عندما جاء تنظيم القاعدة إلى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وشرع بممارسة نشاطه، فأنه جاء في الزمن الصح ولكن إلى المكان الخطأ. الزمن الصح هو الظرف الاستثنائي: بلد محتل من قبل قوات أجنبية، فقدان الأمن تماما، سلاح متوفر بالمجان، سيادة أجواء الريبة والاحتقان الطائفي، هلع شرائح عراقية من الانتقام على خلفية انتمائهم لحزب البعث والأجهزة الأمنية. إما المكان الخطأ فهو، العراق ذاته.
وعندما تنتهي الظروف الاستثنائية (وها نحن نشهد بداية نهايتها)، فأن تنظيم القاعدة يكون قد جاء إلى المكان الخطأ في الزمن الخطأ. وفي هذه الحال، فأن تنظيما كهذا لا بد أن يلفظ أنفاسه. والقوة التي بدأت بحفر قبر القاعدة هي العشائر، عندما أعلنت quot;صحوتهاquot;، نتيجة لاجتماع أسباب متعددة ومتنوعة، سنخصص لشرحها السطور التالية. أي سنحاول أن نبين، بمعنى أخر، لماذا يعتبر العراق المكان الخطأ لتنظيم القاعدة.

أولا/ عوامل quot;أنباريةquot; محلية

نعني هنا الظروف اللوجستية الخاصة التي كانت تعيشها محافظة الأنبار، حيث بدأت quot;الصحوةquot; لأول مرة. فرغم أن هذه المنطقة ظلت في منأى عن تأثيرات وتداعيات الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في المناطق الجنوبية والوسطى غب انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991، إلا أن انكسار الأجهزة الأمنية، واستمرار ضعف السلطة المركزية عموما، خلق في هذه المنطقة فراغا، أو بالأحرى خلخلة أمنية. وكانت القوة المرشحة لملأ هذا الفراغ، مثلما في كل مناطق العراق، هي العشائر وشيوخها التقليديون الأصلاء، أو quot;الشيوخquot; الجدد، أو ما يطلق عليهم في جميع أنحاء العراق تسمية quot;شيوخ التسعيناتquot;، رغم قلة عددهم في هذه المناطق، الذين شرعوا بممارسة نفوذهم الجديد. وبعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق واستمراره لعدة سنوات، ظهرت quot;تجارة خارجيةquot;، أو عمليات تهريب متنوعة، بعيدا عن سيطرة و رقابة الدولة، مثلما حدث في جميع المناطق الحدودية في العراق، تدار من قبل أفراد العشائر في هذه المنطقة، خصوصا وأن حدودها تشترك مع ثلاث دول هي الأردن وسوريا والسعودية. وكان لا بد لهذا الوضع أن يخلق quot;مراكز نفوذ ماليةquot;.
وبعد سقوط النظام الصدامي تنامى نفوذ هذه القوى، وتعددت نشاطاتها التجارية، بعد أن انضمت إليها قوى عشائرية جديدة، وبدأت هذه quot;المراكزquot; تمارس نفوذها حتى داخل المدن. وعندما بدأ تنظيم القاعدة بممارسة نشاطه في هذه المنطقة، مع كل ما يملكه من إمكانيات مالية أسطورية، وكذلك إمكانيات عسكرية، فأنه خلق تحالفات جديدة مع عدد من عشائر المنطقة، حتمها التقاء المصالح. وبدأت هذه المصالح تتخذ طابعا سياسيا وايدولوجيا وحربيا، تماما مع شروع تنظيم القاعدة بشن حرب أهلية طائفية دامية، ونجاحه في خلق quot;تخندقquot; طائفي، يحدث لأول مرة في تاريخ العراق الحديث. فقد قدم تنظيم القاعدة نفسه باعتباره اليد الحديدية الضاربة للدفاع عن العراقيين السنة. وبمرور الأيام تحول تنظيم القاعدة إلى إخطبوط بأرجل عسكرية ومالية وسياسية وأخلاقية وشرعية/ دينية، طاردا لأي نفوذ أخر، ما خلا نفوذه.
وعندما استفاق سكان الأنبار ذات يوم فأنهم اكتشفوا أن quot;الثمنquot; الذي دفعوه لتنظيم القاعدة لقاء quot;دفاعهquot; عنهم، كان ثمنا باهظا، وباهظا جدا. فقد وجدوا أن تضحياتهم ومقاومتهم العسكرية ضد الأميركيين، جيرها تنظيم القاعدة لصالحه. أكثر من هذا، فقد وجدوا أنفسهم quot;رهائنquot; أو quot;سباياquot; لتنظيم القاعدة، بكل ما تعنيه هذه المفردات، يستوي في ذلك بسطاء الناس وquot;مراكز النفوذquot; التجارية والنخب المدينية الحضرية وأفراد العشائر وشيوخها، وكذلك الكوادر السابقة في أجهزة الدولة وأجهزة حزب البعث، الذين ظنوا لأول وهلة، بسبب هلعهم من قوانين اجتثاث البعث، وبسبب اختلاط الأمور وتشوش الرؤية، أن تنظيم القاعدة سينصفهم ويحميهم ويدافع عنهم، هكذا، لوجه الله، وبدون أي ثمن.
ومع تصعيد وتيرة الأفعال الطائفية العنيفة، بأبشع أشكالها، من قبل تنظيم القاعدة، بل ولجوء التنظيم إلى قتل بعض شيوخ القبائل أنفسهم، فأن سكان الأنبار ومعهم جميع العراقيين السنة، اكتشفوا أن الصورة التي بدأ تنظيم القاعدة يرسمها لهم، في عيون مواطنيهم العراقيين وفي عيون الرأي العام الأجنبي، هي صورة أكلي لحوم بشر وقطاع طرق وقراصنة ومرتزقة مأجورين، ومجموعات من الأوغاد يتراكضون وراء الحصول على فديات مالية.

