نعني بالثقافة، هنا، المعنى الواسع لهذه المفردة، الذي يشمل (وهذا لا يتعلق بالعراق فقط وإنما في كل مكان): الفنون بأنواعها، الآداب، الأديان وما يقترن بها من معتقدات وطقوس وقيم وسلوك، العادات والتقاليد والأعراف، الموروث الشعبي الشفاهي، المعارف المكتسبة، الخبرات المتراكمة، الاعتقادات الشعبية، الأساطير والخرافات، المناخ وما يخلقه ويعكسه من تصرفات وعادات، المطبخ وأخلاق المائدة، الألعاب الشعبية، الأزياء... الخ. وعندما توجد هذه المكونات وتتفاعل سوية عند مجموعة ما من البشر، تتساكن داخل منطقة جغرافية محددة (كأن تكون جماعة دينية أو مذهبية أو أثنية أو عرقية أو مناطقية)، فأنها تخلق ما يسمى بالثقافة المشتركة لهذه الجماعة وحدها، أي أنها ثقافة تخص هذه المجموعة بعينها، دون سائر المجموعات البشرية الأخرى، يرثها جيل بعد آخر. وقد تتعرض هذه الثقافة، كلها أو جزء منها، بمرور الزمن، إلى التغيير والتحوير، مثلما قد تبقى على حالها، وفقا لأنواع المتغيرات.
ومع ظهور الدولة ndash; الأمة ظهرت ما تسمى بالثقافة الوطنية المشتركة، أو ثقافة الأمة. وفي كثير من الأحيان يتداخل مصطلح quot;ثقافةquot; مع مصطلحات أخرى، كالهوية الوطنية، والذاكرة التاريخية الجمعية، والشخصية الوطنية، حتى تكاد هذه المصطلحات كلها أن تشير إلى معنى واحد. وعندما نطلق صفة quot;مشتركةquot; على الثقافة quot;الجديدةquot;الوطنية، فان ذلك لا يعني، بالضرورة، أن المجموعات البشرية المكونة للدولة الجديدة تتخلى عن خصوصياتها، وإنما يعني quot;تزايدquot; عمليات التلاقح والتفاعل بين ثقافات هذه المجموعات المتنوعة والمختلفة، مع ظهور رموز جديدة مشتركة، جامعة، يحتمها وجود الدولة ndash; الأمة. من هذه الرموز: حدود جيبوبوليتيكية متعارف عليها، الجنسية الواحدة، جواز السفر الواحد، الراية الوطنية الواحدة، النشيد الوطني الواحد، الأعياد الوطنية، بالإضافة، طبعا، إلى اللغة المشتركة. وهذه الرموز تترافق مع ظهور مكونات توحيدية جديدة: جهاز تعليمي واحد، خدمة عسكرية خصوصا إذا كانت إجبارية، جهاز إداري... الخ.
وإذا كان هذا يحدث على النطاق الرسمي، فأن هناك ما هو quot;مشتركquot; يحدث على المستوى المدني- الشعبي، أي ظهور الأحزاب السياسية الجامعة لكل المكونات، النقابات والنوادي والجمعيات الأهلية، وسائل الإعلام بأنواعها، الجهود والأفعال المشتركة لتحقيق مطلب أو مطالب مشتركة، أو ما يسمى بالنضال المشترك، كالتظاهرات والثورات وحالات التمرد والحروب الخارجية، التي غالبا ما تصاحبها تضحيات مشتركة، تختلط فيها دماء quot;جميعquot; المواطنين.
وإذا كان هذا يحدث على النطاق الرسمي، فأن هناك ما هو quot;مشتركquot; يحدث على المستوى المدني- الشعبي، أي ظهور الأحزاب السياسية الجامعة لكل المكونات، النقابات والنوادي والجمعيات الأهلية، وسائل الإعلام بأنواعها، الجهود والأفعال المشتركة لتحقيق مطلب أو مطالب مشتركة، أو ما يسمى بالنضال المشترك، كالتظاهرات والثورات وحالات التمرد والحروب الخارجية، التي غالبا ما تصاحبها تضحيات مشتركة، تختلط فيها دماء quot;جميعquot; المواطنين.
