ما حدث في قمة العشرين هو أن الرئيس أوباما كان مشدداً على ضخ المزيد من السيولة التي ستساعد على تحفيز الاقتصاد، وخلق المزيد من الفرص والوظائف. بينما ألمانيا وفرنسا كانتا تشددان على مسألة تنظيم السوق، حيث أن الأزمة إنما حصلت بسبب quot;غياب النظام عن التحكم في أنشطة الكثير من اللاعبين الماليين والأسواقquot; كما علق الرئيس الفرنسي ساركوزي. ورغم أن الصورة النهائية للقمة خرجت بصورة واتفاقات شبه موحدة، إلا أن أوروبا كانت مستعدة ومتحفزة لحل تنظيم السوق والحد من حريته أكثر من أميركا، وهي الحلول التي تتطلب المزيد من الوقت. فأوروبا تطبق في كثير من أجزائها برامج رعاية اجتماعية واشتراكية، وهو ما يحميها من أي تداعيات حادة للأزمة بعكس أميركا.
وفي مقابل فرنسا وألمانيا ظلت الولايات المتحدة وبريطانيا منافحتان عن حرية السوق، ويطلبان له المزيد من عصب رأسمال، أي المزيد من الوفرة. وقد تجسدت الرغبة في حرية و السوق لدى الرئيس البريطاني لفترة طويلة منذ كان وزيرا للمالية، حين نافح عن مبدأ حرية السوق، وأن السوق قادر على تنظيم نفسه بنفسه، مما جعله ينال النصيب الأكبر من اللوم والاتهام خلال هذه الأزمة. أما بالنسبة لأوباما فمبدأ حرية السوق لم يتجسد فيه وإنما تجسد لدى الكيان الأميركي ككل، حيث أنه كيان يتأسس بقوة على مبدأ الاقتصاد الحر، وهو الاقتصاد الذي يكون طلابا للوفرة قبل أي شيء آخر، فهي الغنيمة الأكبر التي كان أوباما يطمح أن يعود إلى بلاده وقد حقق الوعود بتنفيذها.
وأوباما هنا كان مبعوثا أميركيا أكثر منه رئيس يطرح أجندته ورؤاه الخاصة التي عرفت عنه. فقد سبق له أن أعلن عن أسفه لأن النجاح الذي تم انجازه في الستينات على مستوى الحقوق المدنية في أميركا لم يترافق معه انجاز على مستوى الحقوق الاقتصادية والعدالة في توزيع الثروات. فهما أمران مترابطان كما توضح مقولة روزفلت quot; لايمكن للناس المعوزين أن يكونوا أحرارا.quot; ويلفت كاتب أميركي الانتباه بأن أوباما في كتابه quot;جرأة الأملquot; كان قد ذكر روزفلت أكثر من أي سياسي ديمقراطي آخر، ويذكر أن هذا ليس مفاجئا أن يتوافق معه في نظرته لضرورة تنظيم السوق وتدخل الحكومة، حيث أن روزفلت كان قد قدم برنامج quot;New Dealquot; بعد فترة من أزمة الكساد العظيم للمساعدة في الخروج منه، وهو البرنامج الذي يوسع من تدخل الحكومة في الاقتصاد. حيث أن روزفلت كان يشدد على أن استقلال الفرد وحريته الاقتصادية لا تتعارض مع تدخل الحكومة. ومع كل ذلك فان أوباما لم يستطع تبني وإمضاء مثل هذه الخطط في الوقت الحالي، وربما لن يستطيع حتى لاحقا. ونجده عوضا عن ذلك، قد بادر مع بداية فترته الرئاسية لإقرار مشاريع داخلية كبيرة، تتطلب ميزانيات ضخمة في أميركا، وتتوزع هذه المشاريع بين التعليم، والمواصلات (الجسور)، والرعاية الصحية. ويبدو أن البدء بتنفيذ هذه الخطوات رغم كلفتها كان ضرورياً للظهور بمظهر الرئيس الثقة الذي يحقق وعوده. وهناك أمر آخر وهو أن تبني خطط تنظيم السوق وتحديد الحرية الاقتصادية في وقت الأزمة، لا يعني إلا مضاعفة الأزمة نفسها، فوضع القيود والتحديدات يسبب هزة اقتصادية حين تتأثر المداخيل المتوقعة، وتتقلص أيضاً الفرص والخيارات. وبمعنى آخر يتم تحجيم الوفرة، وهي العصب الذي طالما استند عليه النظام الرأسمالي، بل الوفرة هي التي ساعدت هذا النظام دوما على تجاوز أزماته، كمثل رب الأسرة الغني الذي يستطيع أن يكفي أسرته أزمة غلاء الأسعار بأن يزيد من معدل إنفاقه من وقت لآخر.