وإزاء أوضاع كهذه، وحتى يتخلصوا من نفوذ القاعدة، كان عليهم أن يتمردوا ضدها. ولكن من يتجرأ؟ وكانت العشائر، بما لديها من نفوذ، هي القوة الوحيدة التي تجرأت ووضعت quot;الجرس في رقبة القطquot; القاعدي، فانكسر حاجز الخوف، وحدث ما حدث.

ثانيا/ عوامل ثقافية تتعلق بطبيعة quot;العشيرةquot; العراقية عموما

العشيرة (ونحن نتحدث هنا عن العشائر العراقية في كل مناطق العراق) هي مؤسسة اجتماعية لها قوانينها الخاصة بها، وهي قوانين quot;دنيويةquot;، قابلة للتحوير والتغيير، وليست نصوص دينية مقدسة. وإذ يلتقي بعض من هذه القوانين العشائرية ويتطابق مع ما ينص عليه القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية، كالنخوة، وإجارة الغريب quot;الدخيلquot;، والصدق في التعامل، وغيرها كثير، فأن هناك قوانين أخرى تتقاطع مع تعاليم الإسلام والنصوص القرآنية.
فعلى سبيل المثال، تنص التعاليم الإسلامية على quot;آدميةquot; البشر ومساواتهم في الدنيا والآخرة، باعتبارهم جميعا quot;ناسquot; من نسل آدم وحواء، خلقهم الله من quot;نفس واحدةquot;، ويكرمهم الله بموجب تقوى كل منهم، وليس وفقا لأي اعتبار أخر (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون). إما القانون العشائري فيصنف الناس وفق مراتبية خاصة، ويضع معيار quot;الدمquot; أو صلة القربى، في المقام الأول، ويطالب من الأخ أن ينصر أخاه quot;ظالما ومظلوماquot;، ويأخذ بثأره بغض النظر عن أي حيثيات.
وفي الوقت الذي تضع فيه النصوص القرآنية والتعاليم الإسلامية، بدون لبس ولا غموض وبإلحاح وبتكرار، المسؤولية على عاتق الفرد وحده، وتحمله وحده وزر أفعاله (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى. سورة الأنعام. وأقرأ أيضا: سور الإسراء، الزمر، النجم، فاطر )، فأن قانون العشيرة يضع المسؤولية على عاتق العشيرة كلها كوحدة واحدة، وبطريقة تضامنية تكافلية، فيدعو إلى أخذ الثأر من شخص، ليس له من أي جريرة تذكر غير انتماءه لعشيرة القاتل.
و بموجب الشرع الإسلامي لا يجوز قتل الفرد على الشبهة، ونهى القرآن عن الظن (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا. سورة يونس)، بينما ينص قانون العشيرة على قتل المرأة والرجل، على الشبهة وبمجرد الظن أن بينهما quot;علاقةquot; جنسية أو حتى عاطفية.
وبينما تفرد التعاليم الإسلامية أحكاما خاصة ومحددة، تعالج جرائم السرقة والزنا والقتل المتعمد والحروب، فأن للعشيرة قوانينها الخاصة، التي تعالج هذه الحالات، وهي قوانين أملتها الأوضاع الاقتصادية والديموغرافية والبيئية والحربية للعشيرة. ومن هذه القوانين: دفع quot;الديةquot; وquot;الفصلquot;، وquot;أخذ الثارquot;، وquot;النهوة/ بفتح النون والهاءquot; وquot;كسر العصاquot;، وquot;الوديquot;، وquot;الزواج كصة بكصةquot;، والزواج المبكر جدا، وتعدد الزيجات بطريقة مبالغ بها، واقتناء السلاح، باعتباره quot;الشرعيةquot; الوحيدة التي تسوى بها الأمور، بعيدا عن أي شرعية أخرى، دينية أو دنيوية.

والكثير من القوانين العشائرية، خصوصا ما يتعلق بالأحوال الشخصية( كquot;النهوة، مثلا) كانت موجودة قبل ظهور الإسلام، لكنها ظلت باقية حتى يومنا هذا، رغم أن الإسلام نهى عنها. فابن العم، مثلا، ما يزال، مثلما الحال في الجاهلية quot;يقدم على غيره في زواج ابنة عمه، ولا يزال مقدما على غيره. وما زالت البنت تجبر على الزواج به في حال عدم رغبتها من الزواج، وقد لا يتركها تتزوج من غيره إلا بإرضائه، وقد يكون هذا الإرضاء بدفع ترضية لهquot; (جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام،ج5 ص529).

