هناك مصطلحات عُرفت لسنين طويلة على أنها من نتاج وسياسات العالم الثالث، مثل: الحركة التصحيحية، التعديل الوزاري، الثورات والثورات المضادة، الانتخابات 99/99، الاستبداد، الانقلابات العسكرية. وهي في مجملها صراعات على السلطة وثورات تحركها قوى خارجية، كما حدث في ما يسمى (الربيع العربي 2011)، وغيرها من المصطلحات التي عاشها العالم الثاني والثالث. أما العالم الأول، فقد قدم نفسه على أنه عالم الديمقراطية والحرية وحرية الرأي وحرية الإعلام والتبادل السلمي للسلطة، والانتخابات التشريعية، وتداول السلطة بين الأحزاب السياسية. وظل العالم الأول - وأقصد به الغرب شماله وجنوبه - يروّج هذه الدعاية ويرهب بها العالمين الثاني والثالث، بل وصل إلى حد العمل على فرض هذه الديمقراطية على العوالم الأخرى، ووصف من يخالفها بالاستبداد والقمع، الذي قد يصل إلى حد تلفيق التهم والمسوغات لاحتلاله وإسقاط حكومته، ونثر الديمقراطية والأمن والسلام والرفاهية من الطائرات على تلك الشعوب التي تهتف لهذا الفتح المبين، كما حدث في العراق وليبيا وأفغانستان وغيرها كثير من دول العالم الثالث، التي عانت من تسلط العالم الأول وفرض قيمه وأفكاره تحت التلويح بقوة الاقتصاد أو بالقوة العسكرية.

لكن عجلة الزمن دارت، وانكشفت الأقنعة، واتضح أن تلك الشعارات لم تكن إلا أدوات لفرض الرأي ومصادرة حقوق الدول والشعوب في البناء والمنافسة، وعُملت على تجهيل تلك الشعوب وإشعارها بأنها شعوب رعوية، لا بد أن تبقى تتسوّل مصادر الحياة، رغم أنها تعيش على كنوز الحياة من نفط ومعادن وذهب وخيرات، لكن المخرج لا يريد لهذه الشعوب أن تنهض.

الأحداث أثبتت أن الديمقراطية تنتهي عندما تتعارض مع المصالح، وأن الرأي الآخر يصبح "ضدي" عندما لا يكون "معي"! وأن حرية الإعلام تصبح من مهددات الأمن القومي عندما لا تكون منسجمة مع توجهات تلك الدول ومصالحها العليا.

كما أثبتت الأحداث أن الاستبداد الذي كان يُسوّق للعالم الثالث، هو ذاته الذي يجعل شعبًا من 250 مليون أميركي يتقاسمه حزبان: جمهوري وديمقراطي، وفي بريطانيا حزبا العمال والمحافظين، وفي فرنسا حزب النهضة وحزب الجمهوريين. وهكذا نجد أن هذه الأحزاب ليست إلا لتكريس حكم الفرد، حتى لو كان نتيجة انتخابات لا يدخلها إلا أصحاب الثروة، ومن يستطيع أن يشتري الانتخابات بملايين الدولارات. لدرجة أن من يتابع الانتخابات الأميركية عندما احتدم الصراع بين بايدن وترامب، يتساءل: هل خلت أميركا من القادة والساسة والقانونيين والمفكرين، ومن يستطيع أن يجعل أميركا واحة للأمن والسلام للداخل والخارج، وليس لإشعال الحروب ودعم الصراعات والثورات والكيانات ما دون الدولة؟ لماذا؟ لأن من لا يملك المال لا يستطيع دخول سباق الانتخابات، وبالتالي يبقى الصراع بين أصحاب المال والنفوذ فحسب! فأين الديمقراطية؟

هذه المقدمة لمن يتابع الشأن الأميركي في ظل حكوماته المتعاقبة من عهد الرئيس السابق أوباما هل هذه أميركا التي عرفها العالم كانت واحة للأمن والسلام لم يكن يتم إعتقال الناس في الشوارع أو مداهمة الشقق والفنادق واقتياد الناس وتلفيق التهم والحبس لعشرات السنين فأين دولة القوانين والحريات أعتقد أن زمن أميركا السابق أفل وقد لا يعود.