ولو أخذنا الحال العراقية، لوجدنا أن quot;الدولةquot; الوطنية الحديثة التي تأسست على أنقاض، أو بالأحرى، انطلاقا من وجود الولايات العثمانية الثلاث (الموصل، بغداد والبصرة)، لم تخلق quot;الأمةquot; العراقية. فهذه الأخيرة كانت سابقة لظهور الأولى. وكل ما فعلته الدولة الحديثة هو تأطير سياسي جديد للعلاقات السابقة، الموجودة أصلا. فبالإضافة (وليس بالضد من، أو محو ) للانتماءات الفرعية، المذهبية، والأثنية والعشائرية والمناطقية، الموجودة سابقا، ظهر انتماء أوسع ضم جميع هذه الانتماءات هو، الانتماء الوطني العراقي الأوسع والأشمل.
بالطبع، هذا الانتماء الوطني المشترك لم يظهر دفعة واحدة، أي بمجرد أن ظهرت الدولة العراقية الحديثة. و كان مؤسس الدولة الجديدة الملك فيصل الأول على حق عندما اشتكى قائلا في بدايات التأسيس: quot;إن العراق هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحال هذه مبعثرة القوى مقسمة على بعضهاquot;.
نسأل: هل ظل ذاك التبعثر على حاله، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، أم تحول إلى بناء إسمنتي متماسك؟ هذا السؤال أجابت عليه الأحداث المأساوية التي وقعت منذ عام 2003.
بالطبع، هذا الانتماء الوطني المشترك لم يظهر دفعة واحدة، أي بمجرد أن ظهرت الدولة العراقية الحديثة. و كان مؤسس الدولة الجديدة الملك فيصل الأول على حق عندما اشتكى قائلا في بدايات التأسيس: quot;إن العراق هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحال هذه مبعثرة القوى مقسمة على بعضهاquot;.
نسأل: هل ظل ذاك التبعثر على حاله، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، أم تحول إلى بناء إسمنتي متماسك؟ هذا السؤال أجابت عليه الأحداث المأساوية التي وقعت منذ عام 2003.
فقد أبدت جهات كثيرة، رسمية وأهلية، عشية سقوط النظام العراقي السابق ودخول القوات الأميركية في ذاك العام، قلقا وخوفا من اندلاع حرب أهلية طائفية. وكان لتلك المخاوف ما يبررها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار الجغرافيا الديموغرافية المتنوعة للمجتمع العراقي. لكن الحرب الأهلية لم تقع، أقله طوال الفترة التي سبقت تفجيرات سامراء. وحتى بعد اندلاع أعمال العنف الرهيبة التي عاشها العراق غب تلك التفجيرات، ووصول الأمور إلى حافة الحرب الأهلية، فأن العنف تراجع وعادت الأمور تميل تدريجيا إلى الهدوء وتعود إلى طبيعتها. بالطبع، كانت مخاوف الذين حذروا من وقوع حرب أهلية تنطلق من فرضيات نظرية ترى وجود حالات انتقام طائفية quot;نائمةquot; ستستيقظ حال سقوط النظام السابق. أي لم يدر بخلدهم، وهم يتوقعون نشوب حرب أهلية، حل الجيش والاستيلاء على سلاحه من قبل الأهالي، ولا انهيار المؤسسات الأمنية الرسمية بذاك الشكل الذي حدث، وما كانوا يتوقعون أن يدخل تنظيم القاعدة على خط الأحداث. ولو كانوا قد عرفوا بذلك لكانوا قد جزموا جزما قاطعا بوقوع تلك الحرب.
إذن، لماذا لم تقع حرب أهلية طاحنة في العراق، على غرار الحروب الأهلية الدامية التي عرفتها بعض البلدان، رغم توفر كل عناصر قيامها، ولماذا عادت الأمور تميل إلى أوضاعها الهادئة السابقة؟
هناك عاملان رئيسيان حالا دون وقع الحرب الأهلية، أولهما النظام المدني والثقافة المدنية التي تشرب بها المجتمع العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، والعامل الأخر هو موقف المرجعية الدينية الشيعية بشخص المرجع السيد علي السيستاني، وهو موقف له علاقة بالعامل الأول ويتناغم معه، كما سنوضح لاحقا.
