تلعب الهوية الوطنية دوراً عميقاً ومعقداً في تشكيل الوعي الجماعي للمواطنين، وتُساهم في تعزيز الانتماء الوطني، لا سيما في البلدان التي يشكل التنوع الديني والطائفي والعرقي سمة مميزة للمجتمع، كبلاد الشام مثالاً.

يعود هذا لطبيعة الهوية وطبيعة النظام السياسي ولشمولية أو حصرية الرواية الوطنية، فتعمل الهوية على سدّ الفجوات أو تعزيز الانقسامات بين مختلف المجموعات مثل السنة والعلويين والمسيحيين، والدروز والكرد وغيرهم. من هنا، فقد أدى واقع الاستبداد السياسي والطائفية والفساد في هذه البلدان إلى خلق أزمة هوية، حيث طغت الانتماءات القبلية والطائفية والإقليمية على الولاء للدولة، وفُقِدت الثقة في المؤسسات الوطنية.

فالهوية متشابكة بشكل عميق مع النسيج الأخلاقي للمجتمع، وأكثر ما يعمل على تآكل هذا النسيج بشكل منهجي هو الطغيان السياسي بأشكاله المتعددة (رشوة، فساد، محسوبيات). ورغم أنّ الهوية تتطور وتتغير، فإن استعادة الهوية ليست بالمهمة السهلة، لا سيما بعد الاستبداد السياسي من جهة، ومن جهة أخرى حيث تم ربطها بالقومية العربية والإسلام فيما يسمّى "العروبة"، ما جعل هذه الرواية تبدو حصرية أو حتى قمعية، سيما أنها لا تعكس بشكل كافٍ تطلعات جميع المواطنين من غير العرب. فما هي العروبة؟

في جوهرها، تدور العروبة حول تراث ثقافي ولغوي مشترك. وكما يوحّد مفهوم "الفرنكوفونية" الأشخاص الذين يتحدثون الفرنسية، يمكن للعروبة أن تعمل كمظلة تربط بين جميع الشعوب الناطقة بالعربية. من سوريا إلى المغرب، ومن مصر إلى العراق وباقي البلدان، الأشخاص الذين يتحدثون العربية متنوعون بقدر تنوع تاريخهم ولغاتهم وأديانهم والمناظر الطبيعية التي يسكنونها. وقد يتماهى السوريون مع جذورهم الآرامية السريانية، واللبنانيون مع تراثهم الفينيقي، والمصريون مع تراثهم القبطي القديم، والعراقيون مع تراثهم الآشوري، والكرد مع تراثهم الكردي، والمغربيون مع تراثهم الأمازيغي، وكل هؤلاء ليسوا عرباً ولم يكونوا مسلمين سابقاً.

فالعروبة، عندما نفهمها باعتبارها فضاءً ثقافياً، هي شيء جميل وجامع وموحِّد. لكن، عندما تتحول العروبة من كونها مفهوماً ثقافياً إلى إيديولوجية سياسية، وخاصةً تلك التي تدعو إلى إقامة دولة قومية عربية، فإنها تصبح أكثر إشكالية. القومية العربية، التي اكتسبت زخماً في القرن العشرين، هي مشروع سياسي يسعى إلى توحيد جميع الشعوب الناطقة بالعربية تحت راية واحدة من الهوية العربية، الإسلامية الأوسع. وعلى السطح، يبدو هذا وكأنه هدف نبيل: وحدة عربية قومية قائمة على اللغة والجغرافيا المشتركة. لكن في العمق، فإنَّ التطبيق العملي لهذه القومية كان في كثير من الأحيان إقصائياً ومُفرّقاً ونتائجه كارثية، كتهميش المجتمعات غير العربية وغير المسلمة وأولئك الذين لا يتناسبون بشكل محدد مع قالب الهوية اللغوية أو الثقافية العربية والإسلامية.

إذن، عندما نتحدث عن العروبة، من الضروري التمييز بين دورها كفضاء ثقافي ولغوي جامع للشعوب التي تتكلم اللغة العربية وبين طموحاتها الفاشلة كإيديولوجية سياسية ودينية يتم استخدامها كأساس للهوية السياسية والقومية والمواطنة. فتصبح إشكالية غالباً ما تكون حصرية ومفرقية واختزالية.

حزب البعث والاستثمار السياسي للعروبة
تاريخياً، كان صعود حزب البعث في سوريا مثلاً بمثابة نقطة تحول حاسمة في العلاقة بين الهوية السورية والعروبة. فقد صاغ البعثيون رؤية إيديولوجية للعروبة، والتي لم تسعَ فقط إلى تعزيز العالم العربي ككيان ثقافي وسياسي، بل ربطت هذه الرؤية أيضاً بقوة الدولة بشكل مباشر، مما أدى فعلياً إلى تهميش الأقليات العرقية والدينية المتنوعة في البلاد. أيضاً، ارتبطت العروبة بالإسلام ديناً وتاريخاً وهويةً، وتمّ تهميش تاريخ سوريا الممتد لآلاف السنين مقابل تعويم قصص العرب والإسلام في كافة المؤسسات التعليمية والإعلامية وفي الخطاب السياسي الرسمي والشعبي، واعتبار الفقه الإسلامي مصدر التشريع في الدستور. هذه سقطة في صميم الهوية، فعلاقة الدين بالدولة لها أثر على القضية الهوياتية والانتماء والمواطنة والحقوق والسياسة والاقتصاد، حيث لا يجب أن يكون للدولة دين.

