منذ الخروج السوري من لبنان عام 2005، يتبارى اللبنانيون، وعلى وجه الخصوص الطبقة السياسية المنبثقة بإرادة شعبية في الانتخابات، في إهدار الفرص لبناء الدولة، وكأنهم يستدعون عن قصد أو بغير قصد وصاية خارجية تنظم أمورهم وشؤون حياتهم.
تسعة عشر عاماً ونيف ولا تزال لؤلؤة الشرق الأوسط والبحر المتوسط تسلك مساراً شديد الانحدار وترتطم بالمطبات، دون أن يتمكن قادتها من التوقف لبرهة لإعادة النظر في الأمور وترتيب أولوياتهم، أو حتى النظر إلى تجارب الدول لتعلم كيفية بناء البلدان.
قبل أن يدخل القرار 1559 حيّز التنفيذ، كانت نظرة معظم اللبنانيين للوصاية السورية آنذاك بأنها تستنزف الثروات في بلاد الأرز وتمنع الرفاهية عن اللبنانيين، ومسؤولة عن العجز والمديونية، وتُمعن قهراً وبطشاً وتصادر القرار الوطني المستقل. وعلى هذا الأساس، تحركت الجموع نحو الساحات للتظاهر من أجل استعادة السيادة.
لكن الأعوام اللاحقة كشفت أن الوصاية، ولو كانت تتحمل جزءاً من مسؤولية سوء الأوضاع بفعل طريقة إدارتها للبنان واحتضان الطبقة السياسية الموجودة، إلا أن المسؤولية الأعظم تقع على اللبنانيين أنفسهم، الذين لا يريدون فعل أي شيء، وبالمقابل ينتظرون العالم لفعل كل شيء لهم، لاعتقادهم بأن كوكب الأرض يدور حول هذا البلد الصغير.
كان من المفترض أن يكون للبنان ثلاثة رؤساء جمهورية في الفترة الممتدة منذ عام 2007 إلى 2024، لكون ولاية الرئيس ست سنوات، مع التحضير لاستقبال رئيس رابع. لكن غياب النضوج السياسي وانتظار الرعاة الإقليميين والدوليين أهدر أكثر من خمس سنوات وأرهق البلد بسبب الفراغ. والأخطر كان طفو الكلام الطائفي عن مصادرة صلاحيات الرئاسة الأولى.
أما السلطة الثانية، فقد شهدت تغييب الانتخابات، حيث حل محلها التمديد تلو التمديد بين 2013 وحتى 2018، لأولئك المولجين بالسهر على انتظام الدستور واحترام الديمقراطية. كما أقفل مجلس النواب أبوابه لانتخاب رئيس للجمهورية حتى التاسع من كانون الثاني (يناير) 2025. وفي السلطة التنفيذية، كانت الأمور أسوأ، حيث إن تشكيل حكومة أصبح يحتاج دهراً، أولاً بفعل التناحر بين الأحزاب والطوائف، فالوزارات لم تعد تُعتبر منظماً لشؤون المواطنين بل مغانم. عشية تشكيل أي حكومة، تسهر الطوائف بأكملها لمعرفة “الجائزة” -الوزارة- التي سيحصلون عليها، سواء كانت سيادية أو خدماتية.
إقرأ أيضاً: ترامب سيغيّر الواقع اللبناني إلى الأبد.. حقاً؟
هذا على صعيد السلطات الثلاث. أما فيما يتعلق بالاتفاقات والقرارات الدولية، فتلك مشكلة كبرى. فمن الطائف إلى 1559 إلى 1701 بجزئه الأول، يتم التعاطي الرسمي والحزبي معها -الاتفاقات والقرارات- على أنها آلهة من تمر تؤكل أحياناً وتُعبد في أحيان أخرى، ودائماً بحسب المصلحة. بفعل تربعه على صدارة القرارات والاتفاقات الدولية، يشكل سلاح حزب الله معضلة كبرى. فقد دخل الحزب معركة الإسناد أواخر 2023 دون استئذان أحد، وخرج باتفاق وقف إطلاق نار يعلم عن بنوده أطراف في الحكومة اللبنانية بنفس مقدار المواطن اللبناني العادي. استمرارية حيازة الحزب لترسانته العسكرية تشكل مأزقاً بحد ذاته، والأدهى أن عدداً من مناوئيه ومعارضي تسلحه يعارضون في قرارة أنفسهم تسليمه السلاح لأنه يخدمهم في الأوساط الطائفية، بحيث يجري دائماً التخويف منه لغايات انتخابية.
إقرأ أيضاً: أخطر بنود وقف الحرب بين إسرائيل وحزب الله
مع دخول وقف إطلاق النار الأخير حيّز التنفيذ، وسط مؤشرات تدل بأن العين ستكون مفتوحة هذه المرة لضمان التنفيذ وعدم التسويف والمماطلة، يبرز السؤال الكبير: من سيشرف على ضمان عدم خرق البنود؟ فالجيش يأتمر بقرار سياسي حكومي، والحكومة شبه غائبة وتعتبر أنها حققت إنجازاً إذا تمكنت من عقد جلسة عادية. فهل نحن أمام موعد مع وصاية جديدة؟ ومن سيكون الوصي؟ حتى النظام السوري الذي تمرس في إدارة الشؤون اللبنانية يمر بفترة داخلية حرجة.
التعليقات