هنا يجب أن نوضح أن صفة quot;المدنيةquot; التي نعنيها في عنوان وثنايا هذا المقال، هي نفسها التي يسميها البعض بquot;العلمانيةquot;، لكنها في واقع الحال ليست هي العلمانية التي عرفتها أوربا. فالعلمانية الأوربية هي وليدة ظروف ومخاضات أوربية لم يمر بها العراق. أي أن النظام العلماني في أوربا لم يقم بين عشية وضحاها.ففي فرنسا، مثلا، كانت العلمانية ثمرة لصراع طويل، وتعرضت إلى تغيير وتحوير في التطبيق، إلى حد أن بعض الباحثين المختصين بهذه المسألة يتحدثون عن quot;علمانياتquot; فرنسية، في إشارة منهم إلى التطورات التي مرت بها العلمانية. وامتدت تلك الصراعات طوال قرن كامل، ولم تحصد الثمار إلا عام 1905 عندما شرع القانون الخاص بفصل الكنيسة عن الدولة وظهور ما يسميه البعض بquot;العقد العلماني LA PACTE LAIQUE quot;. وهذا العقد العلماني لم يكن عقدا معنويا شفاهيا أو quot;عقد الجنتلمانquot;، بل أطرته أسس وصيغ قانونية محددة. وإذا كان النظام العلماني الأوربي يعتمد، فيما يخص الإطار القانوني المنظم له، وبطريقة مترابطة لا انفصال فيها، على ثلاث ثوابت هي، احترام وحرية الضمير والعبادة، ورفض أي نوع من أنواع هيمنة الدين على الدولة وعلى المجتمع المدني، وعلى المساواة بين جميع الأديان، وبين كل المعتقدات، بما في ذلك قناعة أن يعلن الفرد عن إلحاده، فأن النظام المدني العراقي الذي نتحدث عنه، مختلف كثيرا.
هناك عاملان رئيسيان حالا دون وقع الحرب الأهلية، أولهما النظام المدني والثقافة المدنية التي تشرب بها المجتمع العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، والعامل الأخر هو موقف المرجعية الدينية الشيعية بشخص المرجع السيد علي السيستاني، وهو موقف له علاقة بالعامل الأول ويتناغم معه، كما سنوضح لاحقا.
هنا يجب أن نوضح أن صفة quot;المدنيةquot; التي نعنيها في عنوان وثنايا هذا المقال، هي نفسها التي يسميها البعض بquot;العلمانيةquot;، لكنها في واقع الحال ليست هي العلمانية التي عرفتها أوربا. فالعلمانية الأوربية هي وليدة ظروف ومخاضات أوربية لم يمر بها العراق. أي أن النظام العلماني في أوربا لم يقم بين عشية وضحاها.ففي فرنسا، مثلا، كانت العلمانية ثمرة لصراع طويل، وتعرضت إلى تغيير وتحوير في التطبيق، إلى حد أن بعض الباحثين المختصين بهذه المسألة يتحدثون عن quot;علمانياتquot; فرنسية، في إشارة منهم إلى التطورات التي مرت بها العلمانية. وامتدت تلك الصراعات طوال قرن كامل، ولم تحصد الثمار إلا عام 1905 عندما شرع القانون الخاص بفصل الكنيسة عن الدولة وظهور ما يسميه البعض بquot;العقد العلماني LA PACTE LAIQUE quot;. وهذا العقد العلماني لم يكن عقدا معنويا شفاهيا أو quot;عقد الجنتلمانquot;، بل أطرته أسس وصيغ قانونية محددة. وإذا كان النظام العلماني الأوربي يعتمد، فيما يخص الإطار القانوني المنظم له، وبطريقة مترابطة لا انفصال فيها، على ثلاث ثوابت هي، احترام وحرية الضمير والعبادة، ورفض أي نوع من أنواع هيمنة الدين على الدولة وعلى المجتمع المدني، وعلى المساواة بين جميع الأديان، وبين كل المعتقدات، بما في ذلك قناعة أن يعلن الفرد عن إلحاده، فأن النظام المدني العراقي الذي نتحدث عنه، مختلف كثيرا.
