لا نزمع تحت هذا العنوان اقتراح حل عبقري لأزمة ارتفاع أسعار البترول، فنستبدل به مثلاً البرسيم، جرياً على نهج استخراج الإيثانول من الحبوب، فذلك توجه علمي، يحول المادة الخام البدائية وهي الزيوت النباتية، إلى مادة صالحة لتكون وقوداً لمحركات العصر الراهن، لكننا نتحدث في تلك السطور عمن يصرون -سواء بدافع من العجز العقلي والعلمي، أو بدافع من الأصالة والتمسك بالتراث والخصوصية والهوية الكريمة النادرة- على التمسك بالبرسيم والأعلاف، لتكون وقوداً لمحركات عصرنا الراهن، كما كانت غذاء للدواب، أي وقوداً لآلات نقل الأجداد في عصورهم السعيدة الماضية.
نقصد بالوقود والسيارات الإشارة إلى دور الفكر والثقافة، الذي يناظر الوقود، وفعاليات المجتمع وأنشطته المختلفة، التي تناظر السيارات والمحركات والآلات، فالتناظر تام بين وسائل نقل وحركة قديمة قوامها الدواب ووقودها الأعلاف، وبين الأفكار القديمة لتلك العصور، والتي حكمت ووجهت أنشطتها، ونفس هذا يقال عن الفكر الجديد، الذي تحتاجه حضارتنا وأنشطتنا المعاصرة، كما تحتاج وسائل نقلنا ومحركاتنا الحديثة إلى وقود يتناسب معها، بداية من بنزين السيارات، وحتى وقود الطائرات والصواريخ.
إذا كنا معنيين أساساً بمنطقة الشرق الكبير، وفي القلب منها مصر المحروسة أم الدنيا، فسنجد أن نزار قباني قد شخص الحالة بما قل ودل من كلمات حين قال:
خلاصة القضية توجز في عبارة
قد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية
هذه الحالة التي شخصها نزار قباني ساخراً وناقماً، نظر لها الراحل د. زكي نجيب محمود نظرة إيجابية، بل بشر بها ودعا إليها، في سياق دعوته التي سماها المزج بين الأصالة والمعاصر، وكان هذا المزج يتحقق في نظره عن طريق استيراد قوالب أو الهياكل المادية للحضارة المعاصرة من الغرب، لنملأها أو نسيرها بأفكارنا العتيقة، والتي ينسب إليها الأصالة، بالطبع لم ينتبه الرجل إلى أن ما يدعو إليه يؤدي إلى هذه الحالة الكاريكاتورية الممسوخة، لكن هذا بالفعل هو ما انزلق إليه سياق فكره في المرحلة الأخيرة من عمره، تأثراً أو خضوعاً لما واكب تلك المرحلة من تصاعد لمد التيارات الفكرية الأصولية والسلفية، فكان أن تحول من داعية استنارة وتحديث، إلى منظر ومبرر لتيارات التخلف والأصولية، ليزين لها نهجها المعادي لروح العصر وفكره، في ذات الوقت الذي تضطر فيه إلى استخدام منتجات الحضارة المعاصرة، فكان أن أتى لها -عن وعي أولا وعي- بالحل والتبرير السعيد والرائع، وهو توظيف منتجات العصر وإدارة الشئون المعاصرة، بفكر وثقافة عصور بادت، لكنها عزيزة علينا، ولا نرغب أو نقوى على مغادرتها.
هكذا خذل د. زكي نجيب محمود دعاة الاستنارة والتحديث، وكانوا قد اعتبروه رائدهم، كما سبق وأن خذل رجل القانون عبد الرازق السنهوري دعاة الشرعية وسيادة القانون، بأن اختار أن يجعل من نفسه مبرراً لضباط حركة يوليو 1952، حين أفتى لهم بجواز تجاوز الشرعية القانونية، استناداً إلى ما تفتق عنه ذهنه من مفهوم جديد اخترعه، وهو الشرعية الثورية، والذي بمقتضاه يحق للثوار في فترة الثورة الاستناد إلى شرعية ثورتهم، والضرب بالقانون ndash;الذي أفنى السنهوري عمره في خدمته - عرض الحائط، فكان ما كان في مصر، وكانت النهاية المأساوية لحياة السنهوري على أيدي أحرار يوليو، مستندين إلى شرعيتهم الثورية، تلك التي زينها لهم الفقيد الذي اغتالوه بدم بارد!!
