تتوالى الأزمات كما تتساقط أمطار الشتاء وتشتد عواصفه هذه الأيام، إلا أن هذه الأزمات تتزايد وتنقسم إلى خلايا جديدة وفقًا لمناهج العلم؛ مما يجعلها تتشكَّل في أشكال مختلفة وأكثر تعقيدًا من انقسام الخلايا. هذا الانقسام يُشبه الفساد في العراق، الذي لوَّث الحياة والقيَم، وأسفر عن مشكلات معقّدة، حيث أصبح الفساد ثقافةً وسلوكًا اجتماعيًّا مقبولًا في المجتمع؛ إذ انتقل من كونه حديثًا مسكوتًا عنه إلى حالة من الإكراه، ثم استقر الآن في مجال المُباح العلني.
أصبح الفساد في العراق كفيروس معدٍ ينتشر كالأرَضة، فلم يسلم منه أحد. لقد تحوَّل إلى ثقافة مقبولة، وتفشّى بسرعة مُذهلة تُشبه نيازك السماء التي تتساقط حجارتها على الأرض. لم يعُد هناك استثناء للمسؤولين الكبار في السلطة، ولا لبائعي الخضروات واللحوم من هذا الفيروس القاتل الذي حوَّل حياتَنا إلى نهبٍ مُمَنهج، وسلطة جديدة تفوق كل السلطات.
الفساد العراقي إمبراطورية مُترامية الأطراف، تتعدد رؤوسه وأبعاده، حتى بات منظّماً ومُمَنهجاً. وقد تحوّل إلى شبكة أكبر من شبكة الصرف الصحي في لندن، وأعمق من بحر الصين! ينتشر في بيئة تتميز بضعف القوانين وقلة الرقابة، حيث يكثر اللصوص وتقلّ الضمائر الشريفة.
يُخطئ مَن يعتقد أن الفساد ليس له فاعل معلوم، فلدينا قوائم عديدة تضم ملفات الفاسدين التي تملأ خزائن المحاكم وهيئات النزاهة، لكن المعركة غابت عنها السجون، ورائحة البارود، ولعلعة الرصاص. أصبح الفساد واضحًا ومكشوفًا، وفتح أبواب جديدة وجبهات مختلفة، حيث يختبئ تحت واجهات جديدة؛ مثل: المولات والمطاعم والملاهي والجامعات والعقارات والأملاك.
إن الهوس بشراء العقارات في المناطق الراقية بأسعار تتجاوز قيمتها الحقيقية، يُعد أحد مظاهر الفساد التي أصبحت ظاهرة واضحة في الحياة العراقية، كما أن بناء المجمَّعات السكنية أصبح رمزًا للتفاخر الوطني والاعتزاز بالإنجازات (الوطنية)، رغم أنها تُمثّل تهديدًا للفقراء والموظفين والمتقاعدين، وتُعد صديقةً لأصحاب الأموال المسروقة وأثرياء الصدفة الذين كانوا حفاة الماضي.
أصبحت هذه المجمّعات تتحدث بالأرقام العالية، رغم أن الأموال المسروقة، والأراضي التي تُشيَّد عليها الشقق والفيلات، هي من أملاك الشعب. ومع ذلك، اجتمع سُرَّاق السلطة ومافيات الصفقات متوافقين (وطنيًّا) على تقسيم "الكيكة" ونهب ما تبقَّى من فُتات المواطن الفقير، الذي سُرقت أيضًا حصته التموينية، وأدويته من المستشفيات، ومعاشه (المتواضع)، وهويته الوطنية.
إنَّ أموال المجمَّعات ليست من جهد المستثمر وتضحياته ولا من حكمته الاقتصادية؛ بل إنها صناعةٌ جديدة بامتياز، لأشخاص استولَوْا على خزائن الوطن تحت ما يُسمّى بالتوافق الوطني (الشريف)، معتمدين على تدوير الأموال وتبييضها؛ لإضفاء الشرعية القانونية عليها من أجل التغطية والتمويه.
