منذ دخول القوات الأميركية لبغداد وإطاحتها بنظام صدام حسين، وإلى حد هذه اللحظة، والمشهد العراقي لا يكف عن تقديم الحكمة تلو الحكمة، والمفاجأة المذهلة تلو الأخرى، مثلما يقدم الخيبة بعد الخيبة، والموقف السياسي المغامر، تلو الأخر. الأمر كله يعتمد على الجهة التي تنظر إليها داخل هذا المشهد: المجتمع المدني أم الأحزاب السياسية، خصوصا الحاكمة. فهناك فارق كبير، يصل أحيانا إلى حد الانفصام، ولعل هذا يحدث لأول مرة داخل العراق الحديث، بين ذهنية الأحزاب السياسية، وبين ما يريده المجتمع المدني، سواء كان ذلك في طبيعة الخطاب اليومي ومفرداته، أوفي نوعية الأهداف الآنية والإستراتيجية، أو على صعيد العلاقات المستقبلية مع دول الجوار، أو في ما يخص طبيعة العلاقة المستقبلية بين العراق وبين الولايات المتحدة.
على صعيد المجتمع المدني، أولا:
رغم كل عمليات التصعيد والتحريض الطائفي المتبادلة خلال السنوات الخمس الماضيات، وهي أفعال لم يسع إليها أفراد المجتمع ولم يساهموا في صنعها، بل فرضت عليهم فرضا، ورغم تحول عمليات التحريض هذه، في فترة من الفترات، إلى تصفيات طائفية تمت على الهوية، فأن المجتمع المدني ظل يقاوم بكل طاقة يملكها، واستطاع أن يخرج، أو بالأحرى يكاد أن يخرج، من هذه المحنة بأقل الخسائر (نقول هذا ونحن ندرك جيدا أي خسائر جسيمة لحقت بالعراقيين خلال المحنة). وأي مراقب منصف يلمس لمس اليد كيف أن هذه الخسائر بدأت تهبط يوميا، كلما تصاعدت وتيرة الاستقرار الأمني في البلاد. أليست هذه حكمة جماعية؟ أليس هذا شعور عال بالمسؤولية ووعي متقدم؟ ولا نظن أن أحدا ينكر أن حكمة المجتمع المدني العراقي هي التي أجبرت حتى مشعلي الفتنة الطائفية أنفسهم على تعديل خطابهم، بل أجبرتهم على البحث عن quot;موضوعquot; جديد أخر، يدخلون من بابه لتحقيق غرضهم لشق المجتمع.
المجتمع المدني الذي كان، بسبب تأزم الوضع الطائفي، قد استضاف، في بعض الأماكن، تنظيم القاعدة، أو لنقل أرتضى بنشاطها أو غض النظر عن تواجدها، هذا المجتمع نفسه عاد فطرد القاعدة وحاربها حتى الرمق الأخير. وقد تم طرد القاعدة رغم لعلعة خطابها الأيديولوجي الديني، ودغدغتها للمشاعر الطائفية. فالناس الذين شاركوا في طرد القاعدة وضعوا أمامهم الايدولوجيا أو الأحلام الرومانتيكية في كفة، ومصالحهم اليومية ومستقبل أطفالهم في كفة أخرى، فاختاروا مصالحهم، وشرعوا يدافعون عنها، وكانت النتيجة باهرة، لم يتوقعها أحد. وإلا، فمن كان يتوقع أن الطريق الدولي، بغداد/ دمشق/ عمان سيصبح في يوم من الأيام خاليا من مفارز quot;دولة العراق الإسلاميةquot; التي حولته إلى مقبرة جماعية؟ ومن كان يتوقع أن محافظة الأنبار ستصبح الأكثر استقرارا. أليست هذه مفاجأة مذهلة؟
المجتمع المدني، أو قسم كبير منه، الذي هب هبة رجل واحد في الانتخابات البرلمانية الأولى، ليمنح أصواته لسياسيين قالوا أنهم جنود المرجعية، وأنهم سيوفرون لناخبيهم الخبز والحرية، هذا المجتمع نفسه عاد، كما تعلن استفتاءات يومية للرأي العام، فغير رأيه، وأعلن أنه كان ضحية خداع، وأنه لن يمنح أصواته من جديد للذين خذلوه ولم ينفذوا ما وعدوا به. وفي طريق مواز ومرادف، شحب بريق الجماعات الدينية المتطرفة في المناطق الجنوبية والوسطى وداخل العاصمة، بعد أن سحب المجتمع المدني دعمه لهذه الجماعات، وانتصرت الواقعية على الايدولوجيا. فإذا لم يكن هذا هو النضج السياسي، فكيف يكون النضج؟ وإذا لم يكن زج أسم المرجعية الدينية بقضايا سياسية وتوريطها بحسابات يومية وشخصية عابرة،هي الخيبة بعينها، فكيف يجب أن تكون الخيبة؟