فالدولة العراقية، مثلا، لم تكن كما في أوربا العلمانية، محايدة. إذ ظل الدستور العراقي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وقد ظلت المدرسة العراقية quot;المدنيةquot; تدرس مادة الدين لتلاميذها، وظل رجال الدولة، حتى بصفتهم الرسمية، يمارسون تدينهم، ويقوم بعضهم بافتتاح دور العبادة، ويمنع الأجهار بالإفطار في شهر رمضان، وكان رجال الدين يمارسون بزيهم الديني المعتاد، التعليم في بعض المدارس الحكومية. ولهذا، فمن الصائب أن نطلق صفة quot;مدنيquot; على النظام العراقي الذي قامت عليه الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها وحتى هذه الساعة، تمييزا له عن النظام الديني الذي ينص على تطبيق الشريعة الإسلامية، كما تطالب به بعض الأحزاب الدينية السياسية.
وإذا كانت العلمانية الأوربية هي، في آن واحد، quot; تنظيم قانوني، وأسلوب لعيش مشتركquot;، كما يرى البعض، فأن النظام المدني العراقي سعى منذ تأسيسه لإيجاد صيغة لعيش مشترك بين جميع العراقيين، على أساس المواطنة، وليس على أساس آخر. وهذه الصيغة وجدت تطبيقا لها في النظام التعليمي، وظهور المدرسة الحكومية المجانية بمناهجها الموحدة وأبوابها المشرعة لجميع العراقيين. وقد تخرجت على امتداد عشرات السنين، أجيال عراقية من المدارس الحكومية وهي تردد نشيدا مدرسيا واحدا يتناوب في كتابة مفرداته مثقفون عراقيون من مختلف الطوائف ( كان تلاميذ المدارس الابتدائية ينشدون قصائد للزهاوي، مثلما ينشدون قصائد الشيخ محمد رضا الشبيبي، خصوصا قصيدته الشهيرة: أنتم متعتم بالسؤدد يا شباب اليوم أشياخ الغد)، وتؤدي التحية لراية واحدة هي الراية الوطنية العراقية. ومع المدرسة الحكومية quot;المدنيةquot;، تأسس الجيش الوطني العراقي الذي فتح باب التطوع فيه للجميع، قبل أن تصبح الخدمة العسكرية إجبارية لجميع العراقيين. وفي خضم المعارك التي خاضها الجيش الوطني العراقي، مهما كان رأينا في عدالتها وشرعيتها، تعززت أواصر الرفقة العراقية المشتركة. وبالإضافة لهذه التكوينات، كان الجهاز البيروقراطي ينمو باضطراد ويضم في صفوفه أعداد غفيرة من العراقيين يخضعون كلهم لنظام واحد، وينتقلون في أحيان كثيرة، للعمل في مناطق جغرافية بعيدة عن مناطقهم الأصلية.
