إذا وضعنا خطاب أوباما وخطوته في التقارب مع العالم الإسلامي على المحك والواقع المادي، فلن نجد تقريباً أي شيء يستحق الذكر. ومن أحبطوا بعد هذا الخطاب معذورون، حيث أن الخطاب لم يقدم أي جديد خصوصاً حيال القضية الأهم والتي كان يتشوّف لها الكثيرون، وهي قضية الصراع العربي الإسرائيلي. فقد كان منتظراً من هذا الخطاب أن يقدم شيئاً من التفصيل والتأسيس لخطوات حيالها، مما قد يولد لها نوعاً من التحفيز والحركة. فعلى سبيل المثال حين تكلم عن الدولة الفلسطينية لم يبين ماهي هذه الدولة هل هي حدود الــ67 أم ماذا ؟!! أمّا بقية النقاط في خطابه فكلها تقريباً معروفة مسبقاً، كمسألة التطرف أو الانسحاب من العراق وأفغانستان.
ولكن من جهة مقابلة، فأهمية هذا الخطاب ونقلته النوعية التي أحدثها تتجلى في الجانب المقابل للجانب المادي والواقعي، وهو الجانب الذهني والمتخيل. فزحزحة الصورة الصراعية السابقة وإحلال صورة جديدة يغلب عليها التفاهم والصداقة أمر جوهري في تاريخ هذا الصراع. خصوصاً إذا كنا نعرف أننا نرث أحقاباً طويلة من هذا الصراع والسجال. والجدل والاستثارة الدائرة التي صاحبت مجيء أوباما تُنبئ عن إمكانية تحقق مثل هذه الصورة، فما قدمه أوباما في خطوته للتقارب لابد أنها ستحفز وتستثير خطوات أخرى مماثلة في الطرف المقابل، حتى وإن كان الوضع الفعلي في عالمنا اليوم لا يختلف كثيرا عنه في فترة بوش الابن. وأن تتعامل مع أميركا كصديق أمر مختلف كلياً عن أن تتعامل معها كعدو. فالرؤية والمخيال السابق والسائد - وربما الحالي أيضاً- تتمثل برؤيتها كالعدو والشيطان الأكبر، ولهذه الرؤية تبريراتها المتعددة، واحتمال تجاوز هذه الرؤية والاستعلاء عليها لدينا، كما فعلت خطوة أوباما على الطرف الأميركي، له أن يولّد رؤية جديدة ونتائج جديدة، فكل رؤية تحمل معها نتائجها الخاصة. وتغيير الرؤية ومنطق النظر لا يعني في المقابل التبعية والتنازل للغرب، بقدر ما يعني خلق مساحات جديدة للضغط والتأثير عبر هذا المنطق الجديد الذي يعبر عن نفسه عبر الشراكة ووحدة المصير. وإذا كنا لانزال نريد أن نحتفظ بمخيلة الصراع والسجال، فلنا أن نعرف مما تحقق من نتائج سابقة أنها مخيلة وذهنية مثمرة في مجال الصراع نفسه، لكنها عقيمة في مجال الإنتاج. والنظر بمنطق الشراكة الاقتصادية والتعاون الثقافي مع الغرب وغيره سيجعلنا نذهب خطوات أبعد في تقوية أنفسنا مما يمثل أهم خطوة لنا في إيجاد العدل وحفظ الحقوق.
وأهمية الوجود الذهني والمتخيل تكمن في أنه هو من يمارس تعبيد الطرق وتسهيلها للأفكار لتحقق وجودها الفعلي على أرض الواقع. لقد قال أحدهم أن الحضارة بدأت حين بدأ أحدهم في التفلسف، وقال آخر أن (الفراغ) هو أبو الحضارة، فعندما توفر لدى الناس، استطاعوا من خلاله رسم ما يريدون من صور وخيالات ذهنية. ولولا وجود المثال المتخيل والأفضل في الذهن لما تحرك الإنسان وانجذب نحو تحقيق واقع آخر. وحتى عندما برزت الحضارة المعاصرة، نجد أن الفنون بعالمها (المتخيل) كانت الحافز الأكثر تأثيراً لسحب الناس تجاه أركانهم الحضارية الجديدة. فيقول فونتنيل مؤرخ عصر النهضة quot;عندما ابتدأت العلوم والصناعات تولد من جديد في أوروبا بعد فترة همجية طويلة، كانت الفصاحة والشعر والرسم وفن العمارة قد سبقتها. فكانت أول من خرج من الظلمات، وأما العلوم الرياضية والفيزيائية فلم تنهض إلا بعد قرن من نهوض الآداب والفنون.quot; كما ينقل عنه هاشم صالح في (مدخل إلى التنوير).