الآن، ماذا عن الجهة الثانية من المشهد العراقي، أي أداء الطبقة السياسية؟
بالضد من الصبر والحكمة والعقلانية، وبعد النظر، والواقعية التي أظهرها المجتمع المدني، فأن مواقف الطبقة السياسية ما يزال يغلب عليها الصراخ الآيدولوجي، والمزايدات، والاندفاعات المغامرة، والكيل بمكيالين، سواء عندما يتعلق الأمر بعلاقات الأحزاب السياسية، بعضها مع البعض الأخر، أو فيما يخص الحسابات المستقبلية العامة التي تتعلق بمصير البلاد. لن نذهب بعيدا، وسنكتفي بمثال واحد هو، موقف الطبقة السياسية إزاء الاتفاقية المزمع عقدها بين العراق والولايات المتحدة.
الجميع يعرف أن من يقود العراق حاليا هي تلك الأحزاب السياسية نفسها التي رحبت بإقدام الولايات المتحدة على الإطاحة بنظام صدام حسين، وشجعتها، وربما نسقت معها، منذ مؤتمر صلاح الدين وبعده مؤتمر لندن، وما سبقهما وتلاهما من زيارات للعاصمة الأميركية، ومن لقاءات خاصة وعامة مع مسؤولين في الإدارة الأميركية. وما كان يطلق عليه quot;المطبخ السياسيquot; الذي كان يتعامل مع الولايات المتحدة، أبان حقبة المعارضة هو، نفسه quot;المطبخquot; الحالي الذي يعود إليه استصدار القرارات المصيرية الكبرى.
وعلى امتداد فترة التحضير الأميركي للإطاحة بنظام صدام حسين، كان المسؤولون الأميركيون واضحين جدا في تحديد هدفهم الرئيسي: الإطاحة بنظام صدام طبقا لرؤيتهم هم، وبمواصفاتهم، لا كما تريد المعارضة العراقية. فقد ظلت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ترفض بشكل قاطع، تشكيل حكومة عراقية في المنفى تأخذ على عاتقها إدارة البلاد بعد التخلص من صدام. وفي أخر اجتماع لقادة المعارضة العراقية في مؤتمر لندن الذي عقد في 14/12/2002 وحضره المبعوث الأميركي، زلماي خليل زاد، نشرت وسائل الإعلام تسريبات مفادها أن المبعوث الأميركي أبلغ قادة المعارضة بأن quot;دورهم ليس أكثر من مستشارين.quot; وقبل ذلك التاريخ كان ريتشارد باوتشر المتحدث باسم الخارجية الأميركية قد أعلن (في 30/08/2002) بأن الحديث عن حكومة عراقية مستقبلية quot;سيكون سابق لأوانه.quot;
وحتى نختصر فأننا نقول أن الولايات المتحدة أرادت أن تسقط نظام صدام على طريقة بعض مقاولي بناء المساكن quot;الانتهاء من بناء الدار وتسليم المفتاح لصاحب الدار.quot;
حدث هذا، أم لم يحدث؟ نعم، حدث، وجاء الجنرال المتقاعد الأميركي جاي غارنر إلى العاصمة العراقية، كحاكم مدني. وبعده وصل مواطنه بريمر، وشكل مجلس الحكم، بعد أن أحتفظ لنفسه، أي للولايات المتحدة، بحق الفيتو ضد قرارات المجلس، والبقية هي ما نعرفه جميعا. وعلى امتداد هذه المراحل كلها، أي منذ أيام غارنر وحتى هذه اللحظة، والولايات المتحدة حاضرة في كل صغيرة وكبيرة داخل العراق.