والواقع، أن موقف العشيرة العراقية من الدين الإسلامي لا يقتصر فقط على تمسكها بعادات وتقاليد متعارضة مع الإسلام، وإنما يمتد فيشمل quot;تدينquot; أفراد العشائر. فالمعروف أن أبناء العشائر العراقية كانوا، إلى أوقات قريبة، بدوا رحل، أو quot;أعرابquot; يتنقلون طلبا للماء والعشب. والمشهور عن quot;الأعرابيquot; هي عقليته البراغماتية، وضيقه وتبرمه من القوانين والانضباط وquot;الاتيكيتquot;. وقد انتقد القرآن الكريم الأعراب في أكثر من موضع، لهذا السبب بالذات. ومن يراجع أمهات الكتب التراثية العربية فانه سيجد الكثير الكثير من الطرف والنوادر المتكررة التي تتحدث عن براغماتية البدوي، واستحسانه لما يطابق حياته العملية. ويكفي، هنا، أن نذكر اختصارا، نادرة يرويها الابشيهي في(المستطرف)، ومفادها أن أعرابيا quot;لزم سفيان بن عينية مدة يسمع منه الحديث، فلما جاء ليسافر قال له سفيان: يا أعرابي ما أعجبك من حديثنا؟ فقال ثلاثة أحاديث. حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان يحب الحلوى والعسل، وحديثه عليه الصلاة والسلام: إذا وضع العشاء وحضرت الصلاة فأبدوا بالعشاء. وحديث عائشة عنه أيضا: ليس من البر الصوم في السفرquot;.
وما قلناه لا يعني بأي حال من الأحوال أن أفراد العشائر زنادقة وملحدون، بقدر ما يعني أن بيئتهم وطبيعة عملهم لا تفسحان مجالا للغلو والتدين المتزمت المبالغ فيه، الموجود في الإسلام السياسي quot;الحضريquot;. فالمرأة الريفية العراقية في المناطق الغربية والجنوبية والوسطى ظلت دائما وأبدا سافرة الوجه، لا تعرف النقاب، فما بالك بالبرقع أو quot;الجاد ورquot; الأفغاني. بل، أن بعض القرويات العراقيات يقمن بأنفسهن بتسويق وبيع بضائعهن ويجالسن الذكور مكشوفات الوجوه في الأسواق. وحتى ممارسة بعض الشعائر والطقوس الدينية، كالدروشة وquot;التعزياتquot; الحسينية، وما يرافقها من quot;تطبيرquot; الرؤوس، لم تجد لها ممارسات واسعة في الأرياف العراقية. لكن، بالمقابل نجد، مثلا، أن quot;السيد/الشخص المنحدر من سلالة الرسولquot; يحظى بأهمية لدى الريفيين، لأنه الرجل الذي يحتاجون إليه في حياتهم العملية، و يعينهم على حل مشكلاتهم وقضاياهم اليومية، كالتوسط في حل النزاعات، والتزويج والطلاق.

وحتى quot;النذورquot; للأئمة والأولياء الصالحين، فهي تعبير عن الحاجة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، المفقودة على الأرض، لأن أصحاب النذور لا يتوسلون الأئمة والأولياء لأن يصبحوا مؤمنين صالحين أو أن يدخلوا الجنة، فهم متيقنون من إيمانهم بالله، وإلا فأنهم ما كانوا سيأتون إلى مراقد يؤمنون أن أصحابها مقربون عند الله. إنهم يأتون ليتوسلوا الشفاعة لتحقيق مطالب وأمنيات دنيوية على الأرض: زواج، عودة ميمونة لغائب، نجاح في المدرسة، شفاء من مرض، إطلاق سراح سجين، الحصول على اعتراف من متهم بارتكاب فعل شائن... الخ.
إن فكرة تحقيق العدالة الاجتماعية، ولأسباب متعددة لا متسع لشرحها هنا، هي التي تشغل بال العراقيين، أكثر ما تشغلهم فكرة الصحوة الدينية الإسلامية، بالمعنى الذي تعنيه التنظيمات الدينية السياسية المتطرفة، بكل أطيافها وألوانها.
ولهذه الأسباب، فأن ما جاء به تنظيم القاعدة من تعاليم متشددة، متزمتة وصارمة لم يلق هوى في نفوس أفراد العشائر ولا استجابة. ومما زاد من تبرم أفراد العشائر العراقية الذين نشط في وسطهم تنظيم القاعدة هو، أنهم وجدوا بين ظهرانيهم، بين عشية وضحاها، صبيانا ومراهقين أجانب، بعضهم لا يقرأ ولا يكتب، جاءوا من أماكن جغرافية نائية، أي من quot;الأطرافquot; ليعلموا العراقيين أمور دينهم ودنياهم ويشرحوا لهم ما يجوز وما لا يجوز، هم سكان quot;المركزquot; الذين ازدهرت الخلافة الإسلامية لقرون طويلة على أرضهم، وخرج أئمة الفقه من ديارهم.

