في فيديوهات انتشرت حديثًا، ادعاءات مثيرة من قبيل أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى إطالة عمر الإنسان وأنه سيجعل الإنسان متقدمًا أو متخلفًا جينيًا (وراثيًا) وبأنه يمكن أن يتفوق ويسيطر على الإنسان ويدير حياته. في هذا السياق، سأحاول هنا الإجابة على السؤال الذي طرحته في العنوان حول دور الذكاء الاصطناعي في حياة الإنسان وتقدمه التكنولوجي وعلى إمكانيته التي قد تتفوق على الذكاء الطبيعي. مع أنه من الضروري أن نفهم أن الذكاء الاصطناعي هو فعل جماعي ومشارك، حيث يعتمد على تفاعل العديد من الأنظمة والخوارزميات لتحقيق أهدافه. في المقابل، يعتبر الذكاء الطبيعي كعملية فردية وشخصية، حيث يعتمد على القدرات العقلية لشخص واحد. لذلك، لا يمكننا مقارنة الاثنين بشكل مباشر، لأن كلاً منهما يعمل في إطار مختلف ويعتمد على آليات مختلفة لتحقيق النتائج. فعلى سبيل المثال، يعمل نموذج اللغة الكبير في الذكاء الاصطناعي بناءً على نظرية الاحتمالات لتوليد النصوص، باستخدام الأساليب الإحصائية بدلاً من العمليات الإدراكية أو الفهم عند الإنسان.

لا شك أنَّ الذكاء الاصطناعي قد أحدث ثورة هائلة في مختلف المجالات، بما في ذلك العلوم الأساسية. فمن خلال أدواته المتطورة، يمكننا تحليل كميات هائلة من البيانات، وفهم الظواهر الطبيعية بشكل أفضل، وتطوير نظريات علمية جديدة. ولكن، هل حقًا يعد الذكاء الاصطناعي "مولدًا" للابتكارات؟ أم أنه مجرد أداة تساهم في تسريع ظهورها؟ هنا أحاول أن أوضح طبيعة الذكاء الاصطناعي ودوره في تسريع الابتكار والاكتشاف، مع التأكيد بأنه من دون فهم للعمليات والظواهر الطبيعية لن يكون للذكاء الاصطناعي دور في التقدم التكنولوجي في العلوم، خصوصًا البيولوجية والفيزيائية والطبية منها.

تسريع الابتكارات:
لا شك في أن الذكاء الاصطناعي يلعب دورًا هامًا في تسريع الابتكارات في العلوم الأساسية، ويحدث هذا من خلال:

تحليل كميات هائلة من البيانات: تعد البيانات أساس العمل العلمي، لكن تحليل كميات هائلة من البيانات قد يكون صعبًا للغاية على البشر. هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي، حيث يمكنه تحليل هذه البيانات بسرعة وكفاءة، واكتشاف الأنماط المخفية التي قد لا نتمكن من رؤيتها. في مجال الطب كمثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات التصوير الطبي مثل الأشعة السينية والرنين المغناطيسي، مما يساعد الأطباء على تشخيص الأمراض بشكل أكثر دقة وسرعة.

فهم الظواهر الطبيعية بشكل أفضل: يمكن للذكاء الاصطناعي بناء نماذج محاكاة للظواهر الطبيعية، مما يسمح لنا بفهمها بشكل أفضل. في مجال الفيزياء كمثال، يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاة سلوك الجسيمات دون الذرية، مما يساعدنا على فهم قوانين الفيزياء بشكل أفضل.

تطوير نظريات علمية جديدة: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل البيانات العلمية ولربما توليد فرضيات جديدة بالتعاون مع البشر. كما يمكنه المساعدة في اختبار هذه الفرضيات وتطوير نظريات علمية جديدة. ومن الأمثلة على دوره في مجال الكيمياء، يمكن للذكاء الاصطناعي تصميم مواد جديدة ذات خصائص محددة، مما يساعدنا على تطوير أدوية جديدة وعلاجات جديدة.

أمثلة على إنجازات العلوم الأساسية بدعم الذكاء الاصطناعي:
العلوم الطبية: بالإضافة إلى تشخيص الأمراض من خلال تحليل الصور الطبية مثل الأشعة السينية والرنين المغناطيسي بشكل أكثر دقة وسرعة، يستخدم الذكاء الاصطناعي أيضًا في تصميم وتطوير أدوية وعلاجات جديدة. علاوة على ذلك، يدعم الذكاء الاصطناعي الطب الشخصي من خلال تحليل البيانات الجينية للمرضى لتطوير علاجات مخصصة لكل فرد.

العلوم الهندسية: يستخدم الذكاء الاصطناعي في تصميم مواد جديدة ذات خصائص محددة، مثل مواد خفيفة الوزن وقوية في نفس الوقت، وكذلك في تصميم روبوتات أكثر ذكاءً وقدرة على التكيف مع البيئة المحيطة. كذلك، يسهم الذكاء الاصطناعي في تصميم أنظمة طاقة أكثر كفاءة واستدامة.

