أجبرتني الأحداث الأخيرة في سوريا الشقيقة، وسقوط نظام الأسد إلى مراجعة كتابي عن هذه الفئة من الحكام الذي عنونته: (حكاية صرماية: العرب وثقافة الحذاء)، وصدر عام 2018. إذ يشكل بشار الأسد أحد الشخصيات الرئيسة التي تناولتها في الكتاب، هو و"الحذاء الأكبر" ... معمر القذافي.
فبعد سقوط القذافي ها نحن نرى حذاءاً آخر يُقذف به إلى حيث ذهبت أُم عمرو! فهي قصة الحذاء تبدو في عالمنا العربي كعرض سينمائي مستمر.. نستبدل فيه غالباً حذاءا بحذاء، ويكون هذا الحذاء في أقدامنا حينا .. وفوق رؤوسنا حينا آخر .. أو مقذوفا نحو رؤوس اشتاقت لضرب الحذاء الذي ضربت به الجموع، ليكون "الحذاء من نفس النعل". وإذا كان قد قيل في الأمثال: "لا يَقُلُّ الْحَدِيدَ إِلَّا الْحَدِيدُ" أقول أنا في كتابي هذا: "لا يَقُل الحذاء.. إلا الحذاء"!
لم أكن أتصور وأنا أفكر في كتابي عن الحذاء الذي اتخذته رمزا للحكم الديكتاتوري وتسلط الأنظمة الحاكمة على شعوبها. سواء لأنظمة عسكرية أم مدنية، أن أجد على أرض الواقع من يجعل من الحذاء رمرًا حقيقيًا للحكم يحتفي به ويحوله لمزار أو أن تعمد واحدة من أشهر المذيعات في وطننا العربي، على تقبيل الحذاء باعتباره رمزا للنظام السوري وأن يضعه البعض على رؤوسهم تعبيرًا عن تأييدها لنظام بشار الأسد ! وهكذا، وكم أكدت في كتابي فإن دلالات الأحذية ومآلاتها، في أغلبها تعكس الواقع العربي المعيش.. لذا فأحداث ووقائع الكتاب يجمعها الحذاء.. ويفرقها الحذاء!
والأدهى والأمر أن يقوم النظام السوري نفسه بإقامة نصب تذكاري عبارة عن حذاء عسكري في مدخل اللاذقية، يدشنه أمين فرع اللاذقية لحزب البعث محمد شريتح، ومحافظ اللاذقية أحمد الشيخ عبد القادر قدرة! (*) عبدالعزيز حسين الصويغ .(حكاية صرماية، ص: 196)
لا عجب أن تتدنى قيمة الإنسان إلى هذا الحد.. فيبدو أن هذا هو الحال في أرضنا العربية، وأن ما يحدث اليوم ليس جديدا على الناس ولا على الحكام. فها هو ابن عبد ربه أبو عمر شهاب الدين القرطبي الأندلسي (ت ۳۲۷)، في كتابه (العقد الفريد ) يذكر حال الناس وهم بين يدي الأمراء فيشبه بعض هذه الحالات بحال الأحذية في الوضاعة والذل.
يقول ابن عبد ربه أمر بعض الخلفاء رجلا بأمر؛ فقال: أنا أطوع من الرداء، وأذل لك من الحذاء. وهذا قاله الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك الزيات.
وقال آخر: أطوع لك من يدك، وأذل لك من نعالك. (*) الصويغ .(حكاية صرماية، ص: 197)
بعد أول استخدام له من قبل العراقي منتظر الزيدي ضد الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش في زيارته الأخيرة لبغداد أثناء انعقاد مؤتمر صحافي في ١٤ ديسمبر ۲۰۰۸. والتي أرادها الصحافي العراقي تحية وداع عراقية، دخل الحذاء كإحدى أدوات الاحتجاج السياسي التي يستخدمها المتظاهرون ضد أهل السياسة، مثله مثل البيض والطماطم. . (*) الصويغ .(حكاية صرماية، ص (11)
وهكذا تحول الحذاء لأحد أسلحة الدمار الشامل المحظورة بشدة في المؤتمرات الصحافية إلا بعد التأكد من عدم خطورتها على تلك النوعية من رؤساء وقادة الدول. إنه سلاح الحذاء الشامل الذي سجله مواطن عربي كأداة جديدة للاحتجاج.. وهو ما يؤكد قطعا تأثير العرب المتنامي على الأحداث العالمية ؟! وهكذا، فإن دلالات الأحذية ومآلاتها، في أغلبها تعكس الواقع العربي المعيش.. لذا فأحداث ووقائع الكتاب يجمعها الحذاء.. ويفرقها الحذاء!