ثالثا/ عوامل ديموغرافية وجيوبوليتيكية

جاء تأسيس الدولة العراقية الحديثة نتيجة، أو بالأحرى، بفضل انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية، وقيام الثورة العربية ضد الحكم العثماني. ولم تنهض الدولة العراقية الحديثة، لولا جهود الضباط الشريفين: نوري السعيد، جعفر العسكري، علي جودت الأيوبي، جميل المدفعي، ياسين الهاشمي، تحسين العسكري، شاكر الوادي، علي جودت الأيوبي، طه الهاشمي، الذين كانوا في أكثريتهم من السنة.
وإذا كانت الثورة quot;العربيةquot; التي شارك فيها أولائك الرواد قد أرست الأسس الأولى للدولة العراقية الحديثة، فأن تلك الثورة quot;العربيةquot; المضادة للخلافة quot;الإسلاميةquot;، ظلت مستمرة، ولكن هذه المرة ضد التواجد الاستعماري الغربي، بعد أن حملت لوائها أجيال جديدة من العراقيين العرب السنة، وبعد أن طعموها بأيدولوجيا راديكالية، قومية عروبوية علمانية، وأسسوا لها حركات وأحزاب سياسية جديدة.
قد يقال، هنا، أن العراقيين العرب الشيعة هم الذين أسسوا وقادوا تلك الحركات السياسية القومية العروبوية. وهذا كلام صحيح، وبالإمكان الاستشهاد بأسماء عديدة منها: فؤاد الركابي، وسعدون حمادي، وهاني الفكيكي، ومحسن الشيخ راضي، وحميد خلخال وآخرون كثيرون. لكن، الفكر القومي العروبوي لم ينتشر ويتوسع إلا في المناطق العربية السنية.
وعدم انتشار الحركات الإسلامية السياسية، حتى بصورها الأقل تطرفا، في المناطق العربية السنية، ليس مرده، بالتأكيد، إلى عدم إيمان سكان هذه المناطق، أو استهانتهم بالإسلام، أو شعورهم بالانسحاق والدونية أمام الأفكار الغربية. العكس هو الصحيح. فقد عرف عن سكان هذه المناطق من العراق، عقليتهم المحافظة، وتدينهم، خصوصا في المناطق الحضرية، ولكن، أيضا، قدرتهم على مجاراة روح العصر واستيعاب متغيراته. فقد أصبحت مدن صغيرة، كانت إلى حد قريب أشبه بالقرى، مثل آلوس، وعانة، والرطبة، والدور، وعوينات، وحديثة، والقائم، وهيت، و راوة، مراكز حضرية أمدت المؤسسات التعليمية والجامعات العراقية بالمزيد من الإناث والذكور، وفي أوقات مبكرة جدا.
إن العقلية المحافظة، هنا، لا تعني، بالضرورة،التزمت أو التطرف الديني، ولا تعني حتى التدين بحده الأدنى، فقد يكون رجل ما بعقلية محافظة، يرفض رفضا باتا أن تسفر أبنته عن وجهها أو حتى أن تذهب إلى المدرسة، لكن هذا الرجل في الوقت نفسه، إنسان لم يصل يوما في حياته. العقلية المحافظة تعني تطبيق quot;قانونquot; quot;العيبquot; الاجتماعي، أكثر من كونها منظومة أفكار وقيم متكاملة مقننة مسيسة ومؤدلجة. وتدين الناس في هذه المناطق، ليس له علاقة بتوظيف الدين لغايات سياسية. ولو سألت سكان هذه المناطق عن quot;الدولة الإسلاميةquot; التي تريد القاعدة بنائها، لقالت الغالبية المطلقة منهم: نحن مسلمون وكفى، ولا أحد يزايد علينا.