هذه حقائق تعرفها الطبقة السياسية العراقية الحاكمة أكثر ألف مرة من غيرها. لكن البعض من الساسة العراقيين، وقد حانت الآن لحظة استلام quot;المقاولquot; الأميركي لأجوره وتسليمه quot;المفتاحquot; لأهل الدار، يريد أن يوهمنا أنه كان يظن أن الولايات المتحدة سيارة إسعاف، أو جمعية خيرية كتب على واجهتها: مستعدون للمساعدة مجانا، 7/7 وطوال ساعات اليوم. أو لعل هذا البعض كان يفكر بquot;استعباطquot; أميركا والضحك على ذقنها، فيدفعها إلى quot;المستنقعquot; العراقي، وبعد أن يلملم أوضاعه ويرتبها جيدا، مستفيدا من الوجود الأميركي، يبدأ هذه المرة بإملاء شروطه عليها. ولكن، حتى إذا سلمنا بصحة وسلامة تفكير كهذا، فهل أن الوضع العراقي الحالي مهيأ لمثل هذا الموقف؟
لو كان العراق الحالي يملك شروط الوحدة الوطنية الفيتنامية في ستينيات القرن الماضي، أو يملك تماسك الجبهة الوطنية الجزائرية التي كان المفاوض الجزائري يتكأ عليها أثناء مفاوضات التوقيع على اتفاقية أيفان، ولو كان الوضع العراقي الحالي يشبه ذاك الوضع العراقي الذي كان سائدا عام 1920 أبان الاحتلال البريطاني، أو في أيام ما بعد ثورة 14 تموز 1958 لقلنا، نعم. لكن العراق الحالي يشبه كائن رخوي، لا عمود فقري يسنده، ولا قوائم يقف عليها، ولا رقبة يديرها شمالا وجنوبا، مثلما يشتهي ويقرر، فقواته العسكرية خليط من مليشيات متصارعة، ووحدته الوطنية تنام على الشكوك المتبادلة وتستيقظ على المخاوف المتبادلة، وأمواله مرهونة لدول العالم، وديونه ما تزال تحتاج لجهد جبار لإطفائها، وقراراته السيادية مرهونة ببقائه في خانة البند السابع، وحدوده تستطيع فرقة كشافة من طلاب المدارس الابتدائية في أي دولة من دول الجوار أن تجتاحها.
ثم، أين ذهبت سياسية ألquot; ريلبولتيك REALPOLITIK quot; التي كان الساسة العراقيون يطبقونها في تعاملهم مع الولايات المتحدة، أيام كانوا في المعارضة العراقية، وحتى خلال الفترة التي أعقبت سقوط النظام العراقي السابق؟
كل رجال الطبقة السياسية العراقية،باستثناء تنظيم القاعدة وعتاة الصداميين، تصرفوا مع الاحتلال الأميركي، أو القوات متعددة الجنسيات، لا فرق، كأمر واقع، يستوي في ذلك من يحكم منهم الآن ومن يعارض، من يؤيد عقد الاتفاقية العراقية الأميركية ومن يعارض توقيعها، من ينتمي إلى اليسار أو إلى اليمين، المتطرف والمعتدل، في الجانب العربي والكردي والتركماني. فمنذ بداية انطلاق العملية السياسية (أثر دخول القوات الأميركية وإطاحتها بالنظام السابق) شاركت فيها جميع القوى السياسية، وشرعت هذه القوى تنشط علنيا وبادرت إلى فتح مقرات لها، وأصدرت مطبوعات خاصة بها، وبدأت تعرف بنفسها، بما في ذلك هيئة علماء المسلمين والتيار الصدري اللذان يعارضان حاليا إبرام الاتفاقية العراقية الأميركية. وكل ذاك كان يحدث في ظل التواجد الأميركي. وعندما تحولت quot;العمليةquot; السياسية إلى تجربة حكومية (مجلس الحكم)، وبعد ذلك حكومة مؤقتة، وبعدها حكومة مدعومة ببرلمان واصلت هذه القوى، ربما باستثناء هيئة علماء المسلمين، المشاركة. وخلال جميع هذه المراحل فأن الأمور كانت تجري في ظل الاحتلال، أو في ظل تواجد القوات المتعددة الجنسيات، وليس في غيابهما. أي أن جميع القوى السياسية العراقية ظلت تتصرف مع الاحتلال الأميركي بطريقة REALPOLITIK، أو بطريقة ميكافيلية أو براغماتية، تماما مثلما تصرفت أطراف المعارضة العراقية مع الولايات المتحدة أبان حقبة حكم صدام، يدفعها إلى ذلك تحقيق المصلحة، وليس الدافع الأيديولوجي، مهما كان.