وإذا كان النظام الرأسمالي لايزال طلاباً للوفرة، فهو أيضاً نظام استهلاك واستنزاف متصاعد. ففي السوق الحرة، كل شيء يتجه إلى الأفضل، فالسعر حر ويتفاعل فقط مع المنافسة والطلب، ووفرة الخيارات في السوق تجعل نوعية الخدمة والتي تكون حرة أيضاً تتطور بحثا عن سعر أفضل، فيتقابل الجميع هكذا في الأعلى. وتقييد السوق في بلد مثل أميركا يكون أمراً صعباً حيث أن طلب الوفرة ليس اقتصاديا فقط، بل سياسياً واجتماعياً أيضاً. فالسياسي معني بالازدهار وخلق الفرص التي توفرها السوق الحرة، والقوة التي تتوفر عبر التوسع في اغتنام الثروات المتوفرة من كل مكان. أما العامل الاجتماعي فيتمثل في أن فقدان السوق الحرة سيجعل الناس في العالم الغربي يفتقدون أمراً بالغ الأهمية بالنسبة لهم، وهي معلومات الخيارات والرغبات. وللإيضاح، فأنت حين تذهب إلى مستشفى حكومي موفر لك عن طريق الحكومة، فأنت لا تملك أن تغير الطبيب إذا لم يعجبك، ولا تملك وضع الموعد الذي تريد، ولا تملك عادة طلب خدمات إضافية تريدها من مثل هذه المرافق الحكومية، فليس لك إلا أن تلتزم بالمعايير العامة الموجودة. وهذا أمر لا يتواءم مع المواطن الغربي الذي تعود أن يدفع من أجل خياراته.
ولذا فهذا النظام الاقتصادي متوافق مع نمط حياة الإنسان الغربي المترف الذي تحول إلى دودة استهلاكية لا تقف عند حد، والكثير من العالم يحاكيه في هذا الطريق. وكان أبو الاقتصاد الحديث آدم سميث (1723-1790) وغيره من رواد الاقتصاد الكلاسيكي قد أسسوا لمبدأ حرية السوق، لأنه كان القادر في نظرهم على تحقيق الفعالية والتوازن الاقتصادي المنشود. وكانت فلسفة سميث مبنية على منظومة مستديرة تقول بأن رفع مستوى الاستهلاك، يرفع من مستوى الانتاج، وارتفاع مستوى الإنتاج يراكم رأس المال، الذي يزيد من ثروة الأمم مما يجعلها تزيد من دخل الفرد، ومن ثم يزداد الاستهلاك وهكذا.. والتطور والرخاء الاقتصادي كان قد جعل الاستهلاك صنعة تتمدد لتتمركز بقوة حتى ولو في الكماليات، مادامت الحرية تورث الازدهار والنشاط الشرائي. فإحدى الفرضيات الاقتصادية لدى هؤلاء الكلاسيكيين تقول أن رغبة الإنسان في الاستهلاك ليس لها حد، ومادامت رغبته في الأكل تحد بطاقة معدته، فإن رغباته الكمالية الأخرى في شراء الملابس والأثاث وغيره لا تحد، طالما بقت لديه قوة شرائية.
إذن النظام الاقتصادي الرأسمالي نظام مترف ونشيط، مع أن الكثير في أميركا نفسها ليسوا بمترفين، لذا فهو لا يصلح لها لا للعالم من ورائها أيضا. فهو نظام لا يستطيع أن يجعل أحدهم يضحك، من غير أن يبكي آخر، ويكون الأمر أصعب إن كان ضحك واحد يترتب عليه بكاء ثلاثة أو أربعة. ولذا يكون الأوربيون محقين حين قالوا أن هذه الأزمة قد أصابت العالم من خلال فيروس أميركي، ويكون روجيه جارودي محقاً أيضاً حين قال أن بؤس العالم يتلخص في أن أقل من عشرين بالمائة من سكانه، يستهلكون أكثر من ثمانين بالمائة من إنتاجه.