بالإضافة لهذه العوامل السوسيولوجية لعدم انتشار التطرف الإسلامي في مناطق العراقيين العرب السنة، هناك عامل أخر، يتعلق هذه المرة بالتنوع الديني والمذهبي بالعراق كله، ويتعلق، أيضا، بطبيعة التدين السني quot;العراقيquot;. وحتى نختصر، فأننا نذكر ما يقوله بعض الباحثين بأن الأمام (أبو حنيفة الكوفي)، مؤسس المذهب الفقهي الحنفي قد دخل السجن بأمر الخليفة المنصور وتعرض للعذاب اليومي في سجنه، بسبب quot;ميله إلى العباسيين أيام الدولة الأموية، وميله إلى العلويين أيام الدولة الأموية (د. وليم الخازن، الحضارة العباسية، دار المشرق 1992،ص150)quot;. ويكفي أن نذكر، أيضا، أن quot;أبو الثناء الآلوسيquot; (1802-1854)، صاحب تفسير القرآن، المعنون quot;روح المعانيquot;، الذي كان يعتبر من أبرز علماء السنة بالعراق في القرن التاسع عشر، يرى أن ما تدعيه الوهابية من دعاوى هي، دعاوى quot;جاهلةquot;، من شانها quot;تدنيسquot; قلب المسلم. فقد quot;كتب الآلوسي الذي تلقى دروسه عن الشيخ علي السويدي، وهو عالم سلفي معروف، كتب يقول: quot;من الأنصاف القول إن السويدي لم يدنس قلبه بدعاوي الوهابية الجاهلةquot;. وبالعكس من توجهات الوهابية التي تكفر الشيعة، فان الآلوسي كانت له quot;علاقات ودية مع شيعة بغداد. ( طارق حمدي الأعظمي، نشوء الحركات الإسلامية السنية في العراق المعاصر) quot;.
هناك سبب أخر لعدم شيوع الحركات الإسلامية المتطرفة لدى العراقيين السنة، يتعلق بالجغرافية الديموغرافية الطائفية والأثنية في العراق عموما، التي تشجع العراقيين العرب السنة للتوجه نحو quot;العالم العربيquot;، كعمق استراتيجي لهم، وليس نحو quot;العالم الإسلاميquot;. وسنجعل من ظاهرة العودة إلى (الزي العربي، العقال والكوفية) هذه الأيام، المدخل لتوضيح ما نريد قوله في هذه الفقرة، رغم علمنا أن quot;مدخلاquot; كهذا قد يبدو في عيون البعض، ثانويا وربما ساذجا وبدون قيمة.
لقد رأينا، مباشرة بعد سقوط النظام السابق الكثير الكثير من الوزراء، وكبار رجال الدولة وقادتها، وكبار قادة الجيش، وأطباء ومهندسين ومحامين، وحتى رجال دين معروفين، من العراقيين العرب السنة، وقد ارتدوا، فجأة، الزي العربي quot;العقال والكوفيةquot;. وغالبية أفراد النخب هولاء، إن لم نقل كلهم، لم يسبق للعراقيين، قط، أن شاهدوهم سابقا يرتدون هذا الزي. فهل أن هذا التحول هو مجرد مصادفة، أو رغبة عابرة في التغيير؟ لا نعتقد ذلك. فالزي، أي زي هو، من الناحية السوسيولوجية، quot;هوية ورمز ودلالةquot;. والquot;دلالةquot; هنا هي ذات محتوى سياسي، وquot;رسالةquot; يرغب مرسلوها أن يؤكدوا على عمقهم quot;الاستراتيجيquot; quot;العربيquot;، بكل ما يملك هذا العمق من قوة بشرية، وسلطة سياسية، وقوة اقتصادية وامتداد جغرافي. أي أنهم يريدون الإعلان بأن كميتهم العددية quot;الديموغرافيةquot; داخل العراق، ليس هي وحدها ما يعتد به، إنما هي quot;جزءquot; وquot;امتدادquot; لكثافة quot;عربيةquot;، ولquot;احتياطquot; quot;عربيquot;، لا يبعد سوى عدة كيلومترات عن حدود العراق.
ولعل المتجول في شوارع العاصمة العراقية عقب قيام ثورة 14 تموز 1958 واشتداد الصراع وقتذاك بين القوى القومية العروبوية، وبين القوى اليسارية، ما يزال يتذكر كيف أن القوى القومية العروبوية كانت تستعين ب quot;الدمquot; أوquot;العرقquot;، أو الانتماء العربي، لتوظيف العامل الديني لصالح قضيتها، عندما كانت تخط على جدران بغداد شعار: quot;كان محمد كل العرب، فلتكن كل العرب محمداquot;.

