تهددني بجبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد

هذا الذي يهدد بتمزيق القرآن الكريم ويجاهر بالمعصية، ما كان أحد المستشرقين الحاقدين على الإسلام وأهله. وما كان أسمه سلمان رشدي، وما كان يعمل في الصحيفة الدنماركية التي نشرت الصور المسيئة للرسول الكريم، وما كان عضوا في اللوبيات المعادية للمسلمين، وما كان عميلا للمخابرات الأميركية والموساد.
ذاك الذي يريد تمزيق القرآن المجيد كان مسلما، وما كان اسمه جون أو فرانك، إنما الوليد بن يزيد. وحدث ذلك والإسلام كان ما يزال يحبو.
وبعد الوليد عرف الإسلام الكثير الكثير من محاولات الطعن به. وعلى امتداد القرون الماضية ظهرت، من رحم الحضارة الإسلامية نفسها، تيارات وحركات سياسية وثقافية ودينية وفلسفية، بعضها جاد وبعضها هازل، قدمت رؤى متعارضة أو مختلفة أو متناقضة مع الإسلام. لكن، في الحالات كلها ظل الإسلام عزيز الجانب، لم تهزه أقوال كل quot;وليدquot; هاجمه.
الإسلام ظل عزيز الجانب لأنه كان يناقش بالموعظة الحسنة، ولأن المسلمين الأوائل كانوا على ثقة عالية بإسلامهم وبقدراتهم على مناقشة الآخرين الذين يختلفون معهم.
الآن وبعد مرور تلك السنين يبدو الإسلام، عبر فتاوى بعض الشيوخ، وكأنه quot;مريضquot; داخل غرفة الإنعاش، يخشى عليه حتى من النحلة إذا مرت بقربه.
ما أن ينشر كاتب مقالة أو يكتب شاعر قصيدة أو يغني مطرب أغنية أو يدلي مثقف ما برأيه، حتى ينبري له بعض الشيوخ، وتكون الفتوى في الجيب الأيمن: فرقوا بينه وبين زوجته.
فتاوى هذه الأيام أصبحت كسيف ديموقليس لا يعرف الناس، خصوصا العاملين في الميادين الثقافية العربية، متى يهوى على رؤوسهم فيقطعها. بل أنه قطع رأس فرج فودة وكاد يقطع رأس نصر حامد أبو زيد، وحيدر حيدر وآخرين.
المحنة هي، أن بعض شيوخ هذه الأيام لا يتركون شيئا إلا وأفتوا بشأنه، من ارتداء البنطلون وحلق اللحى ورضاعة الكبير، إلى برنامج (طاش ما طاش)، إلى نصرة حركة طالبان، إلى دفع الشباب للموت العبثي في عمليات مفخخة، وصولا إلى تجريم الآخرين لأراء نشروها. وتشتد المحنة عسرا عندما تتضمن بعض الفتاوى، لا تحريم النص المنشور أو منع نشره فحسب، وإنما دعوة مبطنة وأحيانا ظاهرة صريحة إلى قتل الكاتب.
هذا كله يحدث والمثقفون في العالم العربي في شغل شاغل عن زملائهم الذين يتعرضون لهذه المحن.
