في وقت مبكر من تشكل النظام الأمريكي بعد استقلاله، زار المفكر الفرنسي أليكسس دي توكوفيل أمريكا، وكتب عنها كتابه quot;الديمقراطية في أمريكاquot; الذي صدر في جزءين، أولهما صدر في عام 1935 والثاني صدر بعده بخمس سنوات. وفي هذا الكتاب كتب توكوفيل عن تجربته ممتدحاً ومبدياً إعجابه بالمزايا المتعددة التي وجدها في النظام الأمريكي. ومن ذلك تلك القدرة الرائعة على توزيع السلطة في أمريكا، فهو يقول أنك أينما ذهبت لا تجد تجسيداً واضحاً للسلطة، فهي تتمدد وتنتشر بشكل أفقي، ولا تتركز عمودياً في أجزاء محددة، وهو الأمر الذي ينهك الأنظمة في الأجزاء الأخرى من العالم.
وبعد أقل من قرنين من الزمان زار المفكر الفرنسي جان بورديارد أمريكا، وكتب عنها كتابه quot;أمريكاquot; الذي صدر في عام 1986. وبورديارد يتمركز في موضع مهم بين مفكري ما بعد الحداثة، وهو التيار عرف عنه نقده الشامل والكثيف الذي لم تسلم منه العلوم نفسها. إلا أن كتابه هذا لم يتضمن ضراوة في النقد كما كان يتوقع منه، بل كان أقرب للوصف الشاعري المُعجب، الذي لم يخلو في داخله من اقتناص عيوب، أو عرض لجماليات عالم الــ Hyper reality الذي نجح في محاكاة الواقع بخلق واقعه الخاص، ومن ثم في دفع العالم إلى محاكاته. إلا أن هناك نقيصة كان قد اقتنصها دوتوكفيل، وأكد عليها بورديار من بعده، وهي أن أمريكا لديها اهتمام عميق بالمصلحة الفردية، وتميل إلى تهميش أي معنى يطرح في سبيل المصلحة الجمعية. وهذه نقطة مهمة يجليها منطق الواقع ببساطة ووضوح، لكن الواقع الخاص الذي خلقته أمريكا لنفسها لم يكن ليسمح لها أن تتجلي بمثل بساطتها المفترضة.
وعبر الحقب الزمنية المختلفة، كان مؤشر الشك في صلاحية النظام الرأسمالي يتفاوت في تردده علواً وانخفاضاً، وفترة الأزمة المالية الأخيرة كانت دفعة له ليحقق ارتفاعاً غير مسبوق. وعادت لتظهر إلى السطح مقولة ماركس بأن quot;الرأسمالية في النهاية لا تستطيع أن تحمي نفسها من نفسهاquot;. وقد ذهب بعض الماركسيين الجدد آنذاك مثل جورج لوكاش إلى أن الرأسمالية استطاعت الاستفادة من عامل الزمن لتتجاوز أزماتها، والانهيار المحتمل، حيث أنها خلقت واقعها الخاص، واستطاعت أن تجعل نظامها الاقتصادي البرجوازي أساساً ومنطلقاً لبناء المجتمع، فبعد أن كان مشبوهاً حسب التنظير الماركسي، أصبح مشروعاً حسب تنظير ماكس فيبر في quot;الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسماليةquot;، بل وذهب أبعد من ذلك حين جعلها متعاضدة مع الدين في خلق المجتمع الحديث. وهذه مرونة فكرية متجذرة براغماتياً، حيث تتأسس الأفكار بناء على معايير نتائجها. وحس المرونة هو الذي يجعل نظاما ما يخلق حقائقه بنفسه، بل ويضفي المرونة على عناصره المكوِّنة نفسها، الدين هنا على سبيل المثال.

إن خطة الإنقاذ التي قدمتها الإدارة الأمريكية إلى مجلس الشيوخ كحل للخروج من الأزمة المالية مؤخراً تعتبر دليلا واقعيا على مثل هذه المرونة، فلم تكن هذه المبادرة في حاجة إلى دعم لا من عرف ولا من قانون، بل برافد من المصلحة وحدها. والنقطة الجوهرية لدينا هنا ماذا لو أن المرونة لم تكن هي الميزة بل المشكلة !!؟ بمعنى آخر إن ما يسمى بالحرية الاقتصادية والتي هي وليدة مرونة لا متناهية كانت سببا رئيسا في هذه الأزمة المالية لدى النظام الرأسمالي، فكيف ستعالج المرونة المرونة، وتداوي الحرية الحرية!؟