وإذا كانت العلمانية الأوربية هي، في آن واحد، quot; تنظيم قانوني، وأسلوب لعيش مشتركquot;، كما يرى البعض، فأن النظام المدني العراقي سعى منذ تأسيسه لإيجاد صيغة لعيش مشترك بين جميع العراقيين، على أساس المواطنة، وليس على أساس آخر. وهذه الصيغة وجدت تطبيقا لها في النظام التعليمي، وظهور المدرسة الحكومية المجانية بمناهجها الموحدة وأبوابها المشرعة لجميع العراقيين. وقد تخرجت على امتداد عشرات السنين، أجيال عراقية من المدارس الحكومية وهي تردد نشيدا مدرسيا واحدا يتناوب في كتابة مفرداته مثقفون عراقيون من مختلف الطوائف ( كان تلاميذ المدارس الابتدائية ينشدون قصائد للزهاوي، مثلما ينشدون قصائد الشيخ محمد رضا الشبيبي، خصوصا قصيدته الشهيرة: أنتم متعتم بالسؤدد يا شباب اليوم أشياخ الغد)، وتؤدي التحية لراية واحدة هي الراية الوطنية العراقية. ومع المدرسة الحكومية quot;المدنيةquot;، تأسس الجيش الوطني العراقي الذي فتح باب التطوع فيه للجميع، قبل أن تصبح الخدمة العسكرية إجبارية لجميع العراقيين. وفي خضم المعارك التي خاضها الجيش الوطني العراقي، مهما كان رأينا في عدالتها وشرعيتها، تعززت أواصر الرفقة العراقية المشتركة. وبالإضافة لهذه التكوينات، كان الجهاز البيروقراطي ينمو باضطراد ويضم في صفوفه أعداد غفيرة من العراقيين يخضعون كلهم لنظام واحد، وينتقلون في أحيان كثيرة، للعمل في مناطق جغرافية بعيدة عن مناطقهم الأصلية.
قد يعترض أحد، هنا، فيقول أن النظام العراقي المدني لم يكن عادلا في كل الأوقات، ولاقت بعض مكونات المجتمع العراقي تهميشا لها بسببه.وهذا اعتراض صحيح، لكن الخطأ لا يقع على عاتق quot;علمانيةquot; أو مدنية النظام، وإنما سببه التطبيق السياسي. وهناك فرق بين quot;العلمانيةquot; كطريقة للتفريق بين الدين والدولة من جهة، وبين quot;السياسةquot; كطريقة في الحكم، من جهة أخرى. فالعلمانية لا تعني، بالضرورة، النظام الديمقراطي، مثلما لا تعني، بالضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية. فقد يكون الفرد علمانيا، وفي آن واحد، ديمقراطيا أو ليبراليا أو يساريا أو ديكتاتوريا أو حتى متدينا.
وفي موازاة النظام المدني العراقي الذي قامت على أساسه الدولة العراقية، ظهرت ثقافة مدنية عراقية، شملت الرواية والمسرح والأغنية والفنون التشكيلية والصحافة... الخ. وترافق ذلك مع ظهور أحزاب سياسية مدنية شرعت أبوابها لجميع العراقيين. وكان الهم quot;العراقيquot; هو الوحيد الشاغل لجميع هذه النشاطات. ومع تطور شبكة المواصلات وسهولة الاتصال بين مختلف المدن العراقية، وتطور العلاقات الاقتصادية، ونشوء وتطور دار الإذاعة العراقية التي بدأ صوتها يسمع في كل أنحاء العراق، انتشرت وتعززت ثقافة عراقية وطنية مشتركة.
وإذا كانت الثقافة، كما ذكرنا في البداية، لا تقتصر على ميدان واحد من ميادين الحياة، وإنما تشمل جميع الميادين، فأنه لا بد هنا أن نذكر دور الثقافة الدينية quot;الشعبيةquot; في إشاعة ونشر وترسيخ الأفكار والمواقف quot;المدنيةquot; العراقية الجامعة. فقد كان الكثير من الطقوس والفعاليات الدينية تتم ضمن أطار وطني عراقي شامل، رغم طابعها الديني الظاهر. ومن هذه الفعاليات ما يسمى بالعراق quot;المنبر الحسينيquot; والثقافة المتصلة به والمنبثقة عنه. إذ ظلت هذه الثقافة تحمل بعدا وطنيا عراقيا. ودائما ما كان يتم تصوير مأساة الحسين باعتبارها معركة بين الحق والباطل، أو بين الحرية وبين الطغيان. وكانت المواكب الحسينية مناسبات سنوية لحشد طاقات العراقيين ضد سياسة الحكومات العراقية المستبدة. ولم يعرف عن قراء المنبر الحسيني تعصبهم الديني، أو مطالبتهم بإقامة نظام سياسي إسلامي، مثلما لم يعرف عن المشاركين في حلقات الذكر والدروشة التي كانت تقام، أحيانا، في الشوارع العامة أراء دينية متطرفة ومتعصبة.