ماذا عن تضامن المثقفين فيما بينهم؟
ما نفع النقابات المهنية الثقافية المنتشرة في عواصم العالم العربي، إذا هي لم تدافع عن أعضائها وغير أعضائها؟
أيهما أجدى وأكثر نفعا، هذه المماحكات الصبيانية بين زملاء المهنة وهي تنشر على الملأ، أم الدعوة إلى تضامن جماعي بين المثقفين في كل مرة يتعرض خلالها زميل منهم إلى محنة؟
ما جدوى الصفحات الثقافية والمجلات المتخصصة والمهرجانات والشخصيات الثقافية إذا هي سدت أذانها عن سماع ضحايا الرأي، وتقاعست عن نصرتهم؟
ما هي الشجاعة الحقيقية؟ أن يظهر المثقف العربي على شاشات الفضائيات ليتحدث عن مأساة الهنود الحمر، أو يشجب من يرفض التوقيع على اتفاقيات المناخ، أو يلعن المحافظين الجدد، أم الشجاعة أن يشجب بصوت عال ما يتعرض له زملاء المهنة على أيدي قامعي الحريات؟
ماذا سيشعر الكاتبان السعوديان، عبد الله بن بجاد ويوسف أبا الخيل، عندما يجدان نفسيهما وحيدين، مخذولين من زملائهم في المهنة، وقد جاء دورهما ليكفرا؟
إنها لموجعة حقا تلك الشكوى التي أبداها الكاتب يوسف أبا الخيل، ونقلتها (إيلاف) : quot;يتم تطليقك من زوجتك وثم يحرم أولادك من الميراث الذي تتركه وينزع عنك دينك وثم تقتل بعد ذلك.quot; (انقر هنا)
يقول أبا الخيل بأنه quot;يعتزم رفع قضية على الشيخ الذي أصدر الفتوى، ولكنه لا يعرف على من يرفعها ولا لمن.quot;
لو أن هذا الكاتب يعرف أن نقابات الصحفيين واتحادات الكتاب والروابط الأكاديمية كانت قد وقعت جميعا على quot;ميثاق عملquot; تدافع بموجبه، معنويا وقضائيا، عن أي كاتب يتعرض لنفس الموقف الصعب، فهل أطلق شكواه/ الحيرة هذه، أم سيتصل بزملائه ليتولوا القضية بأنفسهم؟
والمفزع هذه المرة هو أن الكاتبين السعوديين لم يفعلا غير نشر أراء تخصهما تتعلق بمسألة فكرية. أي أنهما لم يشتما مقدسا ولم يعربدا على شاشة أحدى الفضائيات بشتائم هابطة ضد رموز دينية.ولنفترض جدلا أنهما أساءا الأخلاق والأدب وجرحا الحياء العام وأوحيا بأفكار مناهضة للدين، أليس من العدل أن يحالا إلى القضاء ليقول كلمته بحقهما.
إلا توجد في أوطاننا العربية وزارات للعدل وأخرى للداخلية، ومحامون وقضاة وشرطة، فما العبرة وما الغاية في وجودها إذا كان المواطن يخشى أن تقطع رقبته لرأي يقوله؟
ما من أحد يريد إسكات رجال الدين أو منعهم من أداء أدوارهم في نشر الفضيلة، أو منافستهم في اختصاصهم، لكن ما احد، أيضا، يريد إلغاء عقله والتنازل عن حقه في حرية الرأي.
أيهم أكثر حرصا على الإسلام، وعاظنا الآن، أم المحدث والراوية عبد الله بن عائشة؟ أيهما أقرب للإسلام، زمنيا وغيرة، أصحاب فتاوى التكفير في أيامنا، أم أبو سفيان الثوري؟ وأيهم أكثر quot;إشكاليةquot;، كتابنا اليوم، أم أبو نواس الحسن بن هانئ.
يقول عبد الله بن عائشة quot;من طلب الأدب فلم يرو شعر أبي نواس فليس بتام الأدب.quot;
يقول أمير الحديث وسيد زمانه في علوم الدين والتقوى، أبو سفيان الثوري quot; والله لقد لحق أبو نواس من قبله وفات من بعده.quot;
إن أحدنا ليشعر بحيرة وهو يسمع ما يعظ به بعض وعاظنا هذه الأيام، ويسأل نفسه ألف مرة:هل يوجد، استغفر الله العظيم، قرآن واحد أم أكثر.
من يستمع لممتهني إصدار الفتاوى التكفيرية ودافعي الشباب لقتل أنفسهم، واللاعنين حتى من يبتسم مجرد ابتسامة، يظن أن القرآن الكريم خلا من quot;حدائق ذات بهجة، وكواعب أترابا، وأساور من ذهب، وثيابا خضرا، وكأس كان مزاجها كافورا، ووجوه مسفرة ضاحكة مستبشرة، وانهار من عسل مصفى، وفرش بطانتها من إستبرق، وأساور من ذهب ولؤلؤا.quot;
من يستمع لممتهني إطلاق الفتاوى التكفيرية يظن أن القرآن الكريم خلا من قوله تعالى quot;إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءquot;.
مصدرو فتاوى التكفير هولاء يظنون أن القرآن الكريم نسخة واحدة هي التي بين أيديهم، ولا أحد غيرهم بمقدوره أن يقرأ القرآن مثلهم.
المصيبة، هي مصيبة حقا، أن أصحاب الفتاوى تكاثروا علينا هذه الأيام فتشابهوا وما عدنا نميز أيهما الأكثر إصابة فنلحقه وأيهما الأكثر جهالة فنتجنبه.
وإلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، سيظل المثقفون العرب ممن لا يرضى على أفكارهم بعض أصحاب الفتاوى، يرددون مع الكاتب السعودي quot;نعتزم رفع القضية، لكن لا نعرف على من نرفعها ولا لمنquot;.