إن أمريكا قد تتدخل لإنقاذ ومساعدة البنوك والشركات، لكن السؤال هل تستطيع التدخل لتحديد نمو هذه الشركات وأبعاد نشاطها؟ إن كان الجواب نعم، فهذا يعني أن النظام الرأسمالي لم يعد رأسمالياً؟ بعد أن فقد ركيزة أساسية له وهي الحرية. ولا أحد يعرف إن كنا سنشاهد تغير هذا المسمّى في المدى المنظور أم لا، فمن جهة فإن ضبط قوى السوق كانت فلسفة طموحة للحزب الديمقراطي حتى من قبل مجيء أوباما، وطموحات هذا الأخير زادت جرعة هذه الطموحات. ومن جهة أخرى فأمريكا عرف أنها قد تتدخل لإنقاذ الغرقى في المحيط، ولم يعرف عنها أنها تتدخل لتحدد في أي جزء يسبحون، فالمخيال الأمريكي كان جندياً بارعاً في المحاربة إلى جانب الحرية وليس ضدها.
لقد فرض الواقع على أمريكا مطلب التغيير قبل أن يرفع أوباما مطلبه وشعاره التغييري، والسؤال المهم إلى أي مدى يتساوق هذان المطلبان؟ إن لدينا بعدين رئيسيين في موضوع المطلب الواقعي للتغيير، محاولة تقليص التفاوت الطبقي داخلياً، ومسايرة الاتجاه العالمي خارجياً. وفي البعد الأول نجد أن أمريكا قد تحولت إلى فردوس، لكنه فردوس متاح لبعض أهلها فقط، والجحيم الذي يعيشه آخرون يعني أن حداً مقبولاً من الاشتراكية لم يكن محتاجاً لأن يعبر المحيط، بل يكفيه بعض الزوايا الداخلية لينبت فيها. وبالنسبة للبعد الخارجي، فأمريكا لم يعد لها من بد من مسايرة نسق العالم الخارجي،وقد قال بورديارد أن أمريكا لم تعد مركزاً للعالم، ليس لأنها فقدت قوتها، بل ببساطة لأن العالم لم يعد له مركز، وأن القمم والقامات في العالم لم تعد تُصاغ من مركز واحد.
ومن جهة أوباما فإن من أبرز الأمور التي حاول غرماؤه الترويج على أنها عيوب له، هي تصريحات نسبت له في مقابلة قبل سنوات توحي باهتمامه بمسألة العدالة في توزيع الثروة، إضافة إلى بعض ما ردده في حملته الانتخابية من كلمات، ومنها على سبيل المثال إشارته إلى أن رؤساء بعض الشركات في أمريكا يتقاضون في عشر دقائق ما يتقاضاه العامل الصغير لديهم في عشر سنوات، مما فُسر على أنه منحى اشتراكي لديه. وخبرة أوباما السابقة واهتمامه الإجتماعي المعهود عنه يضاعف نسبة التخمين بأنه سيدرج مثل هذا النوع من التغير في أجندته التغييرية المرتقبة. وبالطبع دولة كأمريكا لا تنحو منحى رجل واحد، حتى لو كان رئيسها، لكن عادة ما يكون الرئيس رمزاً وتمثيلاً لتيار كامل يكون متجسداً في داخلها، ويعمل على ترويج صبغته في واقعها. فأمريكا في وقت ريغان كانت مشغولة بخلق الصور السينمائية عن نفسها وأنها القطب الأوحد، محاكية في ذلك لرئيسها السينمائي كما قال بورديارد. وأوباما بالطبع ليس هو ريغان، فبورديارد في زمانه كان قد لام هذا الأخير على تجواله وتقاطعه المستمر مع الأغنياء، ومحوه للفقراء من الخريطة، حيث أن افتراض الوصول إلى اليوتوبيا كان يستلزم الغاء مثل هذه العلل الداخلية، والعمل على عدم رؤيتها. أمّا بالنسبة لأوباما فالأمر يختلف، فبالنسبة له السوق الذي فُتح على مصراعيه منذ وقت ريغان لم يعد قادرا على تصحيح نفسه بنفسه. وليس بمستبعد على أوباما أن يكون رمزاً وتمثيلاً لتيار مغاير، وهو القادم من خلفية الباحث الاجتماعي السابق لأحياء السود الفقيرة في شيكاغو، والمحامي الذي سبق له الدفاع عن ضحايا التمييز العنصري. وأمّا خارجياً فنجد أن أوباما ليس بحاجة لأن يعرض أمريكا على العالم من جديد كما فعل أسلافه، فأمريكا ترمي الأن إلى مزيد من الانفتاح والتعاون المشترك، وبحسب ما نصّ عليه أوباما في كلامه فإن أمريكا لا تستطيع خوض تحديات هذا القرن بمفردها، إضافة إلى أن رخاء وأمن المواطن في أمريكا يعتمد على رخاء وأمن من هو خارج حدودها.
ان الموجة التغييرية التي يفرضها الواقع قد تكون أهم رافد لأجندة أوباما التغييرية، وبما أن العولمة جعلت العالم غير محكوم بأمريكا فإنه جعل أمريكا محكومة بالعالم، والواقع الذي طالما سحبته أمريكا معها، سيحين له وقت ليسحبها معه. وهذا الأمر يوحي بولادة مزاج متقارب للقوى العالمية، فالإستفادة من عامل الزمن جعلت بلداً كالصين ينحو عبره إلى مزيد من الانفتاح، وهذه المطاولة للزمن هي نفسها التي تدعو أمريكا إلى إعطاء نوع من التحديدات لنظامها، التزاماً بالنسق العالمي خارجياً، وبشمولية يتطلبها الوضع الإجتماعي داخلياً.

بقي أن نصبر لنعرف إلى أي مدى تستطيع أجندة أوباما التغييرية أن تتساند مع التغييرات التي يفرضها عالم اليوم على أمريكا. وما نحن متأكدون منه هو أن التغيير سيكون الطريقة المثلى لأمريكا لكي تكون محتفظة بنسبة من جماليات، تكون مغرية، في حال زارها مفكر فرنسي آخر، ليكتب عنها في زمن مقبل.