ولذا فالمخيال الجمعي لدى الأمم يكون ذا ثقل مركزي في التأثير عليها وعلى دربها وملامح شخصيتها، فهو في النهاية المفسر لأحوالها والمؤثر والجالب لظروفها. وفي دراسته (سيكولوجية الجماهير) يعلن المؤرخ غوستاف لوبون أن لاشيء يستطيع أن يقف ضد مخيلة الجماهير. وهذا شيء خطير فهذه القوة الشعبية إذن مستعدة لأن تنحو لأي جهة، وأن تكون الفاعلة فيها والمحدثة للنتائج. ولذا فاحتواء هذه المخيلة هو احتواء لكل شيء آخر. والحوار والتفاهم كان صعباً ومتعذراً لفترات طويلة بين الغرب والعالم الإسلامي لأنهما لا يتشاركان نفس المخيلة ويتفاوتان في المرحلة الفكرية التي يعيشها كل منهما، وتبعاً لذلك قد يتولد العداء والعزلة. ولذا فمسألة التقارب والتفهم هي حجر الزاوية في هذا الموضوع.
لقد ذكر باحث أميركي كيف أن أميركا قد ظنت منذ الستينات أنها تستطيع أن تفهم وتتعامل مع منطقة الشرق الأوسط من خلال مراكز الأبحاث والجامعات لديها، عبر ما سُمي بــ(الاستشراق الأميركي)، من غير أن تحاول أن تدرك وتتفهم المنطق الخاص والمختلف لدى هذه المنطقة. حتى حصل هذا الصدام العنيف مع مطلع الألفية الثالثة، والذي أدركت أميركا من خلاله أنها كانت ترى ما كانت تريد أن تراه وليس ما هو موجود فعلا. لقد تعاملت أميركا مع العرب بمنطق القوة والتمصلح الذي لم يحفظ لهم حق الاحترام والكرامة، وإذا أدركنا أهمية الرمزي والمتخيل لدى الذهن العربي سنعرف أن أميركا لم يكن لها أن تذهب خطوتين مع العرب في أي اتجاه بهذا المنطق. لقد كان للغة عند العرب ومنذ سالف أزمانهم دلالتها المتخيلة والرمزية القوية، فشطر بيت قد يخفض قبيلة وقد يرفع أخرى، وأفراد القبيلة وأملاكهم وعتادهم إنما هي أمور تابعة ولاحقة لمكانتهم المعنوية والرمزية.
وإذا كان التاريخ لدى الغرب قد ناسبه أن يُفسر على أساس طبقي مادي، فيصح لنا القول أنه تأسس لدينا على أساس رمزي ومعنوي. رغم أن البعض خصوصاً من اليساريين قد حاول تفسير التاريخ لدينا عبر جدلية مادية، كما فعل المؤرخ فيصل السامر حين كتب (ثورة الزنج) مبيناً أن هذه الثورة والتي هي من أوائل الثورات وأعنفها في عالم الإسلام ليست إلا quot;حرباً اجتماعية ذات طابع طبقيquot;، وأن صاحب الزنج قد اهتم بالمستوى المعاشي للزنج وجعله الوتر الحساس الذي يضرب عليه ببراعة فيُستجاب له. ولكن هذا التفسير وإن صدق على وقائع محددة فمن الصعب تعميمه، فالشواهد التاريخية لدينا تتكدس على الجانب الآخر، ومن يتأمل أيام العرب وحروبهم يدرك كيف كانت الأمور المعنوية هي أكثر ما يستثيرهم، فأغلبها قد اشتعل عبر إهانة للكرامات أو صراع بين المقامات. ويعترف الكاتب الأميركي توماس فريدمان في كتابه (العالم مسطح) أن موجة العنف ضد الولايات المتحدة من قبل البعض في العالم الإسلامي لم تنتج بسبب الافتقار إلى المال، وإنما من الافتقار إلى الكرامة. والبروفسور الياباني نوبواكي نوتوهارا عاش بين العرب لأكثر من ثلاثين سنة، أكل من طعامهم، وتحدث لغتهم، وتنقل عندهم بين البوادي والمدن. وقد ذكر في كتابه (العرب) أن الذي دفع اليابان للنهوض بعد صدمة الحرب كان عقدة (الدونية) عند الفرد الياباني، والتي دفعته للتفاني في العمل ونكران الذات. وعلى العكس من ذلك أفاد الألمان من عقدة (الاستعلاء) المتجذرة لدى الفرد الألماني. بينما يرى نوتوهارا أن العقدة الحافزة لدى العرب تتمثل في (الشرف والكرامة) بمعنى أن حياة العربي ومقاصده تتمحور حول هذه النقطة. فالعربي على حد تعبيره حساس جدا من هذه الناحية. وبالطبع الكرامة توجد لدى مختلف الأمم، لكن المحاور الوجودية للجموع قد تتفاوت في ترتيبها وأولويتها، فإن كان الغربي يجعل الحرية ركنه المتين، فالعربي يجعل ثقله يتركز في مسألة الكرامة، فبدونها لا يهنأ له عيش ولا معاش.