رابعا/ عوامل تتعلق بquot;عرقنةquot; الإسلام، أو الإسلام quot;العراقيquot;

في الواقع، أن النهاية المأساوية، أو لنقل بداية النهاية المأساوية التي يعيشها هذه الأيام تنظيم القاعدة في العراق لم تكن مفاجأة لأحد. بل هي ليست مفاجأة حتى لمؤسس التنظيم نفسه، أبو مصعب الزرقاوي. ففد تنبأ الزرقاوي، في رسالته الشهيرة لأبن لادن والتي وقعت بأيدي القوات الأميركية وتم نشرها في وسائل الإعلام عام 2004، بهذه النهاية التراجيدية. في تلك الرسالة أكد الزرقاوي بطريقة حاسمة وقاطعة على أن الحرب الأهلية هي السبيل الوحيد لبقاء تنظيمه ناشطا داخل العراق. وفي حال عدم وقوع الحرب، واستتباب الأمن، فليس هناك من طريق سوى quot;الاختناق ورب الكعبة ثم السحل في الطرقاتquot;، أوquot;أن نحزم متاعنا ونشد رحلنا إلى أرض أخرى كما هي القصة الحزينة المتكررة في ساحات الجهادquot;. (نقلا عن صحيفة الزمان الصادرة في 03/03/2004 وكانت صحف عربية أخرى قد نشرت نص الرسالة).
لا نعرف عن أي quot;قصة جهادية حزينة متكررة quot; يتحدث الزرقاوي؟ لكننا لو عدنا إلى تاريخ العراق المعاصر لوجدنا، فعلا، قصة quot;جهاديةquot; حزينة هي، quot;قصةquot; تأسيس أول فرع لحركة الأخوان المسلمين في العراق في بداية العقد الرابع من القرن الماضي، وتحديدا في عام 1940. في ذاك العام وصل إلى العراق أحد أعضاء جماعة quot;الأخوان المسلمونquot; في مصر أسمه محمد عبد الحميد أحمد ليؤسس فرع عراقي للجماعة. وبعد أن قضى الداعية المصري ثلاث سنوات في العمل الجهادي قفل عائدا إلى بلاده. وهناك في مصر، و quot;في لقاء شهده الآلاف، قام محمد عبد الحميد أحمد، عضو جماعة quot;الأخوان المسلمونquot; في مصر، وقدم تقريرا حول مستقبل الدعوة في العراق بعد رحلته هناك، وخلص إلى أن العراق (حالة ميئوس منها) quot;القوسان من عندنا. ح.ك.quot; بالنسبة لدعوة الأخوان. وقال قي تقريره أن quot;الفساد في العراق عميق ومتسعquot;. وأكد أنه quot;خلال السنوات الأربع التي أمضاها يعمل هناك لم يحرز نجاحا يذكر.quot; ( طارق حمدي الأعظمي، نشوء الحركة الإسلامية السنية المعاصرة في العراق. رسالة ماجستير مقدمة لجامعة هارتفورد عام 1996).
وفي حينه، هناك من كان قد وجد في استنتاج الداعية المصري، ابتعادا عن الصواب ووقوعا في فخ التشاؤم، فحاول إعادة الكرة من جديد. ونحن نشير، هنا، إلى الشيخ محمد محمود الصواف (1912-1992). فقد رأى الصواف، وكان حاضرا في القاهرة أثناء إعلان الداعية المصري لإستناتجه، بأن ما قاله زميله المصري غير صحيح quot;. quot;ومن فوره أخذ الصواف الميكرفون للرد على المتحدث، فأعلن استياءه من التقرير قائلا: إن العراق سيقتفي مثال مصر في الدعوة، وأن الشعب هناك سيعمل في سبيل النهضة الإسلامية وإعلاء شان الأمةquot;. (نفس المصدر).

لكن الأيام والأعوام التي تلت أثبتت، في واقع الأمر، أن الصواف كان، على المستوى الشخصي، يملك إرادة فولاذية وعزيمة لا تضاهيان. لكنه، فيما يخص قراءته لأوضاع المجتمع العراقي، فأنه كان مفرطا في تفاؤله الرومانسي الحالم، عكس زميله الداعية المصري. فبعد أن عاد الصواف إلى العراق فأنه حاول، بإصرار كبير ورغبة حقيقة، أن quot;يقتفي مثال مصر في الدعوةquot;، إلا أن جهوده لم تثمر، حتى ولا ربع ما أثمرته جهود الأخوان المسلمين في مصر. ولم يمر عام 1959 حتى quot;حزم الشيخ الصواف متاعه وشد رحلهquot;، هو الأخر، وغادر بلاده العراق نهائيا.
وعندما أصبح الصواف خارج العراق فأنه (وهذه واحدة من المفارقات القاتلة بالنسبة للإسلام السياسي في العراق) نجح في مسعاه نجاحا كبيرا، انطلاقا من السعودية التي استوطنها، باتجاه أفريقيا ودول أخرى، أكثر ألف مرة مما فعل وهو في بلاده العراق. بل، أن الصواف وافته المنية في أحد المطارات وهو يستعد للدخول في طائرته التي تقله إلى حيث يواصل دعوته.
بالطبع، سيقال أن الصواف لم يغادر بلاده العراق طوعا، وإنما مكرها بسبب الأوضاع السياسية التي أعقبت ثورة تموز 1958. وهذا صحيح، لكن تلك الظروف السياسية التي كان الصواف وعموم الإسلام السياسي داخل العراق يستند عليها في تبرير إخفاقاته، زالت نهائيا بعد 8 شباط 1963، رغم ذلك فأن الصواف لم يعد إلى العراق. ولا نعتقد أن أحدا من مريده أو تلاميذه الذين خلفوه في العراق حقق، بعده، نجاحا مدويا في الطريق ذاته، فقد ظلت حركة الأخوان المسلمين، تاريخيا، ضعيفة التأثير داخل لوحة الحركة السياسية العراقية، بما في ذلك المناطق التي يتواجد فيها العراقيون السنة، وحتى في أوج المد الإسلامي quot;الحركيquot; الذي اجتاح المنطقة.
والأمر الذي يتوجب أن يتوقف عنده أي باحث، هنا، هو أنه في الوقت الذي لم يجد فيه الإسلام السياسي موطئ قدم له داخل المناطق العراقية السنية، فأن الحركات العروبوية العلمانية، ومنها حزب البعث وحركة القومين العرب على سبيل المثال، وجدت في هذه المناطق قلعة حقيقة لها، منذ تأسيس الدولة العراقية، وحتى نهاية القرن الماضي.
فلم يحدث هذا الأمر وكيف نفسره؟
لو عدنا ثانية للواقعتين التاريخيتين لوجدنا أن الداعية المصري يرد فشل تأسيس حركة الأخوان المسلمين إلى quot;الفساد العميق والمتسع في العراقquot;. إما مؤسس تنظيم القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي فرد فشل تنظيمه إلى طبيعة العراقيين أنفسهم.
يقول الزرقاوي في رسالته المذكورة: quot;العراق في الجملة فسيفساء سياسية وخلطة عرقية وتباينات مذهبية طائفية متناثرة لا تنقاد إلا لسلطة مركزية قوية وسلطان قاهر بدءا من زياد بن أبيه وانتهاء بصدام... فهي أرض متاعب جمة المصاعب لكل جاد ولاعبquot;.

