ورثوا من الماضي الخيبات الكبرى، ومن الحاضر العمى الطبقي والتخبط السياسي، ولم يبق أمامهم سوى انقلاب حقيقي على الذات، وإلا فانتحاري جماعي
قبل أسبوعين نشرت مواقع عراقية على شبكة الانترنيت رسالة مقدمة إلى زعيم التيار الصدري، السيد مقتدى الصدر، مرسلة من قبل quot;الشيخ أوس الخفاجي،مدير مكتب الشهيد الصدر في الناصريةquot; كما ورد نصا. الرسالة مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية، وصياغتها اللغوية مهلهلة يعوزها السبك. ويبدو أن quot;الشيخ أوس الخفاجيquot; يعرف جيدا قدراته اللغوية المتواضعة، فأرفق رسالته باعتذارين، أولهما في المقدمة والأخر في النهاية، وقال، مكررا في المرتين،quot;اعتذر عن الأخطاء اللغوية والإملائيةquot;. وعزى وقوع هذه الأخطاء quot;لضيق الوقت، الذي دفعه لاستعارة حاسوب صديقه وكتابة رسالته، على عجلquot;، كما أوضح.
لكننا، عندما ننتهي من قراءة الرسالة فأننا سنجد أن الأخطاء الإملائية واللغوية لم تحدث لأن كاتبها كان على عجل من أمره، وإنما حدثت، بالأحرى، نتيجة تواضع إمكانياته اللغوية، أصلا. فهو يكتب: (عجالت) بدلا من عجالة، (كل صورى)، بدلا من كل صورة، بغداد (منيرت) ويريد بها منيرة أو منورة، و(اذعوا) اسمائهم، و(يكونوا البعض) منهم، و(الضبيحة) يريد بها الذبيحة، و(مداهمت) بدلا من مداهمة، وغير ذلك.
استشهادنا بهذه الرسالة ليس لغرض التحقير والتشهير، أو التوقف عند الأخطاء اللغوية والإملائية لحد ذاتها. ومن المفيد، في رأينا هو أن يقرأ نص الرسالة قراءة سوسيو- لغوية. وبما أن هذه السطور ليست بحثا أكاديميا في موضوع اللسانيات، فأننا سنستفيد من رسالة الشيخ الخفاجي، ونجعلها مدخلا لمعرفة مسألتين.
أولهما الأصول والخلفيات الطبقية لقادة التيار الصدري وقواعده الشعبية، وتلمس الدوافع (المخفية) المحركة للنشاط السياسي لهذه القواعد، والأهداف (غير المعلنة) أو (الكامنة) لهذا النشاط، وهل أن هذه الأهداف quot;الكامنةquot; هي نفسها الأهداف (الرسمية) المعلنة، وهل أن العامل quot;الديني/ المذهبيquot; هو المحرك الحقيقي الوحيد لنشاطهم، أم أن هناك دوافع أخرى مهمة، كالعامل الاجتماعي الطبقي.
المسألة الثانية هي استقراء ما الذي سيحدث داخل التيار الصدري بعد quot;انعزالquot;، زعيم التيار السيد مقتدى الصدر، أثر (تيقنه أخيرا) بأن quot;الساحة السياسية العراقية حاليا عبارة عن ساحة للسياسة الدنوية وهي فتنةquot;، و قرار التجميد الثاني، وهو قرار يبدو أنه يواجه اعتراضات ضده، كما ورد في رسالة الشيخ الخفاجي، إذ يقول فيها (ونحن ننقل النص كما هو):
quot; (...) سيدي القائد اكتب لكم الان لاءني جئت من الناصرية إلى بغداد ولم اعش معانات اهل بغداد وبالاخص مدينة الصدر الا حين عشت معهم لسويعات فكيف حالهم وهم لا يناموا في ديارهم ولا يروا عوائلهم ولا من مساعد لهم ولا عمل لهم لائنهم مطاردون يلتحفوا الليل ويفترشوا الارض والبعض هاجر تاركا اهله وعياله، لائنه ان قاوم كنتم براء منهم وان لم يقاوم كان الضبيحة بيد محتل ولا مسمي عليه عند ذبحه!!!