إقرأ أيضاً: ضوء على العلمانية

في الخطاب القومي العربي، يُنظَر إلى العالم العربي غالباً باعتباره مرادفاً للعالم الإسلامي، بالرغم من وجود مجتمعات مسيحية وعلوية ويزيدية ودرزية وإسماعيلية وغيرها من المجتمعات الدينية في المنطقة، وإثنيات مختلفة مثل الكرد والأرمن والتركمان وغيرهم. فضلاً عن صعود التطرف الإسلامي وعودة الحركات القومية والطائفية والحروب التي كشفت عن الانقسامات بين الشعب الواحد، سيما بعد إرث من الاستعمار والتدخلات الخارجية وأكثر من نصف قرن من الصراع العربي الإسرائيلي. كلها عوامل أكدت فشل المشروع القومي العربي وأنتجت هويةً مشوَّشة.

هذه مفارقة القومية العربية والإسلامية، فهي ربما تبدأ بقصد التوحيد، ولكنها في الممارسة العملية تنتهي إلى الانقسام. فالهوية أو القومية القائمة على العرق واللغة والدين هي نموذج فاشل ومشروع تطهير وإقصاء وحروب. تاريخياً، استُخدمت مثل هذه الهويات في كثير من الأحيان لتبرير الاستبعاد والاضطهاد وتهميش المجتمعات المتنوعة. ويمكن لهذا النوع من القومية أن ينزلق بسهولة إلى الاستبداد، حيث تدّعي الدولة الحق في تحديد من ينتمي ومن لا ينتمي بناءً على معايير صارمة تستبعد الأشخاص الذين عاشوا في المنطقة لقرون.

إقرأ أيضاً: "الصراع، المسار التاريخي للتطوّر"

من جهة أخرى، وعلى الرغم من فرض العروبة كهوية موحدة في مختلف أنحاء المنطقة، فإن الأنظمة السياسية الحاكمة كثيراً ما استَخدمت العروبة في المقام الأول كأداة محلية لتعزيز السلطة وتعبئة المشاعر الشعبية، في حين انحرفت استراتيجياً عن التزاماتها الإيديولوجية في سياساتها الخارجية. ففي سوريا على سبيل المثال، بينما تم الترويج للعروبة باعتبارها حجر الزاوية للهوية الوطنية، فإن تحالفات النظام مع إيران وروسيا ــ وليس مع الدول العربية الأخرى ــ تؤكد على التحول الپراجماتي نحو المصالح الجيوسياسية على حساب التضامن الإقليمي، أو تحالف معارضيه مع تركيا.

وتنعكس هذه المفارقة في بلدان أخرى كالعراق، حيث تم استقطاب العروبة على نحو مماثل كإيديولوجية سياسية، إلا أن التحالفات الخارجية تجاوزت في كثير من الأحيان الانتماءات الإقليمية. حيث أقامت العديد من الأنظمة علاقات على أساس المخاوف الطائفية أو الدينية أو الوطنية الپراجماتية. وفي الخليج أيضاً، بينما ظلت العروبة بمثابة أداة إيديولوجية بارزة، تحوّل التركيز غالباً بين الهوية الدينية الإسلامية والهوية الوطنية، حيث تتحالف هذه البلدان بشكل متزايد مع القوى العالمية لتأمين المزايا الاستراتيجية. ويكشف هذا التفاعل المعقد بين الالتزام الإيديولوجي بالعروبة والسعي الپراجماتي إلى التحالفات الأجنبية عن فجوة بين سياسات الهوية والواقع الجيوسياسي في العالم العربي.

إقرأ أيضاً: طموحات إيران وإسرائيل وما وراء البُعد الفلسطيني

مع هذا، فإنّ صياغة جديدة للواقع العربي يمكن أن تكون مفيدة وتعمل على لم شمل دولاً تشترك في مخزون عميق من القواسم المشتركة اللغوية والثقافية والاقتصادية التي يمكن أن تعزّز التعاون والاستقرار كدول متجاورة ناطقة باللغة العربية رغم تنوع تاريخها ونظمها السياسية وهوياتها المحلية. من هنا، يمكن لرؤية جديدة للعروبة، حاضنة وتحترم الهويات المتنوعة للشعوب، بإنشاء مساحة ثقافية ولغوية حيث يتم الاحتفاء بالتنوع وليس قمعه. هذه هي العروبة القادرة حقاً على توحيد الناس - ليس من خلال التوحيد القسري، ولكن من خلال التفاهم والإدماج والاعتراف المتبادل. ويمكن لمثل هذه الوحدة المتجذرة في الپراجماتية والاحترام المتبادل للتنوع أن تعمل كقوة موازنة قوية للتأثيرات الخارجية وتساهم في تحقيق السلام والتقدم في المنطقة، حيث تحمل أهمية استراتيجية وثقافية عميقة تتجاوز إيديولوجيات القومية العربية أو فرض هوية عربية واحدة واستثمارها.

ختاماً، إنَّ إعادة بناء الهوية الوطنية تتطلب التحول بعيداً عن السياسة القائمة على الطائفية والدينية واللغوية نحو هوية وطنية مدنية، وهي الهوية التي تتجاوز الانقسامات وتركّز على الصالح العام لجميع المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم المتنوعة. إن رؤية الدولة الديمقراطية العَلمانية تُقدّم المسار الوحيد نحو بناء مستقبل يعكس التنوع الحقيقي للبلاد بهوية وطنية متطورة تتبنى هوية المواطنة والاشتراك بالحياة والحداثة وتتخلّص من الهويات المكتسبة.