"لديَّ علاقة رائعة مع رجل يُدعى أردوغان، وأنا أحبه وهو يحبني، وهذا ما يُجنّن وسائل الإعلام. لم نواجه أي مشكلة أبداً، رغم أننا مررنا بأوقات صعبة"... بهذه الكلمات المفاجئة والصريحة عبّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن موقفه من نظيره التركي خلال لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض.

لم يكتفِ ترامب بذلك، بل أضاف تصريحاً أكثر إثارة عندما كشف عن محادثة خاصة جمعته مع أردوغان قائلاً: "أبلغت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تهانينا.. لقد فعلت ما عجز عن فعله الآخرون على مدى ألفي عام.. لقد أخذت سوريا مهما تعددت أسماؤها". وفي موقف لافت، عرض ترامب التوسط بين دولة إسرائيل - الدولة صاحبة حق الوجود والامتياز في الشرق الأوسط - وتركيا – الدولة صاحبة حق النفوذ العثماني على مستعمراتها العربية السابقة -، مؤكداً استعداده للعب دور الوسيط بين الطرفين.

وفي هذا السياق، يمكن فهم تعيين توم باراك سفيراً جديداً للولايات المتحدة لدى تركيا. فباراك، المعروف بعلاقته الوثيقة مع ترامب، تم منحه صلاحيات استثنائية تامة، في إشارة واضحة إلى الأهمية التي يوليها البيت الأبيض للعلاقات مع أنقرة في هذه المرحلة الحرجة.

المهام المطلوبة من السفير الجديد، كما كشفت مصادر مطلعة، تتمحور حول ثلاثة ملفات استراتيجية رئيسية: تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين، تنسيق المواقف بشأن الملفات الإقليمية الساخنة، وإعادة تموضع تركيا كشريك استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة.

في خضم التنافس الإقليمي المحتدم، تبرز تركيا كقوة تاريخية مضادة للنفوذين الإيراني والروسي في المنطقة. وهنا، أجد أن الإرث العثماني يشكل أحد أهم أوراق أنقرة في هذه المواجهة الاستراتيجية. ان تركيا تستثمر في الذاكرة التاريخية للشعوب العربية التي عاشت تحت الحكم العثماني لقرون وعلى الرغم من الصورة السلبية التي روجتها بعض التيارات القومية العربية عن الحقبة العثمانية، فإن هناك شرائح من التيار الديني يمثله تنظيم الاخوان المسلمين المصنف إرهابيا في العديد من الدول العربية الذي يروج للنظر بإيجابية إلى تلك الفترة، خاصة في ظل الفوضى والتفكك الذي أعقب اتفاقية سايكس-بيكو.

كذلك تسعى تركيا كونها الوريث الشرعي للخلافة العثمانية لاستثمار المشاركة في إدارة "مستعمراتها العربية القديمة" - كما يسميها بعض المحللين الغربيين - بما يحقق الاستقرار ويمنع ظهور فراغات أمنية يمكن أن تستغلها الجماعات المتطرفة. وهنا تبرز أهمية الإرث العثماني والتأثير الثقافي التركي في هذه المناطق.

فيما التعاون في مجال الطاقة هو ملف الاستراتيجي اخر مهم، خاصة التنقيب عن النفط الصخري في تركيا والغاز في شرق المتوسط. وتشير تقارير اقتصادية إلى أن شركات النفط الأمريكية، وخاصة تلك المقربة من ترامب، تتطلع إلى الاستثمار في قطاع النفط الصخري التركي، مستفيدة من خبرتها الطويلة في هذا المجال، وكذلك الاستفادة من البترول والغاز في سوريا، وإمكانية دخول تركيا والمشاركة في مشروع خط أنابيب الغاز 'East Med' وهو مشروع خط أنابيب غاز طبيعي مخطط له لنقل الغاز الطبيعي من حقول شرق البحر المتوسط (خاصة من إسرائيل وقبرص) إلى أوروبا عبر اليونان وإيطاليا. المشروع ليس تركياً، بل هو مشروع تعاون بين إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا، وقد تم تصميمه في الأصل لتجاوز تركيا.