سيدي انت لم تجمد نفسك ولا نريد ذلك فانك لحد قرار التجميد الذي صدر منكم يدل انكم في الشارع تعملوا ولم تجمدوا، هذا من باب اما الباب الاءخر فانت وابن مدينة الصدر او ابن الديوانية وكربلاء الامر يختلف؟ فهذا الفقير والقائد الكبير لا سند له ولا ظهر له ولا من محامي له أبدا. إلا الله. أما جنابكم سدد الله لكم فلكم الفقراء من جيش الامام وهم الاعم الاغلب والوجاهة والشرف والحكومة والدعم الموجود فهنا الفارقquot;.
(علينا أن نتذكر جيدا مفردات quot; الفقراء الذين لا سند لهم ولا ظهر، والوجاهة، والشرف، والحكومة، والدعمquot; لأننا سنعود إليها في ثنايا المقال).
واختيارنا للشيخ أوس الخفاجي يرجع لسببين.
أولهما، أن الشيخ الخفاجي من الشخصيات البارزة في التيار الصدري. فهو يشغل، مثلما جاء في رسالته، quot;مدير مكتب الشهيد الصدر في الناصريةquot; جنوب العراق (يبدو أن الشيخ الخفاجي يتحدث عن موقعه السابق، لأن الأمر تغير في الناصرية). وسبق للشيخ الخفاجي أن تقلد مواقع رفيعة في التيار الصدري. وكانت وسائل الإعلام تقدمه باعتباره quot;مساعد بارزquot; لزعيم التيار مقتدى الصدر، وواحد من أقرب مساعديه، وسبق للشيخ الخفاجي أن أصبح إمام جمعة الكوفة، ينيبه زعيم التيار السيد مقتدى الصدر لإلقاء خطبه. وكانت القوات البريطانية قد اعتقلت العام الماضي الشيخ الخفاجي في مطار البصرة، لكنها اضطرت لإطلاق سراحه بعد تظاهرات واحتجاجات صاخبة، وبعد أن شن أتباعه هجمات عسكرية ضد تلك القوات.
السبب الأخر الذي دعانا للاستشهاد بالشيخ الخفاجي وبرسالته أنفة الذكر هو، اعتقادنا أن الشيخ الخفاجي ليس حالة quot;استثنائيةquot; بين الشيوخ من قادة الصف الأول الآخرين في التيار الصدري. إذ أن هناك صفات مشتركة كثيرة بينهم. فهم جميعا من فئة الشباب، الذين لم تتح أمامهم فرص تعليمية واسعة، سواء عن طريق الدراسة الأكاديمية أو عن طريق الحلقات الدراسية الدينية. وهم يختلفون في هذه النقطة عن قادة وكوادر حزب الدعوة الإسلامية بكل فروعه، وحزب الفضيلة، وحتى المجلس الأعلى، إذ نجد داخل هذه الحركات كثيرين ممن انهوا دراساتهم الجامعية الأكاديمية، بل أن بعض هولاء أعتموا العمامة وارتدوا (الجبة) الدينية بعد أن انهوا دراساتهم الأكاديمية في الجامعات العراقية الرسمية.
الصفة الثانية التي يشترك بها قادة التيار الصدري هي، أنهم ينتمون إلى عشائر عربية مشهورة وضاربة في وسط وجنوب العراق، وهم يحرصون على الدوام على ذكر ألقابهم العشائرية بعد أسمائهم الأولى، كالعبيدي والخفاجي والأوسي والكعبي والعكيلي والفرطوسي والمحمداوي والشحماني. ومن النادر أن تجد بينهم من يحمل اسما أو لقبا مستمدا من أسم مدينة، كالعماري والنجفي والسماوي، أو أسم مهنة، كالحداد والنجار والباججي والكاهجي والقبانجي، ولا يوجد بينهم من يحمل أسما أو لقبا من أصول إيرانية، كما هو الحال، مثلا، لدى بعض العائلات الحضرية quot;الأرستقراطيةquot; الدينية التقليدية في النجف.
وحتى من ناحية تركيبهم الفسيولوجي، فأن سحناتهم الصفراء الواهنة تشير إلى تعب quot;تاريخيquot; مزمن ومتوارث، نتيجة لخلفياتهم الطبقية الفقيرة، وما عانوه في طفولتهم من صعوبة الحياة، على العكس مما يجده المرء لدى أبناء رجال الدين المنتمين للعائلات الدينية التقليدية المترفة. وقد لا يكون من الخطأ لو قلنا أن هولاء الشيوخ الشباب دخلوا الدين من باب السياسية، أو من باب المعاناة الطبقية. وهم، في غالبيتهم العظمى، يضعون العمامة البيضاء، وليست السوداء، أي أنهم (شيوخ) وليسوا (سادة/ السيد من ينتمي إلى سلالة الرسول محمد).