شاهدت ذات مرة في فلم وثائقي واقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية للناس في ظل الاتحاد السوفياتي السابق. وكما يبدو كان النظام مرعوباً من الوفرة، فهذا ما كان يحكيه واقع الناس الذين كانوا يتقاسمون الشقق والغرف الباردة والمتشابهة، وأيام التبضع المجدولة، بل وحتى الأحذية المتوفرة كانت مثل بعضها. ويبدو أن الناس كانوا يتقاسمون شظف العيش هذا نتيجة للقسر أو نتيجة للأدبيات التي قامت بتعبئتهم أن هذا يندرج تحت خطط كبرى. لقد كانت خطتهم باختصار تعني الوقوف ضد أي تسرب للوفرة، بمعنى إحراق الحاضر لحساب المستقبل. أما في أميركا فيكون العكس، يحرقون المستقبل على حساب الحاضر، فالوفرة محتضنة بقوة، وقد انتقلت من كونها خيارا لتصبح أولوية. وهي مفهوم شائع لديهم، فيحدث كثيراً أن يخبرك الأمريكان بأن كل شيء متوفر حتى الوظائف، وأن المشرد الذي في الشارع بلا مأوى هو كذلك لأنه اختار أن يكون فقيرا، ولو أراد أن يكسب المال فهو سيجده. وهذا الوعي إذن يعتبر أن الوفرة توجد كل الحلول، لذا لا يوجد حاجة للتدخل الحكومي. حتى اكتشف الكثير منهم مؤخرا، وربما متأخراً أيضاً، أنهم أصبحوا خارج منازلهم نتيجة لأزمة المساكن الأخيرة، مع أنهم كانوا يعملون منذ كانوا طلاباً في الثانوية. واكتشف الكثير أيضاً أنهم بلا غطاء وتأمين صحي، فمن كان يدفع قبل أشهر ثمانين دولارا شهريا من أجل تأمينه، أصبح الآن مطلوب منه أن يدفع مائتي دولار شهريا، مما دفع الكثير إلى التخلي عنه.
وفي محاضرة أقيمت مؤخرا في إحدى الجامعات الأميركية، تحدث المحاضرون عن أوجه الشبه والاختلاف بين الكساد العظيم والأزمة الاقتصادية الحالية، وبين ما فعله هوفر وروزفلت وما يفعله أوباما، وماذا يمكن أن يستفاد من تلك التجربة الآن. وقد كانت الفروق كثيرة لدرجة أن من يقارن بين الأزمتين هو كمن يقارن التفاح بالبرتقال. وكان من بين تلك الفروق أن الحكومة في أزمة الكساد العظيم كانت سارعت للتدخل لمساعدة الناس، وليس بخطط إنقاذ كما يحدث الآن، فالخطط لم تأتي مع الرئيس هوفر، ولكن بعد ذلك بفترة مع روزفلت، وأيضاً أن الانهيار السريع للبنوك لم يحدث الآن مثلما حدث في السابق، بسبب التأمين الذي لديه تغطية أكبر بكثير من السابق. وهذا ليس بإنهاء للأزمة بقدر ما هو حل مؤقت لها، ونقل لها من قطاع البنوك إلى قطاع التأمين.
لذا فإن خطة التحفيز قد تنجح في إدارة عجلة الاقتصاد، لكنها لن تنجح في حفظه، وحفظ استمراريته، مادام النظام باق على منهجه. وتريليون دولار خرجوا بها من قمة العشرين، أو اثنان أوخمسة لن تفلح في حل الإشكال، مادامت سياسة الاستنفاد باقية على حالها، وستظل الضربة تنقل ثقلها من قطاع المساكن إلى البنوك، إلى التأمين، ومن ثم إلى الدولة في حال تدخلت بالدعم والمساعدة كخط الدفاع الأخير.
