(2/2)

جماهير التيار الصدري (1/ 2)

كنا قد أنهينا القسم الأول من هذا المقال بالسؤال التالي: quot; بعد مرور أكثر من عشر سنوات على انتفاضة شهر آذار الشعبية التي حدثت غب انتهاء حرب الكويت، سقط نظام صدام حسين وشعرت الطبقات الفقيرة المهمشة التي أشعلت شرارة الانتفاضة أن فرصة تاريخية كبرى توفرت أمامها ستنقلها من quot;الهامشquot; إلى الواجهة. فماذا كانت المحصلة؟quot;.
كلنا نعرف أن نظام صدام حسين لم تسقطه أي قوة عراقية، وإنما أسقطته القوات الأميركية المحتلة أو المحررة أو الغازية أو المجرمة أو الملائكية (أطلقوا ما شئتم من نعوت، لأنها ليست مهمة كثيرا، بقدر ما يتعلق بالموضوع الذي نعالجه في هذه السطور). وحالما سقط تمثال صدام، فأن quot;شطار بغداد وعياروهاquot; شرعوا بتنفيذ عمليات نهب لممتلكات الدولة، بما في ذلك أسرة المستشفيات، انتقاما وتشفيا، رغم أن تلك الممتلكات العامة تم شراؤها في نهاية المطاف من الخزينة العامة، أي بأموالهم هم وليس بأموال صدام حسين، وهم الذين يستفيدون منها وليست عائلة صدام.
عمليات النهب تلك، شجعتها ورعتها القوات الأميركية لكي تثبت أميركا للعالم أن صدام معزول ومكروه من شعبه، ولتحصل بالتالي على غطاء شرعي، ولو أخلاقي معنوي كانت بأشد الحاجة إليه، لتبرير حربها بعد أن كانت قد فشلت في الحصول على غطاء قانوني من مجلس الأمن، وتأييد من المجموعة الدولية. بعد انتهاء عمليات النهب التي لم تكن على أي حال، أكثر من جمع فتات، التفت فقراء العراق أمامهم (ولنقل فقراء الشيعة مادمنا نتحدث عن التيار الصدري) فماذا سمعوا وماذا شاهدوا؟ سمعوا خطابات سياسية صاخبة رنانة تقول إن quot;المظلومية التاريخيةquot; التي لحقت بالعراقيين الشيعة (هكذا، بصفة إطلاقية متعمدة، أي الشيعة كجسد واحد، يتساوى في ذلك المعدمون منهم وأصحاب الملايين) قد ولت ولم تعد، ومن الآن فصاعدا سيلتحف العراقيون الشيعة (أيضا كل العراقيين الشيعة) إستبرقا ويفطروا عسلا. وبما أن ليس جميع الناس يقرأون ما بين السطور، وبما أن أي (مظلومية) لا بد أن تقترن ب(ظالم )، فأن الظلم الذي لحق بالعراقيين الشيعة، وفقا لنفس خطاب الحركات الإسلامية غب السقوط، فهم منه سواد العراقيين الشيعة بأن وزره يتحمله العراقيون السنة (أيضا بشكل إطلاقي، هكذا كل العراقيين السنة).
خطاب المظلومية الشيعية الذي بدأت تردده الحركات السياسية الدينية مباشرة بعد سقوط نظام صدام، وجد له، على الأقل في الأوقات الأولى، هوى في نفوس الكثيرين في المناطق الجنوبية والوسطى في العراق( الآن، وفي خضم القتال الشرس الدائر في مدينة البصرة بين quot;شيعة الحكومةquot; وبين quot;شيعة التيار الصدريquot;، تقول الجهة الأولى سنحرر البصرة quot;المظلومةquot; من أيدي quot;الظلمةquot;، فترد الجهة الثانية، سنقاوم quot;الظلمةquot; حتى الرمق الأخير). وهولاء quot;الكثيرونquot; ليسوا من الطبقات الوسطى أو الثرية، وإنما من الطبقات المسحوقة التي تشكل أغلبية السكان،طبقا للظروف الاقتصادية للبلاد. لكن هيجان العواطف لم يمنع أفراد هذه الطبقات أن يرووا ويحاججوا ويقارنوا. وعندما (رفعوا) رؤوسهم فأنهم وجدوا أن الحركات والأحزاب الدينية السياسية العراقية الشيعية التي هبطت ب(البرشوت) خلال انتفاضة شهر آذار، وصادرت الانتفاضة لحسابها الخاص (هذه الحركات أسمتها لاحقا الانتفاضة quot;الشعبانيةquot;، لإضفاء صبغة أيدولوجية دينية عليها، رغم أن بسطاء الجنود الذين فجروها لا يفرقون بين شوال وشعبان/ يقول علماء اللسانيات، رولان بارت مثلا، لا توجد مفردة بريئة) عادت وتصدرت مشهد الأحداث، من جديد، بعد أن تناسلت، خلال السنوات العشر الماضيات، وكثرت وزادت أعدادها. ومع هذه الحركات برزت شخصيات وحركات مدنية من أصول عراقية شيعية.