الحل المتمثل في التعامل مع منتجات العصر، بفكر وثقافة عصور مضت، هو ببساطة حل فاشل، فاستيراد التكنولوجيا بدون القيم والثقافة التي أنجبتها هو بمثابة زواج من جثة، وممارسة أنشطة وإدارة مؤسسات وعلاقات حديثة، بفكر وثقافة عصور مضت، بمثابة ملء خزان وقود سيارة بالبرسيم!!
فعندما ينبري أذيال وأشاوس نظام حكم فاسد ومستبد، لمواجهة انتقادات بتقارير منظمات دولية أو دول كبرى، لممارسات انتهاكات حقوق الإنسان، التي يرتكبها ذلك النظام في حق شعبه، مستخدمين في دفاعهم المبتذل شعارات ومفاهيم تنتمي لعصر مضى، مثل سيادة الدولة، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول وانتهاك سيادتها، غير مدركين أو متجاهلين، أن السيادة في عصرنا الحالي قد انتقلت من الدولة إلى الإنسان المواطن الفرد، الذي صار المحافظة على حقوقه وسيادته شأناً عالمياً، ولم يعد المواطن بعد فريسة، تفعل بها النظم الحاكمة ما تشاء، متسترة بشعارات السيادة والاستقلال، في نفس الوقت الذي تملأ فيه أشداقها بدعاوى الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة، فيما الرسالة الخالدة في مفهوم هؤلاء القادة الملهمين والضرورة، أن تكون الأمة كلها فداء لهم، وتحت نعال أقدامهم الغليظة، ورهينة سجونهم الوطنية المستقلة الرهيبة.
وعندما تدخل دولنا عصر التكتلات الاقتصادية والسياسية، دون أن تفارق فكر القبيلة، الذي يعقد تحالفاته على أساس الانتماء العرقي أو الديني، أي تحالف بين ذوات، تربطها أواصر الدم أو الدين، في حين أن تحالفات العصر الراهن تقوم على أساس توافق الأطراف على مجموعة من العلاقات المشتركة، لإدارة شئون عملية محددة، بطريقة تفضي لنتائج مرغوبة أو في صالح الجميع.... هي رؤية مختلفة تماماً، وتمثل الفارق الجذري بين التكتل الأوروبي، وتكتلات مثل تكتل الدول الإسلامية، أو الجامعة العربية، أو حتى الاتحاد الإفريقي، الذي لا يستند إلا للانتماء الجغرافي إلى القارة، مع اختلاف بين بل وشاسع بين الأطراف في كل ما عدا ذلك.. ومشكلة النهج القبلي ليست فقط في عدم جدواه العملية، بل في أنه يعجز أو يسبب لنا العجز عن التعامل الصحيح مع العناصر المشتركة الحقيقية بين بعض -وربما كل- أطراف مثل تلك التكتلات المتخلفة والوهمية.
فالنهج العنصري في التكتل ربما كان صالحاً لعصر حرب البسوس، لكن تكتلات هذا العصر تلزمها نوعية جد مختلفة من الروابط، سواء في علاقاتها الداخلية بين أطرافها، أو في علاقاتها الخارجية مع سائر التكتلات والدول من حولها، فعلاقات العصر منبتة الصلة بالعرق الواحد والدين الواحد أو حتى الرقعة الجغرافية الواحدة، لأنها تقوم على المشترك المادي الممكن، وعلى المشترك الثقافي، لكنه ليس ذلك المشترك الثقافي التراثي، وإنما الثقافة المعاصرة والمناسبة لنوعية العلاقات في الألفية الثالثة.
وعندما تدخل مصر، التي نحب نحن المصريين أن ننسب لها الريادة والقيادة، إلى عصر الاقتصاد الحر والسوق الحرة، ويظل جزءاً من رموز الحكم، بالإضافة إلى جهاز الدولة البيروقراطي، ناهيك عن جحافل المثقفين والمتثاقفين وأحزاب المعارضة بكل أطيافها المفترضة، يظل كل هؤلاء أسرى مفاهيم منتهية الصلاحية، من زمن الدولة الشمولية والاقتصاد المركزي، ينظرون لرجال الأعمال كمجرمين ومصاصي دماء، مرددين شعارات ومفاهيم عتيقة، لا تعبر أو تصلح لفهم الواقع، مثل عدالة توزيع الدخل القومي، وتقريب الفوارق بين الدخول، وكأن الدخل القومي الآن مجرد دخل ريعي، مثلما هو الحال في إمارات البترول، وليس دخلاً ناتجاً عن جهد وفكر، يتقاسم الجميع عوائده، ليس على أساس التساوي أو حتى التناظر في نصيب كل فرد من الكعكة الوطنية، وإنما على أساس حق كل فرد في الحصول على عائد ما بذل في تحقيق ما تحقق من إنجاز، لتأخذ العدالة هنا مفهوماً بعيداً عن مفهوم المساواة أو تقليل الفوارق، فتقتصر على توفير الحد الأدني للمعيشة الكريمة لكل من يعمل ويبذل جهداً، بالإضافة إلى العدالة في توفير تكافؤ للفرص، يتيح لكل من يريد العمل أن يعمل، ومن يريد المرور أن يمر، وليس إعاقة القادر على العمل والمرور، حتى لا يتسع الفارق بينه وبين العاجز أو الكسول.
يتحدث هؤلاء الأشاوس أيضاً عن الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي، في عصر صار فيه مثل ما يدعون إليه عقوبة عالمية، ينزلها المجتمع الدولي بالدول المارقة ونظم الحكم الداعمة للإرهاب، إذ يتركونها تدبر أمورها لنفسها بنفسها، حارمين إياها من مزايا التعاون الدولي بجميع جوانبه.
يدَّعون أنه يجري إفقار الفقراء لصالح اغتناء الأغنياء، وكأننا بإزاء لعبة مجموع صفري، ما يحققه طرف يكون على حساب الطرف الآخر، وهي القواعد التي تحكم مجتمعات البداوة، التي تحترف الإغارة والسلب والنهب، في حين أننا في عصر الإنتاج الصناعي والمعرفي، الذي يتنافس فيه الجميع وفق قواعد أخرى، يمكن أن تسمح بتفوق الجميع على أنفسهم، رغم تفوق البعض النسبي، كما يؤدي سعي البعض أو القلة لتحقيق طموحاتهم الكبيرة، إلى مساعدة آخرين وقيادتهم نحو النجاح، فإنجازات العصر لا يمكن أن تكون فردية، إذ يرتبط نجاح الفرد بنجاح مجتمعه بكامله، بل ويرتبط بالنجاح العالمي بصفة عامة، وهذا ما نعايشه يومياً بتأثر الجميع بفشل اقتصادي هنا أو هناك في أقصى أطراف العالم!!
ليس أمام شعوبنا البائسة بمثقفيها وصفوتها إلا أن تختار، بين أن تعتنق فكر العصر ومفاهيمه، وبين أن تصر على تسيير السيارة بالبرسيم، فتظل على الهامش، تتخبط في الظلمات والفقر، وتحترف الإرهاب تنفيساً عما يعتمل في صدورها من غل.
[email protected]
نقصد بالوقود والسيارات الإشارة إلى دور الفكر والثقافة، الذي يناظر الوقود، وفعاليات المجتمع وأنشطته المختلفة، التي تناظر السيارات والمحركات والآلات، فالتناظر تام بين وسائل نقل وحركة قديمة قوامها الدواب ووقودها الأعلاف، وبين الأفكار القديمة لتلك العصور، والتي حكمت ووجهت أنشطتها، ونفس هذا يقال عن الفكر الجديد، الذي تحتاجه حضارتنا وأنشطتنا المعاصرة، كما تحتاج وسائل نقلنا ومحركاتنا الحديثة إلى وقود يتناسب معها، بداية من بنزين السيارات، وحتى وقود الطائرات والصواريخ.
إذا كنا معنيين أساساً بمنطقة الشرق الكبير، وفي القلب منها مصر المحروسة أم الدنيا، فسنجد أن نزار قباني قد شخص الحالة بما قل ودل من كلمات حين قال:
خلاصة القضية توجز في عبارة
قد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية
هذه الحالة التي شخصها نزار قباني ساخراً وناقماً، نظر لها الراحل د. زكي نجيب محمود نظرة إيجابية، بل بشر بها ودعا إليها، في سياق دعوته التي سماها المزج بين الأصالة والمعاصر، وكان هذا المزج يتحقق في نظره عن طريق استيراد قوالب أو الهياكل المادية للحضارة المعاصرة من الغرب، لنملأها أو نسيرها بأفكارنا العتيقة، والتي ينسب إليها الأصالة، بالطبع لم ينتبه الرجل إلى أن ما يدعو إليه يؤدي إلى هذه الحالة الكاريكاتورية الممسوخة، لكن هذا بالفعل هو ما انزلق إليه سياق فكره في المرحلة الأخيرة من عمره، تأثراً أو خضوعاً لما واكب تلك المرحلة من تصاعد لمد التيارات الفكرية الأصولية والسلفية، فكان أن تحول من داعية استنارة وتحديث، إلى منظر ومبرر لتيارات التخلف والأصولية، ليزين لها نهجها المعادي لروح العصر وفكره، في ذات الوقت الذي تضطر فيه إلى استخدام منتجات الحضارة المعاصرة، فكان أن أتى لها -عن وعي أولا وعي- بالحل والتبرير السعيد والرائع، وهو توظيف منتجات العصر وإدارة الشئون المعاصرة، بفكر وثقافة عصور بادت، لكنها عزيزة علينا، ولا نرغب أو نقوى على مغادرتها.