والنقطة المشتركة بينهم هي، ابتعادهم عن التكلف والتقعر في الكلام، فهم يقولون ما يدور في خلدهم، بعيدا عن الدبلوماسية، أو اللف والدوران، أو استخدام اللغة الخشبية، وهم في هذه النقطة يتماهون مع زعيم التيار السيد مقتدى الصدر، الذي لا يتوانى من توجيه اللوم، بدون لف ودوران، حتى لإتباعه. ففي إحدى خطبه العامة، لاحظ السيد مقتدى الصدر أن الحاضرين ما كانوا يصيخونه السمع، فما كان منه إلا أن وبخهم، قائلا لهم: أنتم جهلة جهلة جهلة.
وإذا كانت هذه هي مواصفات قادة الصف الأول في التيار الصدري، فأن (قواعدهم) الشعبية لا تختلف كثيرا عنهم.
فالغالبية الساحقة من جماهير التيار الصدري تنتمي إلى الطبقات الشعبية الأكثر فقرا في الجسد العراقي الشيعي، وكثيرون منهم ينتمون إلى الطبقات المسحوقة المعدمة. إنهم (أطراف الأطراف)
فإذا كان العراقيون الشيعة قد احتلوا(كجسد ديموغرافي) موقع (الأطراف) داخل معادلة الدولة العراقية الحديثة، وحتى قبلها، فأن هذا الواقع لا ينطبق على (جميع) العراقيين الشيعة، وبالتالي فأن الظلم الذي لحق بالعراقيين الشيعة، تاريخيا، لم يكن واحدا وموحدا. ففي داخل (الأطراف) يوجد (أطراف الأطراف)، ويوجد (المركز)، كمدينة النجف، حيث quot;الوجاهة والشرف والحكومةquot; أي الحظوة الدينية والمالية، وكشيوخ العشائر من ملاك الأراضي الزراعية الذين عرفوا بتحالفهم العضوي مع السلطات المركزية في بغداد، ومساعدتهم تلك السلطات في قمع مطالب quot;أشقائهم في المذهب والدينquot; أي فقراء الفلاحين، خصوصا في فترة العهد الملكي.
والظلم الذي تعرضت له (أطراف الأطراف) لم يصدر فقط من السلطات المركزية الحاكمة في بغداد، وإنما تم، أيضا، بأيدي (الأطراف)، أي من ملاك الأراضي الزراعية في جنوب ووسط العراق، ومن قبل النخب السياسية الشيعية عندما تسنى لها حكم العراق، مثلما حدث بعد انقلاب 08 شباط 1963، عندما احتل العراقيون الشيعة مواقع القيادة حينذاك داخل مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء وقيادة حزب البعث، وحدث، أيضا، نتيجة quot;مهادنةquot; أو quot;تواطيءquot; بعض كبار رجال الدين الشيعة مع السلطات المركزية الحاكمة، مثلما حدث خلال ثورة سوق الشيوخ عام 1935، أو معارضتهم لقوانين كان هدفها إنصاف الفقراء كقانون الإصلاح الزراعي بعد ثورة 14 تموز 1958.
الآن، إذا سألنا في أي خانة تتموضع جماهير وقواعد التيار الصدري، لقلنا داخل خانة (أطراف الأطراف). ولو دققنا في نوعية الانتقادات ضد قواعد التيار الصدري من قبل أعدائهم وخصومهم ومنافسيهم، حتى لو كانت صادرة من اولاءك الذين يشاطرونهم المذهب نفسه، أي بعض الأحزاب والحركات السياسية الشيعية المختلفة معهم، لاكتشفنا أنها شتائم (طبقية)، وليست سياسية. فالمفردات التحقيرية التي تطلق ضد جماهير التيار الصدري لا تتضمن quot;عمالتهمquot; للأميركيين، فهم، أصلا، ضد القوات الأميركية، ولا تذكر تبعيتهم quot;الصفوية الفارسيةquot;، لأنهم من عشائر عربية معروفة، ولأنهم لا يترددون من توجيه النقد اللاذع لإيران، مثلما أعلن الشيخ أوس الخفاجي نفسه في أحدى المرات (بتاريخ 17/07/2004)، عندما طالب إيران quot;بوقف العبث بالشأن الأمني العراقي، واتهامه لأجهزة المخابرات الإيرانية بالتدخل في الشؤون العراقية وترويج المخدراتquot;.