وسوف لن نتوقف عند هذه الأحكام فهي، مثلما يرى القارئ، أشبه بشتائم بحق شعب بأكمله، لكننا سنتوقف عند وصف الزرقاوي للعراق بأنه quot;أرض متاعب جمة المصاعبquot;، و نحن نتوقف عند هذه العبارة لأنها ليست من بنات أفكار الزرقاوي، وإنما هي موجودة، بهذه الصيغة أو تلك، في كتب التراث، وتحولت إلى quot;لازمةquot; يرددها كل من يعضله أمر العراق والعراقيين.
نعم، العراق هو، حقا، quot;أرض متاعب جمة المصاعبquot;، ولكن ليس بالمعنى الذي يقصده الديكتاتوريون وأصحاب النظرة الواحدية الشمولية التبسيطية، الذين يريدون حكم العراق بحد السيف، وإنما بمعنى الثراء والتنوع، والتراكم الحضاري العتيق، والعقلية المركبة المتطورة، التي لا يمكن للون واحد فقط أن يروضها، ولا يمكن لأي حكم أن يسود فيها غير الحكم الديمقراطي التعددي التسامحي الانفتاحي.
وهذه المواصفات العراقية مردها إلى الموقع الجيوستراتيجي للعراق ولوضعه الجيوبوليتكي، وإلى التنوع الديموغرافي، وإلى البعد التاريخي وإلى العمق الحضاري.
صحيح أن الدولة العراقية الحديثة قد خلقها الإنكليز في مطلع القرن الماضي، إلا أن الأرض العراقية والبشر الذين عليها لم يتم خلقهم في مطلع القرن الماضي.
وحتى نحاول أن نتلمس أسباب انكفاء مشروع الإسلام السياسي المتشدد، بكل مدارسه ومذاهبه، داخل العراق، علينا أن نعود إلى بداية دخول الإسلام إلى العراق، وبعد ذلك إلى طبيعة التنوع الديني والمذهبي والقومي.

أهل بابل
إن الإسلام عندما دخل العراق لم يجد أمامه أرضا بكر، وإنما وجد منطقة تتعايش فيها حضارات متنوعة، ولم يجد سكانا بعقلية بدوية صحراوية، بل سكانا quot;من طراز عقلي يختلف عن طراز العقلية العربية البدويةquot;، يتقنون لغات متعددة وتتنازعهم تيارات فلسفية مختلفة (د. يوسف خليف، حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني للهجرة، ص231).
فقبل الإسلام استوطنت على هذه الأرض أقوام كثيرة منذ 125000 قبل الميلاد، وازدهرت حضارات عظيمة راقية، منها موغلة في القدم، كالسومرية والبابلية والأشورية، ومنها معاصرة وقتذاك كالفارسية. وكان القرآن الكريم قد ذكر حضارة وادي الرافدين، بالأسم، فذكر quot;بابلquot; باعتبارها واحدة من الأمم البائدة، مثل أرم، عاد، ثمود، مدين (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) سورة البقرة.
وبابل هذه التي يرد ذكرها في القران الكريم هي بابل العراق. وتقول بعض أمهات الكتب أن الأمام علي بن أبي طالب مر ببابل وهو يسير فجاء المؤذن يؤذنه بالصلاة، فلما فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي بأرض المقبرة ونهاني أن أصلي ببابل فإنها ملعونة (الطبري،ج1/ص143). وتسمية quot;بابلquot; كانت شائعة منذ بداية الإسلام، وهي تطلق على سكان ما تسمى الآن بمنطقة الفرات الأوسط. فعندما زار الشاعر عمر بن أبي ربيعة مدينة الكوفة، وهي لما تزل في بداية عهدها بالإسلام، خاطب أهلها قائلا:

يا أهل بابل ما نفست عليكم من عيشكم إلا ثلاث خلال
ماء الفرات، وطيب ليل بارد وغناء مسمعتين لابن هلال