الأمر الآخر الذي تيقن منه هولاء الفقراء هو، أن كثيرين من القادة (الشيعة) الجدد الذين تصدروا واجهة الأحداث ينتمون إلى نفس العائلات أو (البيوتات) الثرية الأرستقراطية الشيعية، سواء العلمانية التي كانت قد حكمت واستوزرت في عهد النظام الملكي السابق، أو العائلات الدينية التقليدية التي توارثت الجاه والحظوة أبا عن جد ( كلامنا هذا لا يعني أبدا الطعن، بقدر ما يعني وضع الأمور في نصابها الطبقي الاجتماعي، فتلك العائلات الكريمة قدمت للعراق خدمات كثيرة).
مع ذلك، فأن الفئات الفقيرة شرعت منذ اللحظات الأولى تدافع عن التجربة الجديدة وتسندها. عمليات الإسناد تجسدت في ممارسات متنوعة، أهمها الإقبال الواسع على المشاركة في الانتخابات العامة، وغمس الأصابع بالحبر البنفسجي، اعتقادا من جموع الناخبين بأن هذا اللون سيساوي بين الجميع ويجعلهم سواسية كأسنان المشط، في المواطنة العراقية الشاملة، وفي تبوء الوظائف الحساسة داخل الدولة، وفي المأكل والملبس والسكن والتطبيب والتعليم.
وبعد الإسناد الانتخابي، أي إضفاء شرعية جماهيرية للحكم الجديد، ظهر شكل أخر من عمليات الإسناد هو، التصدي المسلح الذي قام به فقراء العاصمة بغداد ضد الحرب الشرسة التي شنها تنظيم القاعدة، ومعه بقايا الصداميين وأنصارهم وحلفائهم. وكلنا نتذكر أن تنظيم القاعدة وصل به الغرور والثقة بالنفس في تلك الأيام إلى حد إعلانه، رسميا، لدولة العراق الإسلامية، وأن الصداميين دفعتهم نشوة ما حققوه من انتصارات وقتذاك، إلى حد أن يطلبوا من خصومهم أن يعلنوا المغفرة والتوبة على رؤوس الإشهاد. ولكن تلك الموجات المسلحة بدأت تتكسر الواحدة إثر الأخرى، داخل العاصمة في بداية الأمر، ثم على أطراف العاصمة، وصولا إلى تشجيع العشائر في المناطق التي تنشط فيها القاعدة، وتشكيل quot;الصحواتquot; في المناطق الغربية من العراق، ولاحقا داخل العاصمة. وإذا أردنا أن نختصر فسنقول أن فقراء مدينة الثورة والشعلة والأحياء الشعبية الفقيرة الأخرى في بغداد وبقية مدن الجنوب والوسط، هم الذين يرجع لهم الفضل في حماية العملية السياسية الجارية، ومنعها من الانهيار.
الآن وبعد مرور خمس سنوات، بماذا كافأت النخب العراقية الشيعية ناخبيها، وما هي المحصلة؟
لكي نجيب على هذا السؤال فأننا سنستعين، لا بالأرقام والإحصائيات، ولا بدراسات مراكز بحوث، وإنما بوقائع على الأرض تفيدنا أكثر من هذه الوسائل المعرفية كلها.
قبل أسبوع عرضت فضائية (العربية) زيارة أنجزها فريق تابع لها لمنطقة نائية في أعماق الأهوار جنوب العراق. جميع أفراد العائلة الذين قابلهم فريق الفضائية أكدوا أن ما من انجاز ايجابي واحد حققه لهم الحكم الجديد. وكرر رب العائلة بأسف وبمرارة أن وظائف الدولة، خصوصا داخل الجيش، توزع وفقا للولاءات، وقال أنه يشعر بأسف عندما يرى أشخاصا من الذين يعرفونهم، لا يقرأون ولا يكتبون، ولكنهم منحوا رتب عسكرية مهمة، فقط لأنهم يتبعون المجلس الأعلى. وعندما سأل مراسل الفضائية هذا الرجل الأمي، لماذا لا ينتمي إلى quot;البدريينquot;/ جماعة المجلس الأعلى بقيادة السيد عبد العزيز الحكيم/، أو إلى quot;الصدريينquot; ليصبح هو الأخر ضابطا كبيرا،فأنه رد قائلا: لم انتم لحزب السلطة السابقة وبقيت هاربا من العسكرية وتريدني أن انتمي الآن لواحد من هذه الأحزاب. أنه يرفض الدخول في أي حزب من هذه الأحزاب الحاكمة.
