تستطيع جماهير نجيب محفوظ – وهم كُثُر – أن تستمتع بالنسخة الجديدة من رواية "اللص والكلاب" في شكل القصة المصوّرة، وهو فنّ محبوب قريب من المتلقي في مختلف الأعمار، فهذا ما نشأ عليه القارئ الصغير وهو في مرحلة تفعيل بطاقة الاستقبال الجمالي في الطفولة، وكلنا عايش عالم تصوير السرد على الأوراق، لذلك فإنَّ إنتاج روايات محفوظ وقصصه بتقنيات تجمع بلاغة الصورة والكلمة معًا، سيجد المرسَلَ إليه المستعدَّ شعوريًا للتفاعل معها، ليس بسبب الحنين لخبرة أولية تصل ماضيه بحاضره فقط، إنما لرؤية عالم محفوظ في صورة جديدة تتيح له المقارنة بين رؤية جديدة لها تقنياتها المطبوعة في لوحات أفرزتها مدرسة عصرية لها أدواتها الفنية ورؤى أخرى تناولت سرد محفوظ في السينما والتلفزيون والإذاعة، مع مراعاة النسخة الأصلية التي صدرت مكتوبة بقلم صاحبها المصري، أديب العربية العالمي.

تتطلب القصة المصوّرة مجموعةً من التقنيات التي تدخل في حوار مع النص الأدبي المكتوب، بالإضافة إلى خبرة الجماهير بتحويلات سابقة لنصوص محفوظ إلى فنون مختلفة في وسائل التشكيل، وهذه التحويلات تضع في اعتبارها الفروق النوعية في ثقافة التلقي، وجمهور اللحظة الحالية يعيش في زمن ما بعد الحداثة، وهو الأكثر قراءةً للجديد في السرديات الإخبارية ومتابعتها، والإعلانات الراعية التي تطعن متعة الاستغراق والتماهي مع العمل الفني، والملل من الانتظار، وإلقاء نظرة عابرة على عناوين مثيرة تختفي سريعًا دون أثر، هذا الجمهور تجذبه البساطة بقدر ما يملك من رغبة في الانتقاد، نتيجة توافر المرجعية المعرفية في محركات البحث التي تحضر له في طرفة عين المعلومات من كل زمان ومكان، وبالنسبة لحالة تحويل أعمال نجيب محفوظ إلى قصص مصوّرة، فلا شك أنَّ المتلقي يبحث عن إضافة جديدة ومغايرة، وفي الوقت نفسه يتطلع إلى رصد الاختلافات بين النص الأصلي ونص الكوميكس، وربما يقارن بين ملامح الشخصيّات كما جاءت في الفيلم المأخوذ عن نص محفوظ، وقد يتفاعل بإيجابية مع تكوينات الصور الجديدة، أو يخشى على الصورة الساكنة في ذهنه من أن يطردها التصوير المختلف.

بدايةً من الغلاف، سيبحث المتلقي عن التشابه والاختلاف، وقد صاغت رسوم ميجو وجمال قبطان ملامح جديدة لشخصية سعيد مهران، ستظهر الشخصية أمام المتلقي مختلفة عن الصورة التي قدّمها شكري سرحان في فيلم اللص والكلاب إخراج كمال الشيخ عام 1962م برؤية السيناريست صبري عزت، أو الصورة التي قدّمها رياض الخولي في مسلسل تلفزيوني تناول الرواية، أخرجه أحمد خضر عام 1998م برؤية محمد أبو العلا السلاموني.

إنَّ صورة سعيد مهران في الرواية المصوّرة عصرية، مع أن خلفية الغلاف تستحضر قاهرة محفوظ القديمة بالعربة البدائية التقليدية وعجلاتها الدائرية الدالة على زمن ظلّ متحرّكًا إلى أن كمن في خزانة الذاكرة مع الماضي العتيق المحفور في اللاوعي، فالغلاف يحاول التفاعل مع الصورة البصرية المعاصرة، وفي الوقت نفسه يضع الهوية المكانية لعالم محفوظ في عمق التشكيل، ويسيطر على الغلاف لون الليل بثنائية الأزرق والأسود، أما العنوان فجاء باللون البرتقالي مثل كشافات تنير الصورة من داخلها، وكذلك أعلى الغلاف، المكتوب فيه اسم محفوظ بالأزرق في فضاء شمسي، من الجميل إلحاق تصميم الشخصيات بالرواية لتكثيف النموذج البصري في خبرة المتلقي.