اللاتجانس الإيجابي
وما كان quot;أهل بابلquot;، يتمتعون فقط برغد العيش وملذات الحياة العابرة، بل بالنشاط العقلي الفوار، أيضا. فقد كان هناك تواجد لثقافات فارسية وإغريقية ورومانية، وانتشار مسيحي واسع، إذ أن الأديرة التي كانت منتشرة جدا وقتذاك،ظلت كذلك طوال الفترة العباسية في العراق حتى انك لا تكاد تعثر على منطقة عراقية لا يتواجد فيها دير (يفصل الشابشتي في quot;الدياراتquot; مواقع هذه الأديرة).
وإذا كان وادي الرافدين قد أصبح مركز الحضارة الإسلامية، فأن الإسلام لم يسلب العراقيين روحهم المتسامحة، ولا عقليتهم المنفتحة، ولا إرثهم الحضاري، ولا نزوعهم للتعددية الفكرية الثقافية، ولا ريادتهم لحركات التجديد، بقدر ما عزز هذه الخصال، ومنحها أفقا أوسع، من الكوفة إلى البصرة إلى بغداد إلى الأنبار. وإذا صح التعبير، فبالإمكان القول أن الإسلام quot;تعرقنquot; في وادي الرافدين. بالطبع، أن القرآن الكريم هو قرآن واحد، وهو كلام الله، لكن الذين يطبقونه هم بشر. ولو كان البشر (المسلمون) يطبقون القرآن الكريم بفهم واحد، لما حدثت خلافات بين المسلمين، ولما قتل بعض الخلفاء، ولما ظهرت الملل والنحل في الإسلام. والعراق كان موطنا لكثير من هذه الملل والنحل، أي لوجهات النظر المختلفة. وظل العراق على الدوام عصيا على quot;التجانس السلبيquot;، أي تفرد اللون الواحد.
وهذا quot;اللاتجانس الايجابيquot; أنتج حيوية وديناميكية، وجعل من وادي الرافدين بؤرة لصراعات وخلافات واجتهادات فكرية وفقهية وسياسية، لم تتوقف يوما واحدا، يصاحبها (وهذا تحصيل حاصل وأمر متوقع) تغيير للقناعات، ورفض للجمود الفكري، وتعديل في المواقف، وتبديل للولاءات، وتنازل عن وجهات نظر معينة إذا استجدت وجهات نظر أخرى مغايرة، وتبني المرونة واستبعاد الدوغماتية في التعامل مع الآراء و الأحكام.

وهذه الصفات هي التي جعلت الزرقاوي يشكو من العراق والعراقيين، ويقول (في نفس رسالته التي ذكرناها سابقا) بأن quot;الساحة العراقية ليست كسائر الساحات، ففيها من السلبيات ما ليس موجودا في غيرهاquot;، وإن quot; الناس (أي العراقيين) على دين ملوكهم، قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية أي مع القوة والغلبةquot;.

بدون شك، أن وجود تلك quot;الخصالquot; لا يعني أن الأوضاع داخل العراق كانت على الدوام بردا وسلاما، وان العراقيين هم مجموعة من الملائكة، بدون خلافات كبيرة بينهم. لا. ما نريد قوله هو، أن quot;الموزائيكquot; العراقي أجبر (نعم، أجبر) العراقيين، ومنذ أزمان طويلة، على قبول quot;تسويات/ COMPROMIS quot;، حتى لو بحدها الأدنى و حتى لو كانت عرجاء، وحتى وإن كانت غير رسمية، أو غير مدونة أو غير معلنة، أو غير واضحة، وإلا فأنهم لن يستطيعوا العيش بشكل مشترك. والصيغ quot;التسوويةquot; تشترط من كل أطرافها، لكي توجد وتستمر، إبداء قدر كبير من التنازلات المتبادلة، والمرونة، والانفتاح، والاستماع إلى ما يقوله quot;الآخرquot; المختلف، والإسراع في لجم قوى التطرف، الموجودة دائما وأبدا، ولكنها تنتظر الفرص الملائمة لكي تظهر.
ولهذا، عندما شرع تنظيم القاعدة في تجاوز هذه الحقائق، وبشكل دموي، فأنه أطاح بquot;العقد الاجتماعيquot;، وأيقظ كل النزعات المتطرفة الكامنة، وأوجد ردود مشابهة فغرقت البلاد، أو كادت أن تغرق في حرب أهلية، بعد أن ساد التطرف، ولم يعد هناك مجالا للحلول التسووية.
بهذا المعنى، فأن quot;صحوةquot; العشائر هي استعادة لوعي غيب توا، ولحقائق سرقت توا، ولواقع تم طمسه توا (وتوا، نعني بها السنوات الأربع الماضيات). وبهذا المعنى أيضا، فان الصحوة هي عملية رفع ستارة أراد التزمت والتطرف الديني بكل أطيافه، إسدالها على المجتمع العراقي بمواصفاته المعلومة. ولهذا السبب فأن quot;الصحوةquot; لم تجد ترحيبا حماسيا من لدن الحركات الإسلامية السياسية بكل توجهاتها. وبهذا المعنى نفسه، فأن صحوة العشائر هي quot;فعلquot; عراقي وطني.
والسؤال الآن هو: ما هو مستقبل quot;الصحوة، وأي مسارات ستتخذ، وهل ستراوح في دائرتها quot;العشائريةquot; وتنكفئ على نفسها، أم تتحول إلى حركة سياسية عراقية واسعة؟ هذا ما سنحاول الإجابة إليه في فرصة قادمة.

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه