يرمز الصراع بين إسرائيل وإيران إلى صراع أوسع نطاقاً على السلطة والنفوذ في الشرق الأوسط، ويعكس التوترات الإيديولوجية والجيوسياسية العميقة الجذور على حساب القضية المختلَف عليها وهي القضية الفلسطينية، مما يجعلها واحدة من أكثر الصراعات تعقيداً في الشرق الأوسط.
بدايةً، لا بد وإعادة توضيح أنَّ القضية الفلسطينية كانت وما تزال تُشكّل قضية محورية في المشهد الجيوسياسي للقرن الحادي والعشرين، وكثيراً ما توصف بأنها قضية مركزية في السياسة الإقليمية والعالمية، وبأنها صراع من أجل تقرير المصير والهوية الوطنية، لأنها قضية عادلة محقة لشعب تهجّر من أرضه. ويعكس تصنيفها باعتبارها "قضية مركزية" إلى جانب معاناة الشعب الفلسطيني، التداعيات العميقة والبعيدة المدى التي تحملها على الاستقرار الإقليمي والعلاقات الدولية. وقد كانت موضوع العديد من قرارات الأمم المتحدة ومناقشات مجلس الأمن، ولعبت دوراً محورياً في تشكيل الأجندات السياسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ولا يعمل هذا الصراع المستمر على تأجيج التوترات داخل الشرق الأوسط فحسب، بل يتردد صداه أيضاً عبر القنوات الدبلوماسية العالمية، مما يؤثر على قرارات السياسة والجهود الإنسانية في جميع أنحاء العالم.
فالقضية الفلسطينية لا تؤثّر على الفلسطينيين فقط، بل إنَّ طبيعة الصراع لوجود إسرائيل في فلسطين يقوّض بشكل كبير الاستقرار والتنمية في مختلف أنحاء منطقة بلاد الشام، كما يساهم في حلقة من العنف والانتقام معزِّزاً بيئة ناضجة للصراع المستمر، وفي كل مرة يتم فيها إخضاع حركة مقاومة، تظهر أخرى لملء الفراغ، ما يؤدي إلى إدامة حلقة من الخلاف الذي يخنق التقدم في المنطقة. وتظهر جماعات مثل فتح والمقاومة الوطنية وغيرهما كردود فعل على الظلم، أو حماس وحزب الله كحركات تحرير مفترضة بمشروع ديني متشدد لتلبية طموحات إيرانية، مما يوضح كيف يعمل الوجود الإسرائيلي ليس فقط كمحفِّز للمقاومة المسلحة، مع الطموح الإيراني، ولكن أيضاً كحاجز للسلام والتنمية، مما يؤثر على الدول والمجتمعات المجاورة.
من هنا، يمكن فهم ما يجري اليوم كامتداد للدور الإسرائيلي ومنافسه الإيراني على المنطقة، حيث تحوّلت دول المنطقة رهناً للتنافسات المعقدة وتقاطع الطموحات الإسرائيلية والإيرانية على حدٍّ سواء. فبعد الحرب الأهلية في لبنان، نما النفوذ الإيراني، وخاصةً من خلال دعم إيران لحزب الله الذي سمح لطهران بممارسة نفوذ كبير على السياسة والأمن اللبنانيين، مما أعطى إيران القوة المشروعة، فحدث أنْ أصبحت إيران في لبنان بمثابة دولة داخل دولة، وكاد ليقترب هذا السيناريو أن يتكرّر في سوريا، ما حوّل الوجود الإيراني في المنطقة إلى كابوس حقيقي لا يقلّ عن الكابوس الإسرائيلي، وقد برز نفوذ إيران وسيطرتها على العديد من العواصم العربية كقضية جيوسياسية بالغة الأهمية. فقد نجحت إيران في إنشاء شبكة من الفصائل المتحالفة في مختلف أنحاء المنطقة، بما في ذلك العراق ولبنان وسوريا واليمن، ولا تعمل هذه الهيمنة الاستراتيجية على تقويض سيادة هذه الدول فحسب، بل إنها تعمل أيضاً على تعقيد الاستقرار الإقليمي وديناميكيات الأمن. وقد أدى تفاعل الهيمنة الإيرانية مع الحكم المحلي إلى تعزيز التوترات الطائفية وإدامة الصراعات، وتحويل الانتباه والموارد بعيداً عن القضايا الإنسانية المُلحة، بما في ذلك النضالات المستمرة للشعب الفلسطيني ومعاناة الداخل اللبناني والسوري والعراقي أيضاً.