نسمع عن دولة العدالة والقانون، ومع ذلك تُسرق أراضي المواطن البغدادي ومتنزَّهاته ومطاراته ومعسكراته العسكرية المُلغاة، وتُمنح مجانًا للمستثمرين غير الشرعيين ليبني لنا مشاريع بملايين الدولارات، مُحققًا أرباحًا مرتفعة تصل إلى 300 بالمئة، وهي نسبة لا تتناسب مع قدرة أصحاب الدخل المتوسط وفوق المتوسط. بينما يعيش المواطن العراقي صاحب الأرض في مناطق عشوائية، يسكنها قُرابة أربعة ملايين شخص؛ حيث تنخفض فيها معايير العيش اللائق، أو يعيش في بيوت مُؤَجَّرة تستنزف نصفَ راتبه!
وحسب إحصائيات وزارة التخطيط، يُعاني العراق من أزمة سكنية حقيقية، حيث يحتاج إلى خمسة ملايين وحدة سكنية. ورغم ذلك، لا تزال وتيرة بناء الشقق السكنية للمواطنين ذوي الدخل المحدود تسير ببطء شديد، حيث تُواجه العديد من العوائق والتحديات.
إقرأ أيضاً: حارس اللغة...ذهب ولم يعد!
وفي الجهة المقابلة، تتدفق ملايين الدولارات إلى المشاريع الفاخرة المخصَّصة للأثرياء؛ لأنها تدرّ عائدات ضخمة تُستغل من قِبَل السياسيين؛ إذ تُستخدم هذه الأموال في نشاطات الأحزاب وبرامجها السياسية، أو تُهرّب إلى الخارج بوسائل وأساليب مالية ومصرفية مُضلّلة.
وتُعَد الجامعات الأهلية التي تنشأ لتزاحم مطاعم الكباب والمندي والشاورما والفلافل اللبنانية، واحدةً من مظاهر غسيل الأموال، حيث تُقدّم وجباتٍ معدَّلة تُسبب تصلُّبَ شرايين العقل. وغالباً ما تكون هذه الجامعات نتاجَ أموالٍ محرَّمة وخزائنَ مسروقة، هدفها الحقيقي هو تبييض الأموال، وقتل العلم، وفساد قِيَم التفكير والثقافة في صفوف الأجيال، وذلك من أجل إصدار شهادات تُعاني من فقر العلم ونقصٍ في بروتين الابتكار.
إقرأ أيضاً: دكتوراه مجهولة النسب
وما يُخفى عن الجامعات هو أكثر فتكاً وخطورة؛ حيث تتم الصفقات والرشاوى بملايين الدولارات في مراحل التأسيس واستحداث البرامج الأكاديمية. بالمقابل تدور معارك شرسة بين الأحزاب والمافيات السياسية للاستحواذ على حصصٍ من هذه الجامعات باستخدام القوة والتهديد والوعيد!
الأخطر، عندما تكون الدولة الفاسدة هي المعلم الأول لصغار الفاسدين. وعندما يصبح المجتمع مُستعدًا لتقبُّل جيفة الفساد ورائحتها (النتنة)، والتعامل معها كحقيقة واقعة ومسلَّم بها، حيث يتحول الفساد إلى سلوكٍ يوميّ، ويُمسي الفساد دولة تحكُم الدولة الهُلامية؛ فيأكل الفساد كلَّ خلايا الدولة والمجتمع!
حاولت أن أكوِّنَ جملةً تتضمن فعلاً وفاعلاً لوصف حالة الوطن في ظل طوفان الفساد، ولم أجد بلاغة وصراحة تُعبر عن ذلك أفضل مما قاله محمود المشهداني، رئيس مجلس النواب الحالي، عندما صرح يومًا قائلًا: "نحن جئنا كمقاولين( تفليش)؛ لهدم الدولة العراقية!".
التعليقات