هكذا خذل د. زكي نجيب محمود دعاة الاستنارة والتحديث، وكانوا قد اعتبروه رائدهم، كما سبق وأن خذل رجل القانون عبد الرازق السنهوري دعاة الشرعية وسيادة القانون، بأن اختار أن يجعل من نفسه مبرراً لضباط حركة يوليو 1952، حين أفتى لهم بجواز تجاوز الشرعية القانونية، استناداً إلى ما تفتق عنه ذهنه من مفهوم جديد اخترعه، وهو الشرعية الثورية، والذي بمقتضاه يحق للثوار في فترة الثورة الاستناد إلى شرعية ثورتهم، والضرب بالقانون ndash;الذي أفنى السنهوري عمره في خدمته - عرض الحائط، فكان ما كان في مصر، وكانت النهاية المأساوية لحياة السنهوري على أيدي أحرار يوليو، مستندين إلى شرعيتهم الثورية، تلك التي زينها لهم الفقيد الذي اغتالوه بدم بارد!!
الحل المتمثل في التعامل مع منتجات العصر، بفكر وثقافة عصور مضت، هو ببساطة حل فاشل، فاستيراد التكنولوجيا بدون القيم والثقافة التي أنجبتها هو بمثابة زواج من جثة، وممارسة أنشطة وإدارة مؤسسات وعلاقات حديثة، بفكر وثقافة عصور مضت، بمثابة ملء خزان وقود سيارة بالبرسيم!!
فعندما ينبري أذيال وأشاوس نظام حكم فاسد ومستبد، لمواجهة انتقادات بتقارير منظمات دولية أو دول كبرى، لممارسات انتهاكات حقوق الإنسان، التي يرتكبها ذلك النظام في حق شعبه، مستخدمين في دفاعهم المبتذل شعارات ومفاهيم تنتمي لعصر مضى، مثل سيادة الدولة، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول وانتهاك سيادتها، غير مدركين أو متجاهلين، أن السيادة في عصرنا الحالي قد انتقلت من الدولة إلى الإنسان المواطن الفرد، الذي صار المحافظة على حقوقه وسيادته شأناً عالمياً، ولم يعد المواطن بعد فريسة، تفعل بها النظم الحاكمة ما تشاء، متسترة بشعارات السيادة والاستقلال، في نفس الوقت الذي تملأ فيه أشداقها بدعاوى الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة، فيما الرسالة الخالدة في مفهوم هؤلاء القادة الملهمين والضرورة، أن تكون الأمة كلها فداء لهم، وتحت نعال أقدامهم الغليظة، ورهينة سجونهم الوطنية المستقلة الرهيبة.
وعندما تدخل دولنا عصر التكتلات الاقتصادية والسياسية، دون أن تفارق فكر القبيلة، الذي يعقد تحالفاته على أساس الانتماء العرقي أو الديني، أي تحالف بين ذوات، تربطها أواصر الدم أو الدين، في حين أن تحالفات العصر الراهن تقوم على أساس توافق الأطراف على مجموعة من العلاقات المشتركة، لإدارة شئون عملية محددة، بطريقة تفضي لنتائج مرغوبة أو في صالح الجميع.... هي رؤية مختلفة تماماً، وتمثل الفارق الجذري بين التكتل الأوروبي، وتكتلات مثل تكتل الدول الإسلامية، أو الجامعة العربية، أو حتى الاتحاد الإفريقي، الذي لا يستند إلا للانتماء الجغرافي إلى القارة، مع اختلاف بين بل وشاسع بين الأطراف في كل ما عدا ذلك.. ومشكلة النهج القبلي ليست فقط في عدم جدواه العملية، بل في أنه يعجز أو يسبب لنا العجز عن التعامل الصحيح مع العناصر المشتركة الحقيقية بين بعض -وربما كل- أطراف مثل تلك التكتلات المتخلفة والوهمية.