لكن إذا كان الحذاء سلاحًا غريبا على العالم الغربي، فإنه ليس غريبا في عالمنا العربي. فقد تربت معظم شعوبنا العربية تحت الحذاء.. وكان لحذاء السلطة على وجه الخصوص، المنزلة العالية .. وبعدها ، أو تحتها تأتي جميع الرؤوس الجميع يقبعون تحت حذاء السلطة أيما كانت هذه السلطة، وأيما كان من يمثلها. (*) الصويغ .(حكاية صرماية، ص (12)
مشكلة أغلب شعوبنا العربية هي أنها تعودت على حكم الاستبداد سواء في هيئة حكم عسكري، أو مدني، وألفوه حتى أصبح تخليهم عنه أشبه بصعوبة تخلي العسكري عن حذائه أو طبنجته العسكرية. فللحذاء، أو "الصرماية"، كما اخترنا أن يكون عنوان هذا الكتاب، ومكانها ومكانتها، وقد تعددت استعمالات الحذاء السياسية بتعدد الأفكار والأيديولوجيات، لكنها كانت كلها تستعمل الحذاء بشكل أو بآخر. ويرى الأديب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد، أنه لا خلاف بين الأنظمة الشمولية .. لأنها جميعًا تدوس كرامة الإنسان. أو لا تقيم وزنا أو حجما لحرية الإنسان
فالشيوعية، تجعل الإنسان حذاء للمجتمع
والنازية تجعل الشعب حذاء للحاكم
والوجودية تجعل الكون كله حذاء للإنسان.
لذا ينتهي العقاد إلى التساؤل: "ما الذي يساويه أي إنسان حتى يضع الكون كله في جزمته؟". (*) الصويغ .(حكاية صرماية، ص (12)
هذا الحذاء كانت عليه نهاية بعض الشخصيات السياسية مثل شجرة الدر، وبداية كثير من الأنظمة السياسية في عالمنا العربي فيما يُعرف بحكم العسكر .. أو "حكم البسطار"، كما يعرفونه في بعض الأدبيات عند إخوتنا في الشام. وإذا كانت ثقافة الحذاء قد خَبّت بعض الوقت، فإنها متأصلة في العقل العربي الذي انتهي إلى تحويل الحذاء ليصبح ممثلا لحكم بعض الأنظمة وشعارًا لها، أو رضي أن يكونه بعض الممالئين للسلطة الحاكمة من الذين ارتضوا أن ينتعلهم الحاكم، أو صاحب النفوذ عند الحاجة.
وقد عمدت تأسياً بكتاب لورنس (أعمدة الحكمة السبعة) إلى كتابة فصل في كتابي بعنوان: (أحذية الحكم السبعة)،وجدته أكثر ملائمة للحالة العربية. ففي وطننا العري نجد أن "لكل صاحب سلطة جذاء على مقاسه بتراتب لا يتخطاه أحد منهم.. فكل حذاء يعرف قدر صاحبه، وكل صاحب حذاء يعرف قدر الحذاء الذي فوقه. تراتب حذائي مثير يذكرنا بما قاله الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد حيث كلب المتسلط متسلط بدوره وحيث وراء كل حذاء كبير قافلة من الأحذية الصغيرة، كل حذاء يحكي حكاية، وتتدفق منه أحداث تروي قصة صاحب الحذاء، والبيئة التي أتى منها والمجتمع الذي عايشه وتأثير كل ذلك في حركة التغيير في المجتمع وصراع التيارات داخل ذلك المجتمع، تلك التي تسعى للتغيير، وأخرى تتمسك بالثبات والجمود". (*) الصويغ .(حكاية صرماية، ص (58)
وإذا كان قد أصبح للأحذية أخيرا سلطة تتفق مع مركزها فهي تلك التي يمثلها - للأسف الشديد - العسكر الذي ينتعلها فحذاء العسكر أقرب لهم من أي أدوات ومقتنيات أخرى. و"أقرب مثال حديث لسلطة الحذاء هو نظام الحكم في سوريا . فكما يقول الكاتب تيسير عمار، لا يستحق إعلان البسطار رمزا للنظام الكثير من التفنيد . والتحليل والبحوث النفسية، فالبسطار ليس ظاهرة الظواهر في تاريخ سوريا المعاصر، إنه بالواقع رمز القائد الخالد ووريثه القائد إلى الأبد، لذا رفع الأسد البسطار رمزا لحكمه ولا تناقض بين الرمز والمرموز". ورمزية البسطار تمثل، كما يقول الكاتب : "إفرازا بهائميًا متحيونا ومتوحشا، رمزية البسطار يمثل ما وصل إليه نظام الأسد من انحطاط وصل إلى قاع الانحطاط الأخلاقي والقيمي، البسطار على الراية إلى جانب وجه الرئاسة. ولا ينقص هذا الثنائي إلا التحول إلى ثلاثي .. بسطار .. بشار ... شبيحة).