العلوم الزراعية: يستخدم الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الزراعية لتحسين الإنتاجية وتقليل استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة، وكذلك في اكتشاف الآفات والأمراض النباتية في وقت مبكر ومكافحتها. كما يساعد الذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد المائية والتربة بشكل أكثر كفاءة.

هل يمكن للذكاء الاصطناعي ابتكار أفكار علمية جديدة؟
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا هامًا في ابتكار أفكار علمية جديدة، ولكن من المهم التأكيد على أنه أداة قوية تساعد العلماء والباحثين، ولا يمكنه أن يحل محلهم، بل يمكن بالتعامل مع الإنسان أن يفتح آفاقًا جديدة ويؤدي إلى ابتكارات ونظريات علمية رائدة. الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة وكفاءة، مما يمكن الباحثين على سبيل المثال من فهم الآليات التي تتحكم بالعمر والألغاز البيولوجية بشكل أسرع. ومع ذلك، فإن العمل العلمي الحقيقي ينجزه البشر، فهم الذين يصممون التجارب ويحللون البيانات ويطورون النظريات. بمعنى آخر، يمكن تشبيه دور الذكاء الاصطناعي في العلوم الأساسية بدور الممثل الذي يجسد النص ويوصل رسالته إلى الجمهور، لكنه لا يمكنه ادعاء أنه هو من كتب المسرحية. لذا من هنا تكمن إجابتي على الادعاءات بإمكانية الذكاء الاصطناعي في إطالة عمر الإنسان في أن الذكاء الاصطناعي قد يسهم في تسريع وتيرة الاكتشافات العلمية، لكنه لا يستطيع بمفرده إطالة عمر البشر، هذا الإنجاز يتطلب فهمًا عميقًا وآليات معقدة لا يزال البشر هم المفتاح لفك شفراتها.

من المهم أن ندرك أن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه:
فهم السياق العلمي: لا يمكن للذكاء الاصطناعي فهم السياق العلمي للبيانات والنظريات، مما يعني أنه لا يستطيع تطوير نظريات علمية بصورة مستقلة، ولا يمكنه تقييم أهمية الاكتشافات العلمية أو تفسير نتائجها بشكل كامل.

طرح أسئلة علمية جديدة: لا يمكن للذكاء الاصطناعي طرح أسئلة علمية جديدة، بل يمكنه فقط تحليل البيانات والإجابة على الأسئلة التي يطرحها البشر.

تطوير نظريات علمية جديدة: لا يمكن للذكاء الاصطناعي تطوير نظريات علمية جديدة، بل يمكنه فقط تحليل البيانات واختبار الفرضيات.

العلوم الأساسية هي الأساس:
لا ينبغي أن نقلل من دور العلوم الأساسية في الابتكارات التي يسهم فيها الذكاء الاصطناعي. فالعلم الأساسي هو الذي يوفر الأسس النظرية والتجارب التي تبنى عليها التطبيقات العملية. وبدون الفهم العميق الذي توفره العلوم الأساسية، لن يكون لدينا الإطار النظري الذي يمكننا من تطوير تقنيات جديدة أو تحسين التقنيات الحالية. العلوم الأساسية تعنى بفهم الظواهر الطبيعية والقوانين التي تحكمها، وهذا الفهم هو الذي يمكننا من تطبيق الذكاء الاصطناعي بطرق مبتكرة وفعالة. فمثلًا، في مجال الطب، يعتمد تطوير تقنيات التشخيص والعلاج على الفهم الأساسي لبيولوجيا الإنسان والأمراض. وفي مجال الفيزياء، تعتبر النظريات الأساسية حول سلوك الجسيمات والقوى الطبيعية هي الأساس لتطوير تقنيات جديدة في مجالات مثل الطاقة والمواد. لذلك، يجب أن ندرك أن الابتكارات التي يسهم فيها الذكاء الاصطناعي تعتمد بشكل كبير على الأسس التي توفرها العلوم الأساسية. بدون هذه الأسس، لن يكون لدينا البنية التحتية المعرفية التي تمكننا من تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي.

التحديات:
بالرغم من الفوائد الكبيرة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي للعلوم الأساسية، إلا أنه يواجه بعض التحديات، منها:

البيانات المتحيزة: قد تكون البيانات التي يستخدمها الذكاء الاصطناعي متحيزة، مما قد يؤدي إلى نتائج خاطئة.

قلة الشفافية: قد تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي معقدة وصعبة الفهم، مما قد يقلل من ثقة الباحثين فيها.

المخاوف الأخلاقية: قد تثير بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي مخاوف أخلاقية، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي في الأسلحة ذاتية التشغيل.

في الختام، مع أنه يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا أكبر في إحداث الابتكارات في العلوم الأساسية، فإنه يجب أن نكون واعين للدور الأساسي الذي يلعبه الفهم البشري. من المهم أن نعتبر الذكاء الاصطناعي أداة تسهم في تعزيز الإبداع والابتكار، ولكن يجب أن نبقى حذرين بشأن كيفية استخدامه ومتى نكون مستعدين لقبول تحدياته.


* أعرب عن شكري لصديقي الدكتور علي الشرباز، الأستاذ في جامعة كمبردج في بريطانيا، على ملاحظاته القيمة التي أغنت المقال