فالنهج العنصري في التكتل ربما كان صالحاً لعصر حرب البسوس، لكن تكتلات هذا العصر تلزمها نوعية جد مختلفة من الروابط، سواء في علاقاتها الداخلية بين أطرافها، أو في علاقاتها الخارجية مع سائر التكتلات والدول من حولها، فعلاقات العصر منبتة الصلة بالعرق الواحد والدين الواحد أو حتى الرقعة الجغرافية الواحدة، لأنها تقوم على المشترك المادي الممكن، وعلى المشترك الثقافي، لكنه ليس ذلك المشترك الثقافي التراثي، وإنما الثقافة المعاصرة والمناسبة لنوعية العلاقات في الألفية الثالثة.
وعندما تدخل مصر، التي نحب نحن المصريين أن ننسب لها الريادة والقيادة، إلى عصر الاقتصاد الحر والسوق الحرة، ويظل جزءاً من رموز الحكم، بالإضافة إلى جهاز الدولة البيروقراطي، ناهيك عن جحافل المثقفين والمتثاقفين وأحزاب المعارضة بكل أطيافها المفترضة، يظل كل هؤلاء أسرى مفاهيم منتهية الصلاحية، من زمن الدولة الشمولية والاقتصاد المركزي، ينظرون لرجال الأعمال كمجرمين ومصاصي دماء، مرددين شعارات ومفاهيم عتيقة، لا تعبر أو تصلح لفهم الواقع، مثل عدالة توزيع الدخل القومي، وتقريب الفوارق بين الدخول، وكأن الدخل القومي الآن مجرد دخل ريعي، مثلما هو الحال في إمارات البترول، وليس دخلاً ناتجاً عن جهد وفكر، يتقاسم الجميع عوائده، ليس على أساس التساوي أو حتى التناظر في نصيب كل فرد من الكعكة الوطنية، وإنما على أساس حق كل فرد في الحصول على عائد ما بذل في تحقيق ما تحقق من إنجاز، لتأخذ العدالة هنا مفهوماً بعيداً عن مفهوم المساواة أو تقليل الفوارق، فتقتصر على توفير الحد الأدني للمعيشة الكريمة لكل من يعمل ويبذل جهداً، بالإضافة إلى العدالة في توفير تكافؤ للفرص، يتيح لكل من يريد العمل أن يعمل، ومن يريد المرور أن يمر، وليس إعاقة القادر على العمل والمرور، حتى لا يتسع الفارق بينه وبين العاجز أو الكسول.
يتحدث هؤلاء الأشاوس أيضاً عن الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي، في عصر صار فيه مثل ما يدعون إليه عقوبة عالمية، ينزلها المجتمع الدولي بالدول المارقة ونظم الحكم الداعمة للإرهاب، إذ يتركونها تدبر أمورها لنفسها بنفسها، حارمين إياها من مزايا التعاون الدولي بجميع جوانبه.
يدَّعون أنه يجري إفقار الفقراء لصالح اغتناء الأغنياء، وكأننا بإزاء لعبة مجموع صفري، ما يحققه طرف يكون على حساب الطرف الآخر، وهي القواعد التي تحكم مجتمعات البداوة، التي تحترف الإغارة والسلب والنهب، في حين أننا في عصر الإنتاج الصناعي والمعرفي، الذي يتنافس فيه الجميع وفق قواعد أخرى، يمكن أن تسمح بتفوق الجميع على أنفسهم، رغم تفوق البعض النسبي، كما يؤدي سعي البعض أو القلة لتحقيق طموحاتهم الكبيرة، إلى مساعدة آخرين وقيادتهم نحو النجاح، فإنجازات العصر لا يمكن أن تكون فردية، إذ يرتبط نجاح الفرد بنجاح مجتمعه بكامله، بل ويرتبط بالنجاح العالمي بصفة عامة، وهذا ما نعايشه يومياً بتأثر الجميع بفشل اقتصادي هنا أو هناك في أقصى أطراف العالم!!
ليس أمام شعوبنا البائسة بمثقفيها وصفوتها إلا أن تختار، بين أن تعتنق فكر العصر ومفاهيمه، وبين أن تصر على تسيير السيارة بالبرسيم، فتظل على الهامش، تتخبط في الظلمات والفقر، وتحترف الإرهاب تنفيساً عما يعتمل في صدورها من غل.
[email protected]
التعليقات