مؤخراً، مع التحول في سياق الغزل السياسي بين ترامب واردغان، هناك إشارات إلى إمكانية مشاركة تركيا في المشروع أو تعديله ليمر عبر الأراضي التركية، مما قد يكون أكثر جدوى اقتصادية.

ويأتي الملف الاستراتيجي الخاص وهو تجنب الصدام مع حلفاء واشنطن في المنطقة، وعلى رأسهم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ودولة إسرائيل.

في هذا السياق، يمكن فهم التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الذي كشف عن وجود محادثات "فنية" مع إسرائيل لخفض التوتر في سوريا. "لا نريد مواجهة مع إسرائيل في سوريا"، هكذا قال فيدان بوضوح لا لبس فيه، مضيفاً أن تركيا "لا تنوي الدخول في صراع مع أي دولة في سوريا". في تطور دراماتيكي لهذه الاحداث ويؤكد فرضية البراغماتية التركية الخفية، عقدت تركيا وإسرائيل يوم الأربعاء 10 أبريل 2025 أول اجتماع رسمي بينهما في أذربيجان لإنشاء خط لمنع التصادم العسكري (deconfliction line) بين البلدين في سوريا. وقد أكد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي هذا الاجتماع يوم الخميس 11 أبريل 2025.

وذكرت مصادر تركية أن المحادثات الفنية في أذربيجان تمثل بداية الجهود لإنشاء قناة اتصال لتجنب الاشتباكات المحتملة بين القوات التركية والإسرائيلية في سوريا. وقد جاء هذا الاجتماع بعد تصاعد التوتر بين البلدين على خلفية قصف إسرائيل لقواعد جوية سورية كانت تركيا تعتزم نشر قوات فيها.

هذا الاجتماع يمثل تناقضاً صارخاً مع الخطاب العلني للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي لطالما وجه انتقادات لاذعة لدولة إسرائيل. ويؤكد هذا التطور الجديد الازدواجية في السياسة التركية: خطاب شعبوي معادٍ لدولة إسرائيل للاستهلاك المحلي والإقليمي، وتعاون عملي وبراغماتي مع تل أبيب تحت الطاولة.

بلا شك ففي اعتقادي فإن هذا الاجتماع ليس مفاجئاً للمطلعين على كواليس السياسة التركية. فأردوغان، رغم خطابه الناري ضد دولة إسرائيل، يدرك أهمية الحفاظ على قنوات اتصال معها، خاصة في ظل المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة.

بلا شك هذه التصريحات، التي تتناقض ظاهرياً مع الخطاب الناري لأردوغان، تعكس الوجه الحقيقي للسياسة التركية: البراغماتية فوق كل اعتبار.

المستفيد الأكبر من هذه المعادلة هو ترامب، الذي سيحقق مكاسب اقتصادية وسياسية كبيرة. فمن جهة، ستستفيد الشركات الأمريكية المقربة منه من صفقات النفط والغاز في تركيا وسوريا. ومن جهة أخرى، سيتمكن من تقديم نفسه للناخب الأمريكي كرئيس قادر على تحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط دون تدخل عسكري مباشر. أما أردوغان، فسيحصل على دعم أمريكي سياسي واقتصادي يساعده على تجاوز أزمته الداخلية، وسيعزز موقفه كلاعب إقليمي رئيسي.

بلاشك الخاسر الأكبر في هذه المعادلة هم الشعوب العربية البلهاء والمضحوك عليها في "المستعمرات العثمانية القديمة"، والتي ستجد نفسها مرة أخرى ضحية للعبة المصالح الدولية، ولا عزاء للمطالبين بإعادة استعمار الخلافة العثمانية للمزارع العربية القديمة.

وفي النهاية، ما نشهده اليوم هو إعادة رسم لخريطة النفوذ في الشرق الأوسط، بقيادة ثنائي براغماتي: ترامب الذي يبحث عن صفقات تجارية مربحة، وأردوغان الذي يسعى للبقاء في السلطة وتعزيز نفوذه الإقليمي. وفي خضم هذه اللعبة الكبرى، تبقى الشعارات والمبادئ مجرد أدوات للاستهلاك الإعلامي، بينما تُصنع السياسة الحقيقية في الغرف المغلقة، على أساس المصالح لا القيم.