تجرع كأس السم
ونحن هنا لا نبرر، إنما نوضح، ولا نصدر أي حكم، إنما نسجل حقائق تعيننا على فهم مواقف بعض القوى السياسية إزاء الاتفاقية المبرم عقدها بين العراق والولايات المتحدة. فهذه القوى التي تقود البلاد، أو بعضها، ترفض التوقيع على الاتفاقية بصيغتها الحالية بدافع quot;احترام السيادةquot; العراقية.
لنقبل هذا المنطق، ولكن لنسأل تماشيا مع هذا المنطق نفسه: أين كانت quot;السيادةquot; العراقية منذ 9/ نيسان/2003 وحتى هذه اللحظة؟ ألم تشارك هذه القوى ذاتها في العملية السياسية، وتشترك في الحكومة وفي البرلمان طوال السنوات الماضية منذ سقوط النظام السابق؟
قد يكون الجواب الذي تطرحه هذه القوى التي تقود البلاد وتعارض للاتفاقية هو: كان هدفنا هو ضمان مصالح بلادنا، ومن أجل ذلك تصرفنا بطريقة سياسية واقعية، ولم يكن أمامنا خيار أخر.
حسنا. ما هي الخيارات المطروحة الآن، في حال تم رفض الاتفاقية وتأزمت الأمور مع الولايات المتحدة؟ لا خيار سوى العودة إلى المربع الأول، والعراقيون خبروا جيدا ماذا يعني المربع الأول، وماذا تعني العودة إلى نقطة الصفر. فلماذا، إذن، هذا الإسراف في الحسابات الخيالية؟ وهل لدول الجوار دور في دفع بعض الساسة العراقيين لاتخاذ مواقف متشددة إزاء الاتفاقية؟ وبصيغة أكثر وضوحا، هل لإيران دور في هذا التشدد، كما تقول وتكرر الولايات المتحدة؟
لا يكشف أحد سرا عندما يقول أن هدف الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أقله حاليا في ظل تأزم العلاقات الإيرانية الأميركية، يكمن في إغراق أميركا داخل المستنقع العراقي، وإلحاق الهزيمة بها، بأي ثمن. والمسؤولون الإيرانيون أنفسهم لا يكفون عن التصريح بما يضمرون، وكلما شعروا بأن الجانبين العراقي والأميركي يقتربان من الحل النهائي، كثفوا تحذيراتهم للعراقيين من مغبة التوقيع. وعندما تسعى إيران لتحقيق هذا الهدف، فإنما لضمان مصالحها القومية، كما تراها هي، أولا وأخيرا. ولكن التجربة الإيرانية، منذ السنوات الأولى للثورة، علمتنا أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تدر ظهرها نهائيا للسياسة البراغماتية، كلما وجدت نفسها مضطرة لصعود هذا المركب. ودوننا التحالفات المتغيرة التي أقامتها إيران الإسلامية على الصعيد الفلسطيني والعربي والدولي. ثم، لماذا ننسى quot;كأس السمquot; الذي قال الإمام الخميني أنه أضطر لتجرعه، عندما أوقف الحرب العراقية الإيرانية، أثر تيقنه أن لا فائدة من الاستمرار في المكابرة، علما بأن إيران كانت تعرف حق المعرفة أي ضرر سيلحقه صدام حسين بحلفائها من القوى السياسية العراقية التي كانت تعارض وقتذاك النظام الصدامي؟ والجميع أدرك الآن كم كان ذاك القرار واقعيا، حتى لا نقول حكيما، وكم ساعد الجمهورية الإسلامية في بناء نفسها، حتى تحولت الآن إلى قوة إقليمية كبرى.
فلماذا لا يستفيد المسؤولون العراقيون من quot;الواقعيةquot; الإيرانية، ويدافعون عن المصالح العليا لبلادهم، وفقا للظروف الملموسة التي تمر بها بلادهم، لا وفقا للخيال؟ ولماذا يتعاملون مع الاتفاقية على طريقة استعراض عضلات غير موجودة، أصلا، في الجسد العراقي؟