بين يدي الآن كتاب (تأسيس المجتمع تخيلياً) للفيلسوف والاجتماعي اليوناني كاستورياديس (1997-1922). وفي هذا الكتاب نجد المؤلف قد انقلب على التفسير الماركسي المادي للتاريخ والذي قد تبناه مسبقاً، حيث يرى أن المجتمع يصوغ نفسه عبر شبكة من الدلالات المتخيلة، وأن المجتمعات البشرية تُشكل مِخيالها الخاص، وتبني رؤيتها الخاصة التي تتفاوت من مجتمع لآخر. وبحسبه تكون المخيلة هي المنبع الأساس لمؤسسات المجتمع وأفكاره وإبداعاته، كما أن الإنسان لديه ليس بحيوان عاقل بقدر ما هو كائن متخيل. وهكذا نستطيع أن نقول أن مجتمع بائس يولد من مخيلة بائسة والمجتمع المبدع الخلاّق يولد من أخرى خلاقة. وربما يلاحظ البعض أني قد ماثلت في هذا المقال بين المخيلة والذهنية، وهذا يعود لتقاربهما وتقارب حاكميتهما وأثرهما على الواقع، فعند كاستورياديس حتى ما هو معقلن إنما هو عائد لإبداع المخيلة، فطغيان المتخيل على فعل الإنسان له كثافته التي قد تعقلن نفسها في أحيان كثيرة، كما يحدث حين يصبغ اللاشعور نفسه بالعقلانية. ولا نستطيع هكذا أن ندرك عالمنا حقيقة من غير أن ندرك هذه المنظومة المتخيلة التي تحوطه، والتي تمثل الشيفرة الذي نستطيع أن نتفاعل معه من خلالها، يقول كاستورياديس quot;إن كل ما يتبدى لنا في العالم الاجتماعي-التاريخي، منسوج نسجاً محكماً بالرمزي. فالأفعال الواقعية مثل العمل، الاستهلاك، الحرب، الحب، الولادة، والمنتجات المادية التي لا تحصى والتي من دونها قد لا يستطيع أي مجتمع العيش لحظة واحدة ليست رموزاً، ولكن تلك الأفعال الواقعية والمنتجات المادية مستحيلة خارج شبكة رمزيةquot;(ص167). وفي العموم مسألة المسافة والتأثيرات بين ما هو مادي وعقلاني ومتخيل مسألة معقدة لا يجليها حتى هذا الكتاب، لكن هذه مجرد الماحة لأهمية المتخيل والرمزي، وما يهمنا هنا هو أن ندرك أن المخيلة التي تتشكل لدى جماعة تتغير من فترة زمنية لأخرى، كما يبين كاستورياديس.
ان القفزة الذهنية قد لا تأتي متوافقة مع قفزة مماثلة في الجانب المادي، ولذا فتحقيق قفزات ذهنية والتحسس لتغير فكري قد يطرأ، ليس له أن يُترك إن لم تتبدى له بعض النتائج في الواقع، فالمرحلية الذهنية قد تستقل عن تلك الواقعية، ومن ثم لا تُحاكم إليها. لقد لاحظنا مراراً كيف أن المعادين للتغيير يفيدون دوماً من هذه النقطة، حين يحكمون على أي خطط واتجاهات نحو التغيير بالفشل حيث لا نتائج مشاهدة لها، مع أن هذه النتائج تكون محتاجة لمراحل أخرى حتى تظهر.
لاحظنا في الأيام الفائتة كيف أن كلمة رئيس تنظيم القاعدة جاءت متزامنة مع كلمة الرئيس أوباما، وكيف أنها أتت خافتة، لم يتنبه لها الكثيرون، وغير مجلجلة كما كانت في زمان سابق، حيث كانت الأنظار مصوبة نحو أوباما ومتمعنة في أفكاره. هنا نسأل مجدداً: هل استدارت المخيلة؟
التعليقات