إما ما يخص المرجعية الدينية فلم يعرف عنها تعصبا وتطرفا دينيا، حتى في أوج الاقتتال الأهلي الذي شهده العراق بعد تفجيرات سامراء. ومن يتوقف مليا عند الفتاوى التي أصدرتها المرجعية الدينية العليا بشخص السيد علي السيستاني، بخصوص الأحداث الدامية التي شهدها العراق خلال السنوات الخمس الماضيات، سواء من ناحية الأفكار والتوجهات أو حتى فيما يتعلق بالمفردات القاموسية التي صيغت بها تلك الفتاوى، يجد أنها أقرب إلى quot;الخطابquot; المدني، وبعيدة عن خطاب القوى المتطرفة الدينية السياسية الشيعية والسنية. وعندما يؤكد مكتب السيد السيستاني، ردا على سؤال (ما هي رؤيتكم لمستقبل الحكم في العراق؟) بأن quot; المبدأ الذي يؤكد عليه سماحته هو أن الحكم في العراق يجب أن يكون للعراقيين بلا تسلط للأجنبي، والعراقيون هم الذين لهم الحق في اختيار نوع النظام في العراق بلا تدخل للأجانبquot;، فأن موقفا كهذا يتناغم ويلتقي مع التفكير المدني، ويعزز الثقافة المدنية القائمة، وهو مع الخيار الديمقراطي الذي ما برح العراقيون كلهم يطالبون به منذ الأيام الأولى لقيام الدولة العراقية، مثلما يعتبر رفضا لأفكار ولمواقف الجهات الدينية السياسية المتطرفة التي كادت أن تقود العراق إلى أتون حرب أهلية طاحنة.
والملاحظة الأخيرة التي تستحق الإشارة لها في نهاية هذه السطور هي الصحوة quot;المدنيةquot; وعودة الوعي quot;المدنيquot;، أو بالأحرى استيقاظ الضمير quot;المدنيquot;، وتراجع (وليس اختفاء أو غياب) الأفكار والمواقف الدينية المتشددة، ليس في منطقة جغرافية واحدة، وإنما في جميع مناطق العراق، الحضرية منها والريفية، سواء عند السكان المدنيين أو عند قوى الإسلام السياسي التي روجت لأفكار التطرف الديني. ويكفي أن نعود إلى سنة أو سنتين إلى الوراء ونقرأ ما كان يقوله الزرقاوي حول quot;مسرحية الديمقراطية العفنةquot;، أو ما كان يقوله أحرون حول ضرورة قيام quot;الجمهورية العراقية الإسلامية الفيدراليةquot;، أو حتمية قيام نظام سياسي في العراق quot;على أساس تحكيم شريعة الله في الأرضquot; أو quot;تأسيس دولة الإمام المهديquot; في العراق، حتى نجد كيف بدأ بريق تلك الشعارات يبهت يوما بعد آخر، وكيف أن الخطاب الوطني هو الذي بدأ من جديد يتصدر الواجهة.
وفي موازاة النظام المدني العراقي الذي قامت على أساسه الدولة العراقية، ظهرت ثقافة مدنية عراقية، شملت الرواية والمسرح والأغنية والفنون التشكيلية والصحافة... الخ. وترافق ذلك مع ظهور أحزاب سياسية مدنية شرعت أبوابها لجميع العراقيين. وكان الهم quot;العراقيquot; هو الوحيد الشاغل لجميع هذه النشاطات. ومع تطور شبكة المواصلات وسهولة الاتصال بين مختلف المدن العراقية، وتطور العلاقات الاقتصادية، ونشوء وتطور دار الإذاعة العراقية التي بدأ صوتها يسمع في كل أنحاء العراق، انتشرت وتعززت ثقافة عراقية وطنية مشتركة.