مزجت "اللص والكلاب" في صورتها البصرية بين السرد والحوار، ولكن الراوي أصبح سعيد مهران مباشرة بعد أن كان الراوي الخارجي في الرواية الأصلية، وإن كان قارئ الرواية يعرف أن الوعي الذي نستقبل منه السرد عند محفوظ يخصّ سعيد مهران، الذي ينطلق في مونولوجاته وتداعياته وأحلامه، بخاصة عند حضوره في حلقة المنشدين التي تتداخل فيها الأزمنة والشخصيات نتيجة تدفق تيار الوعي، وقد حظي الحوار في النسخة المصوّرة بمساحة كبيرة، فتقسيم الصفحة يحتاج إلى الحوارية الحيوية، وقد تكتفي بعض المساحات بالصورة الناطقة بالحدث وأحوال الشخصية على حساب السرد والحوار، أي أن الصورة تترجم السرد، وقد يختلف شكل الحوار في النسخة المصوّرة عن النسخة الروائية الأصلية، فالحوار في الأصل تتابعي، أما الحوار في النسخة المصوّرة فيقوم على التوازي الذي يدل على المواجهة، وهذا شديد الوضوح في الحوار الكاشف للكوامن والرؤى بين سعيد مهران والشيخ الجنيدي.

وتقوم الصور بإضافة مهمة في نهاية الرواية، حين تظهر شخصية سعيد مهران وحدها في الصفحة، التي أصبحت لوحة ختامية تتحرّر فيها الشخصية من نفسها في تكوين ثلاثي الأبعاد يمثّل الصراع المنتهي بعمقه الروحي، فيخرج سعيد من نفسه المأزومة إلى عالم مطلق، لتصوّر اللوحة تعبير نجيب محفوظ المتكرّر في نهاية النسخة الأصلية: "بلا مبالاة.. بلا مبالاة". فالصورة يمكن أن تترجم المعنى بعمق، مخاطبةً الحاسة البصرية، فيحدث نوع من تنمية الوعي بالفن التشكيلي، لأن السرد الحكائي بالكلمة هو المسيطر على خبرات القراءة، وتفعيل الذائقة التشكيلية يتّخذ من القص خلفيةً جماليةً تدعّم الفنون التشكيلية في مجتمعنا، الذي يحتاج إلى تلك الخبرة ليستعيد ثقافته الأم التي كانت تحكي القصص على جدران المعابد.

وهناك نوع من الترجمة السردية في الرواية المصوّرة، يحدث بتحويل بعض الأحداث والتعبيرات إلى كتابة صوتية ترتبط بالصورة، مثل نباح الكلاب الذي يتحول في السردية المصوّرة إلى "هاو.. هاو"، أو صياغة الصراع بين سعيد مهران والشخصيات الأخرى بصيغة صوتية حين يعبّر السرد عن توجيه الضربات: "بوم.." أو أصوات الرصاص: "باووو.. باووو"، أو صدام السيارات: "كراااااش"، هذه الصيغ لا تتاح في النسخة الأصلية المكتوبة، أو نلاحظها في النسخة السينمائية والتلفزيونية، لأنها صورة مكتوبة لحدث صوتي، وقد أخلصت النسخة المصوّرة للنسخة الأصلية بدرجة كبيرة، ولكنها كانت تحتاج إلى استخدام درجة أكبر في نموذج الخطوط، فالخط الصغير يُتعب القارئ، أو اختيار خطٍّ أكثر وضوحًا.

إنَّ الرواية المصوّرة تضيف إلى وسائط النشر التي تناولت نجيب محفوظ قناةً جديدة يحبّها المثقف القارئ ومطالع الفن التشكيلي أيضًا.