ويعرض الكاتب الفلسطيني شريف محمد جابر في مقال بعنوان (الدولة العسكرية وخصالها السبع لأبرز سبع خصال للدولة العسكرية استقاها الكاتب من محاضرة للأستاذ عبد المجيد الشاذلي، ألقاها في أحد مساجد الإسكندرية في الأول من يوليو، ۲۰۱۱حول "الدولة المدنية والدولة العسكرية"، أستميح الكاتب في أن أعرضها هنا بتصرف.
الخصلة الأولى: الحكم الفردي الاستبدادي (Autocracy)
فليس في الدولة العسكرية حياة نيابية وفرصة للشعب لاختيار من يحكمه
الخصلة الثانية: الاعتماد على القوة العسكرية والجيش (Militarism)
حيث يتم استخدام القوة العسكرية (الجيش) في الهيمنة على شؤون البلاد، سواء في بداية السيطرة من خلال انقلابعسكري، أو من خلال توطيد أركان الحكم واستقراره.
الخصلة الثالثة: الدولة البوليسية(Police) State)
تخضع فيها نشاطات الناس للرقابة الصارمة من قبل الحكومة بمساعدة قوة الشرطة. حيث يتم شيطنة كل صوت معارض وتسيطر أجهزة الأمن والمخابرات والجيش على مختلف مناحي الحياة، وتمنع ممارسة الحريات السياسية بشكل كامل. ومع مرور الوقت سوف تضيق مساحة الحرية أكثر فأكثر، حتى تصل لسيطرة كاملة على كل وسائل الإعلام، تحت قيادة أمنية مخابراتية مباشرة.
الخصلة الرابعة : حكم الأقلية الفاسدة (Oligarchy)
وهي أمر حتمي حيث يعني حكم الأقلية هنا: رأسمالية اللصوص وتسلّط الأقلية.
الخصلة الخامسة: تسييس الدين.
فتحت غطاء الدين يبررون مواقف قد تكون كارثية للأمة حتى يعطوا لأفعالهم المخالفة شرعية دينية. يتبعه تسيس الاقتصاد، والإعلام.
الخصلة السادسة: أرستقراطية النجوم
والمقصود ذلك التعاون الوثيق بين الحكم العسكري المستبد وطبقة النجوم فاحشة الثراء، وهؤلاء يملكون الاستعداد لتأييد إبليس نفسه إذا ما جلس على كرسي السلطة.
الخصلة السابعة: العلمانية أو فصل الدين عن الدولة
وهي خصلة ملازمة للدولة العسكرية في السياق العربي الحديث، وذلك تحت غطاء "الدولة المدنية"، وهي دولة أصبحت مطلبًا لشعوب العالم قاطبة تقوم على مبادئ المساواة وترعى الحقوق، وتنطلق من قيم أخلاقية في الحكم والسيادة.
ورغم أنني لست مع كل ما جاء في التحليل السابق، إلا أنني أرى أنه سواء حكم العسكر بالحذاء، أو حكم حاكم مدني مستبد فالمدهش هو أن عشق الناس للحذاء لا يعادله إلا عشقهم للحاكم. وكأن هناك سرًا يحمله الحذاء وليس مجرد خُف ينتعلونه .. بل أيضا أداة بطش يستخدمونها ضد شعوبهم. فالحذاء هنا هو رمز عند الحكام الديكتاتوريين.. لحكم شعوبهم. (*) الصويغ .(حكاية صرماية، ص ص: (67-63)
يظل هدف أي نظام سياسي - مهما اختلف شكله تحقيق مبادئ أو ممارسات لو توفرت في المجتمع فإنه لا يهم المسمى الذي يُطلق على هذا النظام، فالعيب ليس في نظام الحكم نفسه قدر ما أراه في "عقلية" الحكم. ففي أنظمة الحكم الديموقراطية تستطيع الشعوب التخلص من السياسيين الذين يجدون فيهم تهديدًا للنظام الديموقراطي، وللمبادئ التي يقوم عليها الحكم، دون الحاجة إلى انقلابات أو اعتراضات دموية وهو أمر لا تتمتع به شعوب الدول التي تُحكم بالعسكر، أو من قبل حكام مستبدين، إلا من خلال ثورات دامية. لذا نرى أنظمة مثل نظام بشار الأسد في سوريا، يستمر دون توقف في محاربة شعبه، واستنزاف موارده، والتمسك بالسلطة حتى آخر سوري. ورغم أن أختيار بشار لحكم سوريا نفسه كان يمثل إهانة للشعب السوري ولكل التقاليد الدستورية، تغير فيها الدستور السوري في خمس دقائق كي يحكم بشار، إلا أن إصرار رئيس النظام السوري على الاستمرار حتى آخر سوري هو تبلد في الحس الإنساني لا أستطيع أن أفهمه.
التعليقات