وإذا كانت الثقافة، كما ذكرنا في البداية، لا تقتصر على ميدان واحد من ميادين الحياة، وإنما تشمل جميع الميادين، فأنه لا بد هنا أن نذكر دور الثقافة الدينية quot;الشعبيةquot; في إشاعة ونشر وترسيخ الأفكار والمواقف quot;المدنيةquot; العراقية الجامعة. فقد كان الكثير من الطقوس والفعاليات الدينية تتم ضمن أطار وطني عراقي شامل، رغم طابعها الديني الظاهر. ومن هذه الفعاليات ما يسمى بالعراق quot;المنبر الحسينيquot; والثقافة المتصلة به والمنبثقة عنه. إذ ظلت هذه الثقافة تحمل بعدا وطنيا عراقيا. ودائما ما كان يتم تصوير مأساة الحسين باعتبارها معركة بين الحق والباطل، أو بين الحرية وبين الطغيان. وكانت المواكب الحسينية مناسبات سنوية لحشد طاقات العراقيين ضد سياسة الحكومات العراقية المستبدة. ولم يعرف عن قراء المنبر الحسيني تعصبهم الديني، أو مطالبتهم بإقامة نظام سياسي إسلامي، مثلما لم يعرف عن المشاركين في حلقات الذكر والدروشة التي كانت تقام، أحيانا، في الشوارع العامة أراء دينية متطرفة ومتعصبة.
إما ما يخص المرجعية الدينية فلم يعرف عنها تعصبا وتطرفا دينيا، حتى في أوج الاقتتال الأهلي الذي شهده العراق بعد تفجيرات سامراء. ومن يتوقف مليا عند الفتاوى التي أصدرتها المرجعية الدينية العليا بشخص السيد علي السيستاني، بخصوص الأحداث الدامية التي شهدها العراق خلال السنوات الخمس الماضيات، سواء من ناحية الأفكار والتوجهات أو حتى فيما يتعلق بالمفردات القاموسية التي صيغت بها تلك الفتاوى، يجد أنها أقرب إلى quot;الخطابquot; المدني، وبعيدة عن خطاب القوى المتطرفة الدينية السياسية الشيعية والسنية. وعندما يؤكد مكتب السيد السيستاني، ردا على سؤال (ما هي رؤيتكم لمستقبل الحكم في العراق؟) بأن quot; المبدأ الذي يؤكد عليه سماحته هو أن الحكم في العراق يجب أن يكون للعراقيين بلا تسلط للأجنبي، والعراقيون هم الذين لهم الحق في اختيار نوع النظام في العراق بلا تدخل للأجانبquot;، فأن موقفا كهذا يتناغم ويلتقي مع التفكير المدني، ويعزز الثقافة المدنية القائمة، وهو مع الخيار الديمقراطي الذي ما برح العراقيون كلهم يطالبون به منذ الأيام الأولى لقيام الدولة العراقية، مثلما يعتبر رفضا لأفكار ولمواقف الجهات الدينية السياسية المتطرفة التي كادت أن تقود العراق إلى أتون حرب أهلية طاحنة.
والملاحظة الأخيرة التي تستحق الإشارة لها في نهاية هذه السطور هي الصحوة quot;المدنيةquot; وعودة الوعي quot;المدنيquot;، أو بالأحرى استيقاظ الضمير quot;المدنيquot;، وتراجع (وليس اختفاء أو غياب) الأفكار والمواقف الدينية المتشددة، ليس في منطقة جغرافية واحدة، وإنما في جميع مناطق العراق، الحضرية منها والريفية، سواء عند السكان المدنيين أو عند قوى الإسلام السياسي التي روجت لأفكار التطرف الديني. ويكفي أن نعود إلى سنة أو سنتين إلى الوراء ونقرأ ما كان يقوله الزرقاوي حول quot;مسرحية الديمقراطية العفنةquot;، أو ما كان يقوله أحرون حول ضرورة قيام quot;الجمهورية العراقية الإسلامية الفيدراليةquot;، أو حتمية قيام نظام سياسي في العراق quot;على أساس تحكيم شريعة الله في الأرضquot; أو quot;تأسيس دولة الإمام المهديquot; في العراق، حتى نجد كيف بدأ بريق تلك الشعارات يبهت يوما بعد آخر، وكيف أن الخطاب الوطني هو الذي بدأ من جديد يتصدر الواجهة.
التعليقات