لم تمر الدول العربية بتجارب حكم انتقالية ديمقراطية عبر تاريخها الحديث والقديم، وكانت كل التجارب والحقب تنتهي بفشل ديمقراطي يُكلَّل بتتويج الحاكم الملهم وإعادة حكم العسكر والتيارات الدينية، وجهه الآخر والداعم التاريخي له، وبالتالي، لم تُراكِم هذه الدول خبرات إلاّ كيف تَقمع الشعوب وتبني السجون والمعتقلات وترفع شمّاعة الإرهاب الديني-الموجود حقيقةً والمتواطئ معها، بالإضافة إلى عدو خارجي مُتعدّد متآمر متواجد في كل مكان، وهمي أو حقيقي، ما نتجَ أنّ هذه الأنظمة غير ناضجة سياسياً وإدارياً ولم تحمل أي مشروع نهضوي حقيقي للبلاد والشعوب، ما أدّى أيضاً لنتائج كارثية ثقافية على الشعوب التي كانت مُنتَج هذه الأنظمة الديكتاتورية ثقافياً وسياسياً ومعرفياً أيضاً.

فمن نتائج القمع والديكتاتوريات بكل أشكالها السياسية والدينية، أنّ الديكتاتوريات كانت تُعوّم نفسَها شعبياً، وتُؤسّس لثقافة حاضنة لها تُفضي بأنّ الشعوب غير ناضجة ولا تستطيع حكم نفسَها بنفسِها وبالتالي هي تحتاج دائماً لمن يقودها/يقمعها، فتُعيق بهذا عملية النضج السياسي والثقافي لها وللشعوب، وتؤثّر على نشأة الشخصية الفردية في المجتمع والفكر النقدي، ما نتج عن هذا تقبُّل الكثير من الشعوب للديكتاتوريات في "مراحل معينة" وللتبعية، ولسعي الشعوب لخلق قائد لها حتى ولو كان إلهاً من ورق.

لكن، هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنّ هذه الشعوب غير مهيّئة إطلاقاً للتطور وللديموقراطية أو لخوض تجارب سياسية إدارية معرفية، ولا تستطيع كشخص، كفريق، أو كحاكم بإسم الوطن أو بإسم الله لوم الشعوب بعدم نضجها وكل ما تفعلُه هو قمع هذه الشعوب، كما لا تستطيع إقناع الشعوب بنهضة لا تُؤسِّس لها، هذا وليس مفهوماً أيضاً بالمنطق السياسي رفض وتشويه لثورة وثورات لا ولم تؤسِّس لها يوماً، وكل ما تفعلُه هو سدّ الأبواب في وجه مَن يؤسِّس لنهضة من أجل التطوير مُتذرِّعاً بالحفاظ على الأمن القومي للدولة، هذا ومفهوم "الدولة" في ظل هذه الديكتاتوريات غير واضح تماماً، حيث لا يوجد دول بمعنى الدول في الشرق، بل هناك أنظمة تملك دولاً وشعوباً أيضاً، والأمن القومي فيها يعني أمن السلطة السياسية وليس الأمن العام أو تحقيق شروط السلام من عدالة اجتماعية وتحسين جودة الحياة أو رفع مستوى التعليم والصحة والقانون. وحتى المواقف السياسية الخارجية لهذه الدول من الدول الأخرى تقوم على مصلحة وأمن السلطة السياسية أيضاً، أي مصلحة الحاكم شخصياً وليس مصلحة البلد ولا الشعوب طبعاً التي ليست بحساب الأنظمة أصلاً.

من هنا، فحرب الشعوب تختلف عن حرب الأنظمة، حرب الشعوب من أجل حرياتها مكلفة، مستنزِفة، وطريقها صراع طويل، والثورات عموماً إكراه مكلف جداً للجميع ولكل الوطن وليست خياراً آمناً للشعوب لكنها في مرحلة ما مسار حتمي للتطور. فالتطور التاريخي لأي مجتمع هو عملية تراكم لنهضات وثورات فكرية وسياسية واقتصادية كانت انفجاراً في أوقاتها وتمّ التأسيس لها من قِبَل تنويريين كما حصل في عصر التنوير في أوروپا بعد حروب وتجارب طويلة. فلكل عصر تنويريوه، ولكل زمان فلاسفته ومساره النضالي نحو التطور رغم التاريخ الدموي لكل الأمم والشعوب، ولا ننسى أنّ الكثير من الفلاسفة لم يكونوا نِتاج مجتمعات الحداثة لكنهم أسَّسوا لها وفتحوا أبواب المعرفة ومفاهيم كالعدالة والحرية وأهمّها كسر قيد القمع والترهيب المتمثّل بالدين والسياسة، وجهان الديكتاتورية القديمة الحديثة.

إذاً، تحتاج الدولة والعملية الانتقالية الديمقراطية للنضج السياسي، ولكن هذا لا يتحقّق بالاستمرار بلوم الشعوب لعدم نضجها وهي ما زالت محكومة سياسياً بهذا الشكل، فهذا يُعطي ذريعةً دائمةً للديكتاتوريات التي هي السبب بكل هذا ويساهم بتعويم ثقافة القمع والديكتاتورية والابتعاد عن خوض تجارب تُشكّل هذا النضج السياسي المطلوب، ولا ننسى أنّ فشل الدولة في تحقيق المشروع الديمقراطي وعدم التأسيس لنهضة فكرية سيُنتِج فشلاً تلو الآخر، وسينعكس هذا على الشعوب بالتقوقع السياسي الفكري الثقافي وبسحق أي مشروع نهضوي للبلاد، ما قد تكون نتائجه كارثية على تطور المجتمع عموماً.

إنّنا اليوم في أوائل خطوات النهضة التي قد تبدو بعيدة، لكن لا بدّ من الصراع-طريق التغيير وديدنه، مسار الأمم والشعوب نحو تطوّرها. مسار قد يطول أو يقصر، يتخلّله الكثير من الفجوات والسقطات، لكنها تجارب مهمة لتراكم خبرات تُفيد هذا المسار من أجل التغيير السياسي (القابل لهذا) في أي مكان، على خلاف الديني الذي يكرز للخوف والتبعية في جوهره. ولا ننسى، الحرية استحقاق إنساني تاريخي وليست ترفاً سياسياً ولا بدعةً إيديولوجيةً؛ إنها جوهر كل الصراعات على الأرض كانت وستبقى ما بقي الإنسان واستدامت الحياة.