ما يقوله هذا الرجل ليس مماحكة سياسية من طراز ما نشهده داخل البرلمان العراقي، ولا هو أدعاء نرجسي لمثقف بطر، ولا هو شتائم يطلقها يائس ليبرر بها عجزه، أو سياسي لم يحصل على ما كان يتمناه من جاه ومنصب وحظوة. نحن أمام وعي سياسي متطور يكمن وراءه وجع طبقي لأناس يشخصون بدقة مكامن الخلل، لكنهم لا يجدون الجهة السياسية التي تأخذ بأيديهم. نحن أمام سيل عارم سد الطريق أمامه، وسينفجر في أي لحظة بطريقة عشوائية مدمرة، إذا ظل على هذه الحال. وطوال حديث رب الأسرة وأفراد عائلته، لم يتحدثوا قط عن أي أمور دينية أو مذهبية أو طائفية أو فقهية شرعية. كانوا يتحدثون فقط عن معاناتهم اليومية، وفقدان الخدمات الأساسية، وتحدثوا بمرارة لاذعة عن خيباتهم من العهد quot;الجديدquot;. وظل رب الأسرة يردد أمام عدسة الكاميرا بأنه هو وكل الناس في منطقته غير راضين على أداء الحكومات التي تعاقبت على الحكم بعد سقوط حكم صدام. وهذه ليست حالة فردية ولا هي استثنائية. وحتى لو كانت استثنائية فهو الاستثناء الذي يعزز القاعدة. والقاعدة هي أن هناك ملايين من العراقيين، هم quot;الأكثرية الصامتةquot; يجدون في هذا الرجل ناطقا بأسمهم، شرط أن يظلوا quot;أحراراquot; بعيدا عن خبل التخندق الطائفي، ولوثة الغرائز المذهبية، كما نرى في هذا المشهد الثاني.
والمشهد الثاني هو، مجموعة من الشبان المدججين بالأسلحة ( في شريط ما يزال معروضا على مواقع الانترنيت ويعود تأريخه، على الأرجح، لفترة اشتداد القتال الطائفي)، يرتدون أسمالا بالية، وشبه حفاة، يجوبون (حي الفضل) ببغداد ويصرخون بأعلى أصواتهم: أخرجوا يا وهابية يا منو...، و ورائهم زميل منهم يشد من أزرهم، حاثا إياهم أن يقولوا علي (أي، أن استعينوا بالإمام علي لينصركم على أعدائكم). أو أليس هذا العمى الطبقي بعينه؟
quot;حي الفضلquot;، لمن لا يعرفه من غير العراقيين، هو واحد من أكثر الأحياء الشعبية البغدادية فقرا وبؤسا. كان هذا الحي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، يسكنه أثرياء بغداد والمنتمون إلى الطبقات الوسطى. وبعد التوسع العمراني هجره سكانه الأصليون إلى حيث المناطق السكنية الجديدة. وتحول الحي إلى مكان يسكنه الكسبة الصغار والباعة المتجولون والجنود، حتى أنك تجد ثلاث عائلات أو أكثر تتساكن في بيت واحد، بل قل تتكدس على بعضها كما السردين المعلب. وهذا الحي كان قبل وصول البعثيين إلى السلطة عام 1968، شأنه شأن بقية الأحياء الشعبية المجاورة له، وشأن جميع الأحياء الفقيرة، خزينا لقواعد وجماهير الأحزاب اليسارية، خصوصا الحزب الشيوعي. وهذه الأحياء دافعت، أسوة ببقية الأحياء الشعبية الفقيرة، عن ثورة 14 تموز عندما نفذ البعثيون انقلابهم الأول عام 1963، ونفذ حكم الإعدام ببعض من ساكنيها، وأشهرهم بطل الملاكمة وقتذاك نافع يونس.
استطردنا كثيرا في الحديث عن هذا الحي، عن عمد، حتى نقول أنه يعتبر رديفا، للأحياء الشعبية التي جاء منها الشبان المسلحون، كل ما في الأمر أن أكثرية سكانه من العراقيين السنة. إذن، ما هي المصلحة الطبقية لهولاء الشبان المعدمين الذين يستغيثون بالإمام علي، في قتالهم لسكان هذا الحي المعدمين مثلهم؟ وبالطبع، فان هذا الكلام ينطبق بحذافيره على الجهة الأخرى، أي على اولاءك الشباب المعدمين في حي الفضل والأحياء الفقيرة السنية الذين استطاع تنظيم القاعدة وحلفاءه من قوى التطرف تجنيدهم لصالحه.
ما المصلحة في قتال يدور بين أشقاء في الوطن وأشقاء في المعاناة الطبقية وأشقاء في التهميش؟ ما المصلحة في قتال يدور بين ضحايا؟ لا مصلحة إطلاقا. لكنه العمى الطبقي والضلال السياسي. والضلال السياسي يقودنا، ما دمنا نتحدث عن التيار الصدري، إلى سؤال محدد: ما الذي يريده التيار الصدري، وما هي أهدافه القريبة والإستراتيجية؟
فالمرء يشعر بحيرة حقا وهو يتمعن في quot;سياسةquot; التيار. فمنذ سقوط النظام السابق والتيار نصفه ثورة ونصفه الآخر دولة. نصفه مراهق سياسي ورومانتيكي ونصفه الآخر ناضج وواقعي. هو ضد العملية السياسية لأن البلاد تخضع للاحتلال، ولكنه شارك في الانتخابات التي جرت تحت الاحتلال وأوصل نوابه إلى البرلمان. هو ضد الحكومة، لكنه مع ذلك شارك في الحكومة بعدد من الوزراء ثم أمرهم بالانسحاب. هو ضد سياسة الإتلاف الشيعي ويكيل الاتهامات لأطرافه وبعض أطراف الإتلاف تسمي عناصر التيار (شراذم) وquot;خارجين عن القانونquot;، لكن التيار ما يزال عضوا في الإتلاف. هو ضد المحاصصة الطائفية ومع الوحدة الوطنية، لكن خطابه ما يزال يحتوي على تصنيفات طائفية تحريضية، كمفردة نواصب. هو يملك جيش أشبه بالنظامي يجمده زعيمه متى ما أراد، ويطلق يده متى أراد، لكنه يقول إن هذا الجيش هو جيش الإمام المهدي، و ليس بمقدور حتى زعيم التيار أن يحله. هو تنظيم سياسي بامتياز يفترض به أن يلم، شانه شأن أي تنظيم سياسي آخر، بكل قواعد اللعبة السياسية، سواء تنفيذا لوصايا (الأمير) الميكافيلية، أو تنفيذا لمبدأية (يا سيوف خذني)، لكن زعيمه يعلن بعد خمس سنوات quot;انعزالهquot; quot;أفراغا لذمتي أمام اللهquot;، ولأن quot;الساحة السياسية العراقية حاليا عبارة عن ساحة للسياسية الدنوية وهي فتنة بطبيعة الحالquot;.
ونسأل مرة أخرى: ماذا يريد التيار الصدري؟ وما نفع هذه الجماهير الواسعة وهذا الجيش المنظم؟ إذا كان الهدف هو، إحراج الأعداء والخصوم والمنافسين فالأجدر، في هذه الحال، طرح مطالب واقعية تحرج هولاء. وأنصافا نقول، أن الأطراف في الإتلاف العراقي لم تمنع، حتى لو كانت راغبة في ذلك، التيار الصدري من النشاط السياسي، وأن يحذو حذوها. فهذه الأطراف سعت ونجحت في ضم الكثير من عناصر المليشيات التابعة لها إلى صفوف الجيش والشرطة والقوى الأمنية. وهذا يعني أنها تركت الثورة لصالح الدولة، أو لنقل صدرت الثورة إلى أجهزة الدولة، وأصبحت هي راعية quot;القانونquot;. إما التيار الصدري ففضل أن يكون quot;خارج القانونquot;. أما كان الأجدر إذا أراد التيار، لنقل، رفض أو تعديل قانون المحافظات، أو رفض إقليم جنوب بغداد، أن يكون داخل مجالس المحافظات، ويتصدى quot;من الداخلquot; وبقوة القانون لهذا القانون؟
لا يمكن لأحد، خصوصا إذا كان (دولة) أن يسمح بوجود دولتين. والتيار يريد أن يكون دولة داخل الدولة إلى ما لا نهاية. وهذه هي الطفولة السياسية بعينها، بل قل الانتحار الجماعي. وإذا ظل التيار الصدري سائرا بهذا الاتجاه فعليه أن يعرف أنه يسير قدما نحو الانتحار الجماعي. وما من طريق ينقذه من هذه الورطة إلا أن تقوم الكوادر والقيادات المتنورة الشجاعة داخل التيار بأخذ زمام المبادرة، وتحقق انقلاب حقيقي شامل على الذات، حتى لو قادها الأمر إلى انشقاقات داخل التيار، وإلا فأن قواعد التيار وجماهيره سيعرضون، آجلا أو عاجلا، إلى البيع، وهناك ألف جهة سياسية مستعدة للشراء.