لا بد أن يعرف العالم، أن الخوف من تجارب فاشلة سابقة، لا يستلزم إبقاء تجارب فاشلة حاضرة، كما أن غياب آدم سميث لا يستلزم إعادة ماركس، بل ذهابه يقدم المساحة لأسماء جديدة من بعدهم. وهناك من الاقتصاديين من حاول التصدي لمعضلة تحقيق التوازن بين تحقيق الوفرة والفاعلية، والمحافظة على مستوى معقول من العدالة في توزيع الثروة، والتخلص من العلل الرأسمالية التي ترسخت، من أمثال جوزيف ستيكلس، موديلياني، كينيث أرو، وغيرهم. وليس بالضرورة أن نعرف من هؤلاء ولا مشاريعهم التي قدموها، فالعالم سيعرفهم جيداً إن قام باحتضانهم، ففي النهاية تكون الحاجة هي صاحبة كلمة التغيير، وليس الترف.
[email protected]
وفي مقابل فرنسا وألمانيا ظلت الولايات المتحدة وبريطانيا منافحتان عن حرية السوق، ويطلبان له المزيد من عصب رأسمال، أي المزيد من الوفرة. وقد تجسدت الرغبة في حرية و السوق لدى الرئيس البريطاني لفترة طويلة منذ كان وزيرا للمالية، حين نافح عن مبدأ حرية السوق، وأن السوق قادر على تنظيم نفسه بنفسه، مما جعله ينال النصيب الأكبر من اللوم والاتهام خلال هذه الأزمة. أما بالنسبة لأوباما فمبدأ حرية السوق لم يتجسد فيه وإنما تجسد لدى الكيان الأميركي ككل، حيث أنه كيان يتأسس بقوة على مبدأ الاقتصاد الحر، وهو الاقتصاد الذي يكون طلابا للوفرة قبل أي شيء آخر، فهي الغنيمة الأكبر التي كان أوباما يطمح أن يعود إلى بلاده وقد حقق الوعود بتنفيذها.
وأوباما هنا كان مبعوثا أميركيا أكثر منه رئيس يطرح أجندته ورؤاه الخاصة التي عرفت عنه. فقد سبق له أن أعلن عن أسفه لأن النجاح الذي تم انجازه في الستينات على مستوى الحقوق المدنية في أميركا لم يترافق معه انجاز على مستوى الحقوق الاقتصادية والعدالة في توزيع الثروات. فهما أمران مترابطان كما توضح مقولة روزفلت quot; لايمكن للناس المعوزين أن يكونوا أحرارا.quot; ويلفت كاتب أميركي الانتباه بأن أوباما في كتابه quot;جرأة الأملquot; كان قد ذكر روزفلت أكثر من أي سياسي ديمقراطي آخر، ويذكر أن هذا ليس مفاجئا أن يتوافق معه في نظرته لضرورة تنظيم السوق وتدخل الحكومة، حيث أن روزفلت كان قد قدم برنامج quot;New Dealquot; بعد فترة من أزمة الكساد العظيم للمساعدة في الخروج منه، وهو البرنامج الذي يوسع من تدخل الحكومة في الاقتصاد. حيث أن روزفلت كان يشدد على أن استقلال الفرد وحريته الاقتصادية لا تتعارض مع تدخل الحكومة. ومع كل ذلك فان أوباما لم يستطع تبني وإمضاء مثل هذه الخطط في الوقت الحالي، وربما لن يستطيع حتى لاحقا. ونجده عوضا عن ذلك، قد بادر مع بداية فترته الرئاسية لإقرار مشاريع داخلية كبيرة، تتطلب ميزانيات ضخمة في أميركا، وتتوزع هذه المشاريع بين التعليم، والمواصلات (الجسور)، والرعاية الصحية. ويبدو أن البدء بتنفيذ هذه الخطوات رغم كلفتها كان ضرورياً للظهور بمظهر الرئيس الثقة الذي يحقق وعوده. وهناك أمر آخر وهو أن تبني خطط تنظيم السوق وتحديد الحرية الاقتصادية في وقت الأزمة، لا يعني إلا مضاعفة الأزمة نفسها، فوضع القيود والتحديدات يسبب هزة اقتصادية حين تتأثر المداخيل المتوقعة، وتتقلص أيضاً الفرص والخيارات. وبمعنى آخر يتم تحجيم الوفرة، وهي العصب الذي طالما استند عليه النظام الرأسمالي، بل الوفرة هي التي ساعدت هذا النظام دوما على تجاوز أزماته، كمثل رب الأسرة الغني الذي يستطيع أن يكفي أسرته أزمة غلاء الأسعار بأن يزيد من معدل إنفاقه من وقت لآخر.
وإذا كان النظام الرأسمالي لايزال طلاباً للوفرة، فهو أيضاً نظام استهلاك واستنزاف متصاعد. ففي السوق الحرة، كل شيء يتجه إلى الأفضل، فالسعر حر ويتفاعل فقط مع المنافسة والطلب، ووفرة الخيارات في السوق تجعل نوعية الخدمة والتي تكون حرة أيضاً تتطور بحثا عن سعر أفضل، فيتقابل الجميع هكذا في الأعلى. وتقييد السوق في بلد مثل أميركا يكون أمراً صعباً حيث أن طلب الوفرة ليس اقتصاديا فقط، بل سياسياً واجتماعياً أيضاً. فالسياسي معني بالازدهار وخلق الفرص التي توفرها السوق الحرة، والقوة التي تتوفر عبر التوسع في اغتنام الثروات المتوفرة من كل مكان. أما العامل الاجتماعي فيتمثل في أن فقدان السوق الحرة سيجعل الناس في العالم الغربي يفتقدون أمراً بالغ الأهمية بالنسبة لهم، وهي معلومات الخيارات والرغبات. وللإيضاح، فأنت حين تذهب إلى مستشفى حكومي موفر لك عن طريق الحكومة، فأنت لا تملك أن تغير الطبيب إذا لم يعجبك، ولا تملك وضع الموعد الذي تريد، ولا تملك عادة طلب خدمات إضافية تريدها من مثل هذه المرافق الحكومية، فليس لك إلا أن تلتزم بالمعايير العامة الموجودة. وهذا أمر لا يتواءم مع المواطن الغربي الذي تعود أن يدفع من أجل خياراته.
ولذا فهذا النظام الاقتصادي متوافق مع نمط حياة الإنسان الغربي المترف الذي تحول إلى دودة استهلاكية لا تقف عند حد، والكثير من العالم يحاكيه في هذا الطريق. وكان أبو الاقتصاد الحديث آدم سميث (1723-1790) وغيره من رواد الاقتصاد الكلاسيكي قد أسسوا لمبدأ حرية السوق، لأنه كان القادر في نظرهم على تحقيق الفعالية والتوازن الاقتصادي المنشود. وكانت فلسفة سميث مبنية على منظومة مستديرة تقول بأن رفع مستوى الاستهلاك، يرفع من مستوى الانتاج، وارتفاع مستوى الإنتاج يراكم رأس المال، الذي يزيد من ثروة الأمم مما يجعلها تزيد من دخل الفرد، ومن ثم يزداد الاستهلاك وهكذا.. والتطور والرخاء الاقتصادي كان قد جعل الاستهلاك صنعة تتمدد لتتمركز بقوة حتى ولو في الكماليات، مادامت الحرية تورث الازدهار والنشاط الشرائي. فإحدى الفرضيات الاقتصادية لدى هؤلاء الكلاسيكيين تقول أن رغبة الإنسان في الاستهلاك ليس لها حد، ومادامت رغبته في الأكل تحد بطاقة معدته، فإن رغباته الكمالية الأخرى في شراء الملابس والأثاث وغيره لا تحد، طالما بقت لديه قوة شرائية.
إذن النظام الاقتصادي الرأسمالي نظام مترف ونشيط، مع أن الكثير في أميركا نفسها ليسوا بمترفين، لذا فهو لا يصلح لها لا للعالم من ورائها أيضا. فهو نظام لا يستطيع أن يجعل أحدهم يضحك، من غير أن يبكي آخر، ويكون الأمر أصعب إن كان ضحك واحد يترتب عليه بكاء ثلاثة أو أربعة. ولذا يكون الأوربيون محقين حين قالوا أن هذه الأزمة قد أصابت العالم من خلال فيروس أميركي، ويكون روجيه جارودي محقاً أيضاً حين قال أن بؤس العالم يتلخص في أن أقل من عشرين بالمائة من سكانه، يستهلكون أكثر من ثمانين بالمائة من إنتاجه.
شاهدت ذات مرة في فلم وثائقي واقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية للناس في ظل الاتحاد السوفياتي السابق. وكما يبدو كان النظام مرعوباً من الوفرة، فهذا ما كان يحكيه واقع الناس الذين كانوا يتقاسمون الشقق والغرف الباردة والمتشابهة، وأيام التبضع المجدولة، بل وحتى الأحذية المتوفرة كانت مثل بعضها. ويبدو أن الناس كانوا يتقاسمون شظف العيش هذا نتيجة للقسر أو نتيجة للأدبيات التي قامت بتعبئتهم أن هذا يندرج تحت خطط كبرى. لقد كانت خطتهم باختصار تعني الوقوف ضد أي تسرب للوفرة، بمعنى إحراق الحاضر لحساب المستقبل. أما في أميركا فيكون العكس، يحرقون المستقبل على حساب الحاضر، فالوفرة محتضنة بقوة، وقد انتقلت من كونها خيارا لتصبح أولوية. وهي مفهوم شائع لديهم، فيحدث كثيراً أن يخبرك الأمريكان بأن كل شيء متوفر حتى الوظائف، وأن المشرد الذي في الشارع بلا مأوى هو كذلك لأنه اختار أن يكون فقيرا، ولو أراد أن يكسب المال فهو سيجده. وهذا الوعي إذن يعتبر أن الوفرة توجد كل الحلول، لذا لا يوجد حاجة للتدخل الحكومي. حتى اكتشف الكثير منهم مؤخرا، وربما متأخراً أيضاً، أنهم أصبحوا خارج منازلهم نتيجة لأزمة المساكن الأخيرة، مع أنهم كانوا يعملون منذ كانوا طلاباً في الثانوية. واكتشف الكثير أيضاً أنهم بلا غطاء وتأمين صحي، فمن كان يدفع قبل أشهر ثمانين دولارا شهريا من أجل تأمينه، أصبح الآن مطلوب منه أن يدفع مائتي دولار شهريا، مما دفع الكثير إلى التخلي عنه.
وفي محاضرة أقيمت مؤخرا في إحدى الجامعات الأميركية، تحدث المحاضرون عن أوجه الشبه والاختلاف بين الكساد العظيم والأزمة الاقتصادية الحالية، وبين ما فعله هوفر وروزفلت وما يفعله أوباما، وماذا يمكن أن يستفاد من تلك التجربة الآن. وقد كانت الفروق كثيرة لدرجة أن من يقارن بين الأزمتين هو كمن يقارن التفاح بالبرتقال. وكان من بين تلك الفروق أن الحكومة في أزمة الكساد العظيم كانت سارعت للتدخل لمساعدة الناس، وليس بخطط إنقاذ كما يحدث الآن، فالخطط لم تأتي مع الرئيس هوفر، ولكن بعد ذلك بفترة مع روزفلت، وأيضاً أن الانهيار السريع للبنوك لم يحدث الآن مثلما حدث في السابق، بسبب التأمين الذي لديه تغطية أكبر بكثير من السابق. وهذا ليس بإنهاء للأزمة بقدر ما هو حل مؤقت لها، ونقل لها من قطاع البنوك إلى قطاع التأمين.
لذا فإن خطة التحفيز قد تنجح في إدارة عجلة الاقتصاد، لكنها لن تنجح في حفظه، وحفظ استمراريته، مادام النظام باق على منهجه. وتريليون دولار خرجوا بها من قمة العشرين، أو اثنان أوخمسة لن تفلح في حل الإشكال، مادامت سياسة الاستنفاد باقية على حالها، وستظل الضربة تنقل ثقلها من قطاع المساكن إلى البنوك، إلى التأمين، ومن ثم إلى الدولة في حال تدخلت بالدعم والمساعدة كخط الدفاع الأخير.
لا بد أن يعرف العالم، أن الخوف من تجارب فاشلة سابقة، لا يستلزم إبقاء تجارب فاشلة حاضرة، كما أن غياب آدم سميث لا يستلزم إعادة ماركس، بل ذهابه يقدم المساحة لأسماء جديدة من بعدهم. وهناك من الاقتصاديين من حاول التصدي لمعضلة تحقيق التوازن بين تحقيق الوفرة والفاعلية، والمحافظة على مستوى معقول من العدالة في توزيع الثروة، والتخلص من العلل الرأسمالية التي ترسخت، من أمثال جوزيف ستيكلس، موديلياني، كينيث أرو، وغيرهم. وليس بالضرورة أن نعرف من هؤلاء ولا مشاريعهم التي قدموها، فالعالم سيعرفهم جيداً إن قام باحتضانهم، ففي النهاية تكون الحاجة هي صاحبة كلمة التغيير، وليس الترف.
[email protected]
التعليقات