إلاّ أنّ العامل الحاسم في أزمات هذه الدول كسوريا ولبنان وحتى العراق هو الافتقار إلى القيادة الوطنية الفعّالة وغياب المشروع الوطني سيما في ظل الواقع الثقافي العربي المجزّأ. ففي بلاد الشام، قلب الثقافة العربية، أدى فقدان الهوية الوطنية الموحدة إلى تحديات عميقة، وبمساهمة قادتها، فقد خلقت الانقسامات العرقية والدينية والسياسية بيئة تزدهر فيها الطائفية، وغالباً ما تطغى الولاءات المحلية على السرد العربي الجماعي. ولم يعوق هذا التشرذم التقدم الداخلي فحسب، بل خلق أيضاً فراغاً استغلّته قوى خارجية مثل إسرائيل وإيران وتركيا ودول أخرى كروسيا وأميركا. فالخطوات الخاطئة التي نراها في المواجهات الإقليمية هي أعراض لهذا الداء الثقافي الذي يمثّل عائقاً كبيراً أمام الوحدة والتقدم.
وفي النتيجة، وبسبب غياب القيادات الوطنية ونتيجة لأنظمتها، نرى أنَّ سوريا ولبنان والعراق مثلاً تحولت إلى منطقة تهيمن عليها العصابات المسلحة والميليشيات الطائفية، وقد أدى هذا التحول، الذي غذّته تدفقات الفصائل الأجنبية وانتشار الأسلحة، إلى انتشار العنف والنزوح وفقدان الأرواح بين سكانها. كما أدى تآكل عملية صنع القرار السيادي والإصلاح السياسي والحكم الديمقراطي إلى تفاقم التدهور الثقافي والفني والاجتماعي والاقتصادي بعودة الطائفية والعنصرية المتجذرة بعمق في المظالم التاريخية، مما أدى إلى مزيد من تفتيت المجتمع. من هنا، فإنَّ استعادة الهوية الوطنية المتماسكة لهذه الدول ليست مجرد ضرورة ثقافية، بل إنها خطوة حاسمة نحو استعادة القدرة على التصرف في مواجهة الضغوط الخارجية والصراعات الداخلية.
إقرأ أيضاً: النقلة النوعية في الخليج
من ناحية أخرى، وبالعودة إلى إسرائيل وإيران، هناك مَن يبسّط الصراع بين إسرائيل وإيران على أنه معركة بين الخير والشر بغض النظر مَن يمثّل ماذا، أو صراع بين الحداثة والعصور القديمة أو بدوافع دينية، وفي حين أن كلا البلدين لديهما سرديات تاريخية ودينية عميقة متجذرة في التقاليد الإبراهيمية، فإنَّ الصراع الحالي بينهما مدفوع في المقام الأول بعوامل جيوسياسية واستراتيجية وليس بعوامل دينية بحتة، والمسألة تتجاوز ثنائية الحداثة والقدامة. وفي حين يتم استخدام الخطاب الديني أحياناً لتبرير الإجراءات على كلا الجانبين، فإنه غالباً ما يعمل كغطاء للنزاعات السياسية والإقليمية الأساسية. فالسردية الدينية يتم استثمارها لأغراض سياسية من كلا الطرفين كقدوم اليهود لفلسطين على أساس وعد إلهي ديني نتج عنه صراع دموي لأكثر من سبعة عقود سواء اختلفت سردية وجودهم السابق أو لا، أو كالإسلام السياسي الشيعي أو السني الذي أعاد المجتمعات الشرقية إلى عصور ما قبل الحداثة. من هنا، فقد تكون من إحدى نتائج هذا الصراع هو سقوط الإسلام السياسي الشيعي متمثِّلاً بولاية الفقيه، وهو حاجة ماسة لأمان وتقدّم هذه المجتمعات سيما بعد بدء تراجع الإسلام السني. فإيران تستعمل الدين عبر مشروع الهلال الشيعي لتكون قوة مهيمنة على المنطقة، وتحاول إشعال الحروب عبر وكلائها في الأراضي اللبنانية والفلسطينية وسوريا والعراق ولا يهمها إن دُمِّرت هذه الدول.
إقرأ أيضاً: ضوء على العلمانية
كل هذه أسباب ومعوّقات وأيضاً أعراض جانبية للصراع الأساسي وهو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي أدخل المنطقة في دوامة حروب ومستثمِرين في هذا الصراع لتحقيق مشاريع إقليمية ومصالح شخصية وسياسية. إنَّ حل هذه الصراعات المتشابكة يتطلب معالجة الأسباب الجذرية بما في ذلك محنة الفلسطينيين بحل الدولتين ضمن دولة إنسانية موحدة، وبأن تكون طبيعة المواجهة قرار الفلسطينيين وليس قرار إيران أو دول أخرى. أيضاً، إبعاد الصراع الإسرائيلي الإيراني عن دول المنطقة وفكّ ارتباطها بإيران وإخراجها منها لحفظ أمنها وسلامها، بالإضافة لحلّ كابوس الإسلام السياسي ومشكلة الديكتاتوريات، وبالضرورة تحقيق العدالة والحريات لتعزيز الاستقرار الدائم في الشرق الأوسط.
التعليقات