وبالمقابل، فأنه دائما ما يتم وصف قواعد التيار الصدري من قبل خصومهم بأنهم quot;مكبسلجيةquot;/ أي مدمنون للمخدرات، و quot;لصوصquot;، وquot;جهلةquot;، وquot;معدانquot; / مفردة تحقيرية تطلق على بعض سكان الجنوب العراقي، وquot;مطيرجيةquot; / الذين يدجنون الطيور وهي هواية معيبة عند الطبقات الراقية، وquot;علاسةquot; / مفردة شاعت بعد سقوط نظام صدام وتعني المخبر أو الواشي الذي يخبر عن الآخرين ويوقع بهم لقاء عمولة من المال، وquot;فراريةquot; سابقين/لم يتموا خدمتهم العسكرية. وquot;حواسمquot;/ الذين أثروا بفضل نهب ممتلكات الدولة بعد سقوط النظام السابق. وحتى عندما أثرى بعض هولاء، بهذه الطريقة أو تلك، فأن خصومهم يظلون يذكرونهم بماضيهم الطبقي، فيسمونهم quot; الذي كان الفقر يأكلهمquot;. ومثلما نجد، فان هذه النعوت ليست لها علاقة بالشأن السياسي أو الأيديولوجي، بقدر ما لها علاقة بالتعرض للأصول الطبقية الفقيرة، وفي واقع الأمر، ومن ناحية سوسيولوجية صرف، فأن هذه النعوت الطبقية quot;التحقيريةquot; ليست كلها مختلقة ومن صنع خصوم أنصار التيار الصدري. فهذه الفئات المعدمة لم يكن أمامها، في غياب الفرص المتكافئة، على امتداد السنين، إلا امتهان أشغال ومهن quot;هامشيةquot;، تفرضها عليهم مواقعهم الهامشية داخل المجتمع. فأبائهم وأجدادهم في أرياف الجنوب كانوا مجرد فلاحين أجراء يبيعون قوة عملهم لquot;أشقائهمquot; في المذهب الشيعي، أي لمالكي الأراضي الزراعية من شيوخ القبائل. وعندما فروا من قراهم واستوطنوا العاصمة بغداد منذ بدايات القرن الماضي، أملا في تحسين ظروفهم المعيشية، فأنهم وجدوا أنفسهم يعيشون منبوذين داخل quot;غيتواتquot; خارج بغداد (مناطق خلف السدة والشاكرية وخان حجي محسن وضفاف نهر الخر)، يأوون إليها ليلا، ليخرجوا مبكرين، يعرضون خدماتهم لمن يشتريها في قطاع الدولة والقطاع الخاص.
وعندما جاءهم أول quot;فرجquot;، أي مباشرة بعد ثورة 14 تموز 1958، فأنه لم يأت على أيدي قوى دينية، لا شيعية ولا سنية، وإنما على أيدي قوى سياسية مدنية، أو علمانية إن شئتم، بشخص قائد الثورة وقتذاك، عبد الكريم قاسم، الذي نقلهم، لأول مرة في حياتهم، من quot;هامشquot; المجتمع إلى quot;المتنquot;، وأسكنهم داخل مدن عصرية، وحسن ظروفهم المعيشية والتعليمية، مثلما نجح في انتزاع الأراضي الزراعية من كبار الملاكين ووزعها على أشقائهم الذين ظلوا في قراهم.
ولهذا، عندما اشتد الصراع السياسي الأيديولوجي عقب ثورة تموز 1958 واتخذت quot;المركزيةquot; الشيعية في النجف مواقف غير ودية، حتى لا نقول معادية، فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، وقانون الأحوال المدنية الذي شرعته الثورة، فأن quot;الأطرافquot; الشيعية اصطفت مع الثورة، وليس مع quot;المركزquot; الشيعي. وعندما تيقنت هذه الفئات الفقيرة، صباح 8/شباط/1963 بأن الثورة وقائدها في الطريق إلى الانهيار، فأنها تداعت للدفاع عنهما، ونزلت عزلاء إلى شوارع العاصمة، ولكن الوقت كان قد فات، وهزم قائد الثورة. وكانت تلك أول خيبة طبقية كبرى تضاف إلى خيباتهم السابقة واللاحقة.