أعتقد أن احتكار الحكم للحزب الجمهوري والديمقراطي، اللذين أصبحا في صراع دائم، سواء أثناء الانتخابات أو بعد نجاح الرئيس ودخوله البيت الأبيض، يجعله ينشغل بهدم ما بناه سلفه ومخالفة سياسته في كل شيء! فكما كان بايدن يعادي روسيا، ترى خلفه ترامب يصالح روسيا، بايدن يدعم أوكرانيا، ترامب لا يدعم أوكرانيا، بايدن يدعم أوروبا، ترامب لا يدعم أوروبا. وهكذا أصبحت السياسة الأميركية سواء في الملفات الداخلية أو الخارجية.

ولعلنا نشاهد السياسة الأميركية الجديدة في عهد ولاية ترامب الثانية، وقد بدأها بقرارات صدمت العالم وقلبت موازين السياسة والفكر الاستراتيجي على صعيد التوازنات والعلاقات الدولية: قرار يدعو لتهجير الشعب الفلسطيني، وقرار يطالب بجعل غزة "ريفييرا الشرق"، وقرار يطالب بضم كندا وقناة بنما وجزيرة غرينلاند، ثم قرار يفرض رسومًا جمركية على كندا والمكسيك، ثم أصدر قرارًا بفرض رسوم جمركية على أكثر من 130 دولة، حتى طالت إحدى الجزر في الإسكيمو التي لا يعيش فيها إلا البطريق!

ويبدأ مسلسل التنازلات والاستثناءات، وهذا يدل على التخبط والاستبداد بالرأي، وأن القرار لم يعد يخرج من المؤسسات الدستورية، بل أصبح قرار فرد يتخيل ويحلم ثم يقرر، وإذا اصطدم بالحقيقة بدأ يتراجع ويستثني!

أنا شخصيًا أحب أميركا، وزرتها مرات كثيرة، وسعدت فيها وفي تطورها وشعبها الخلوق المريح، لكن أتألم عندما أرى هذه السياسات العجيبة تأتي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري. فما إن انتهى الحزب الديمقراطي من قراراته التي صدمت العالم، من نشر المثلية ومحاولة فرضها على العالم، ونشر التحول الجنسي بين الأطفال، وحمل الشعب والدول على تبني هذه السياسات التي تخالف الفطرة وترفضها حتى الحيوانات، فضلًا عن أصحاب الفطر السليمة، حتى رأينا الشعب الأميركي يفرّ من سياسة الديمقراطيين إلى القبول بترامب، لعله يخلصهم من هذا الجور. وهذا ما جعل ترامب ينجح في الانتخابات، وكان أول قرار اتخذه رفض المثلية، وقوله: الشعب الأميركي "رجل وامرأة، لا ثالث لهما"، ورفض الإجهاض والتحول الجنسي، ومنعهم من الانتساب للجيش الأميركي.

لكن بعد هذه القرارات "الترامبية" التي أثّرت على الاقتصاد العالمي، وبالتأكيد ضربت الاقتصاد الأميركي، لمن سيلجأ الشعب الأميركي ومن سينتظر؟ ومن هو الرئيس المخلص القادم؟ هل هو ديمقراطي فيعود إلى سياسة أوباما المخرّبة؟ أم يأتي جمهوري محارب ويسير على نهج ترامب؟

لذا، أعتقد أن أميركا تحتاج هذه المرة أن تستعير إحدى مصطلحات العالم الثالث، وما أكثرها، فلتكن "حركة تصحيحية"، تفتح مجال التنافس على الرئاسة خارج الحزبين الحاليين، وتسمح بدخول أحزاب جديدة، وتسمح بدخول مستقلين، وتمنع ضخ الأموال من التجار وأصحاب النفوذ، حتى يستطيع الفقراء من القادرين على حكم أميركا الوصول إلى السلطة، وإعادة أميركا سيرتها الأولى من عهد المؤسسين الأولين، وكبح وتنحية الدولة العميقة التي تعمل ضد مصلحة أميركا في الخفاء، حتى بدأ العالم يتساءل: هل أوشكت شمس أميركا على الأفول؟