17 ألف يورو للشخص الواحد، ويعانون لأشهر طويلة وسط غابات مجهولة، يعبرون بحاراً ومحيطات في رحلات تهدد حياتهم، معرضين أنفسهم لمخاطر العواصف والموت المحدق. فكيف يمكن اعتبار هذا الطريق - بكل مخاطره - هو السبيل لتحقيق الاستقرار؟ أليس من الأجدر أن ننظر بعمق إلى ما نتركه وراءنا، وأن نفكر فيما إذا كانت الإقامة في دول الغربة، برغم ما قد تمنحه من استقرار مادي وأمان، قادرة على ملء الفراغ الذي يخلّفه الوطن في قلوبنا؟

إقرأ أيضاً: الرياضة النسائية العربية.. وعودة محمودة

لا شيء يمحو أثر الوطن في نفس المغترب، فالمغادرة مهما كانت مغرية تظل مغامرة كبرى، تترك غصّة في الروح التي تشبّعت بماء بردى ونهر الفرات.

إنّ ما نراه في المجالس اليوم بين المغتربين لا يعكس سوى الحنين إلى الأيام الماضية، إلى سوريا التي تركت أثراً عميقاً في قلوب كل من عرفها، وإلى ليالٍ طويلة قضيناها في أحاديث دافئة، لا شيء يُعوضها أو يقاربها من حيث الدفء والصدق.