ولكن، بعد مرور أقل من خمسة شهور، أي في 03 تموز 1963 ظهرت محاولة جديدة، مسلحة هذه المرة، قامت بها quot;أطراف الأطرافquot;، سعيا منها لقلب المعادلة من جديد، وتبوء موقع quot;الصدارةquot;. ففي ذلك الصباح امتشق شبان، من منطقة خلف السدة التي تعتبر أشد المناطق فقرا في بغداد، أسلحتهم وسيطروا على أهم الثكنات العسكرية في العاصمة، لتنفيذ ثورة مكملة للثورة التي أنصفتهم، ومضادة للانقلاب الذي همشهم في 08 شباط. وكان لتلك المحاولة وقع الصاعقة في الأوساط الرسمية الحاكمة. وكان أول من هب للوقوف ضدهم ولكنهم وقعوا في أسرهم من الطبقة الحاكمة هما أثنين من quot;أشقائهمquot; الشيعة، وزير الخارجية طالب شبيب ووزير الداخلية حازم جواد. واللافت (لكنه أمر غير مفاجئ) هو، أن أولاك الشبان كانوا جميعا من (أطراف الأطراف): جنود بسطاء وعمال أفران وخياطين وحدادين وعاطلين عن العمل، يتزعمهم نائب عريف/ رقيب في الجيش، أسمه حسن سريع. وعندما فشلت المحاولة بعد سويعات من إعلانها، وتمت، فيما بعد، محاكمة قائد المحاولة، سأله القاضي العسكري: كيف تريد أن تصبح ضابطا تتزعم البلاد وأنت ليس أكثر من نائب عريف، فأجابه: وكيف يتحول عبد السلام عارف (رئيس الجمهورية آنذاك) من رتبة عقيد إلى مهيب؟
سؤال القاضي وجواب العريف يعيداننا دائما إلى مسألة quot;المركزquot; وquot;أطراف الأطرافquot;: أنت في أسفل السم الاجتماعي، وعليك أن تقبل quot;قدركquot; التاريخي وتظل في قاع المجتمع إلى ما لانهاية، فيأتي الرد: هذه معادلة ظالمة ولا بد من تغييرها.
والمحاولة التي نفذها quot; نائب العريفquot; حسن سريع في 03 تموز عام 1963 هي واحدة من محاولات كثيرة، سابقة ولاحقة، تقوم بها quot; أطراف الأطرافquot; لتعديل كفة المعادلة. فعلى سبيل المثال، بعد أقل من عقدين على تأسيس الدولة العراقية الحديثة (عام 1935)، شهدت مدينة سوق الشيوخ في أقصى جنوب العراق محاولة مبكرة من quot; أطراف الأطرافquot;، قامت بها عشيرة quot;حكام/ تنطق quot;حجامquot; بكاف مشددة وتنطق بجيم فارسية، عرفت بثورة سوق الشيوخ أو ثورة الشيخ ريسان الكاصد. لكن تلك الثورة فشلت نتيجة قمع الدولة المركزية، بأشخاص رئيس الحكومة ياسين الهاشمي، ووزيرا الداخلية والدفاع رشيد عالي الكيلاني وجعفر العسكري، وتواطيء من بعض كبار رؤوساء عشائر المنطقة من ملاك الأراضي، وquot;مهادنةquot; بعض رجال الدين الشيعة. إذ quot;بعد مراسلات واجتماعات متعددة سعى رئيس الوزراء ياسين الهاشمي... مع تدخل quot;المرجعquot; الشيخ كاشف الغطاء وشيوخ العشائر، رأى رؤوساء الناصرية مهادنة الحكومة والتزم الجميع بذلكquot; (نقلا عن محمد حسين الطريحي، قبيلة حجام ورئيسها كاظم الريسان الكاصد، جريدة شمس العراق، 11 سبتمبر 2006).
وظلت تلك المحاولات القادمة من quot; أطراف الأطرافquot; مستمرة لم تنقطع، فتكررت في سنة 1949 على شكل تمرد مسلح في ريف العمارة، وبعدها عام 1952 عندما انتفض فلاحو عشيرة آل ازيرج في العمارة، أيضا، وفي عام 1954 عندما انتفض فلاحو الشامية وسط العراق. وقبل ذلك عام 1945 عندما صادرت العائلة المالكة الأراضي الزراعية التي كان فقراء الفلاحون يزرعونها في منطقة الحارثية ببغداد. وجميع تلك الانتفاضات كانت تجد دعما لها من قبل (أطراف الأطراف) الحضرية، أي فقراء المدن، عن طريق الحركات والأحزاب السياسية المدنية، واليسارية في الأغلب العام، بعيدا عن أي ولاءات مذهبية دينية، لأن حركات الإسلام السياسي وقتذاك كانت ما تزال في رحم الغيب. ولكن، مع التغيرات العاصفة التي شهدها العالم والمنطقة والعراق في بداية الثمانينات من القرن الماضي، التي تمثلت في نجاح الثورة الإسلامية في إيران وما نتج عنها من صعود للمد الديني، وانهيار ما سمي بالمعسكر الاشتراكي، وما أعقبه من تراجع كبير لليسار الماركسي، وغياب النشاط السياسي المعارض داخل العراق نتيجة القمع السياسي طوال حكم صدام حسين، أصبح موقع الصدارة للحركات السياسية الإسلامية.
وكان أول نشاط علني للإسلام السياسي في العراق هو ذاك الذي بان غب انتهاء حرب الكويت، عندما اندلعت انتفاضة شعبية واسعة، سيطر خلالها المنتفضون على مناطق جنوب ووسط العراق، فوجد المنتفضون أمامهم، على حين غرة، صور وأسماء لشخصيات دينية ولحركات سياسية دينية، وكأنها هبطت فجأة بquot;البرشوتquot; وراحت تتصدر الواجهة، وتخطف الحدث لصالحها.
الانتفاضة تلك بالإمكان مقارنتها بثورة 14 تموز 1958، مع فارق هو أن الذين أشعلوا شرارتها لم يكونوا، هذه المرة، من الطبقات الوسطى، كما هو حال ضباط الثورة، وإنما كانوا منquot;قاعquot; المجتمع، أو quot;أطراف الأطرافquot;: جنوب بسطاء أذلتهم الهزيمة والمهانة، نتيجة حرب كانوا يدركون أنها خاسرة، لكنهم خاضوها مرغمين، وحقد لا حد له إزاء رئيس (ونظام سياسي) أذاقهم العلقم على مدى قرابة ثلاثة عقود، فأرادوا الانتقام، دون حسابات سياسية دينية ومذهبية مسبقة.
وبعد نجاح المنتفضين وسيطرتهم على مقاليد الأمور أثر انضمام سواد الناس للانتفاضة، تجددت الآمال من جديد بتعديل كفة الميزان لصالح الطبقات المعدمة، لكن تلك الآمال سرعان ما تلاشت، أولا بسبب نجاح الأجهزة الحكومية في أعادة فرض سيطرتها، وثانيا بسبب دخول الحركات الإسلامية وبعض زعامات الإسلام السياسي، على خط الانتفاضة وتصميمها على احتكار ما حدث، وتجييره لصالحها. فتلك الحركات لم يكن لها وجودا داخل العراق، أو لنقل لها وجود هامشي، وكانت quot;هيئات أركانهاquot; في الخارج quot;تنتظرquot; ما يحدث داخل العراق، وبالتالي، فأن تلك الحركات السياسية الدينية ليست هي التي quot;صنعتquot; الحدث/ الانتفاضة، وإنما اختطفته لصالحها واحتلت quot;الصدارةquot;، بعد أن أزاحت quot;أطراف الأطرافquot; التي صنعت الحدث. وكانت تلك خيبة جديدة للفئات الفقيرة المهمشة التي صنعت الحدث.
بعد مرور أكثر من عقد سقط نظام صدام حسين، فشعرت هذه الطبقات الفقيرة المهمشة أن فرصة تاريخية حقيقية وكبرى، هذه المرة، توفرت أمامها ستنقلها من التهميش إلى حيث تصنع القرارات المصيرية للبلاد والعباد. فماذا كانت المحصلة؟
يتبع