.... وعلى شجاعته فليتوكل التنويريون العرب
لو استخدمنا مصطلحات عصرنا، لتوصيف أفكار الحسن بن هانيء، سعيا منا إلى وضعه في خانة أيديولوجية وسياسية محددة، لوجدنا أنفسنا كمن يطلب المستحيل، وسنظهر باستنتاج واحد: أبو نواس هو جامع النقائض، وهو عصي على التبويب.
هو، إذا شئتم، ليبرالي، اشتراكي، ديمقراطي، يساري، فوضوي، ملتزم، مادي ديالكتيكي، غيبي، علماني، نخبوي، شعبوي ...الخ. بالتأكيد، أن أبا نواس يبدو، وقد تسربل بهذه التناقضات كلها، عديم اللون والطعم والرائحة. وهذا أمر صحيح، إذا تمسكنا بمنطق عشاق الوصفات الأيديولوجية الجاهزة، الذين لا يتحدثون إلا ومساطر القياس بأياديهم، ولا ينظرون للأمور إلا بعين واحدة. لكن الذين أنعم الله عليهم بفضيلتي البصر والبصيرة، لكن شرط أن تكون الأخيرة محايدة، فأنهم سيجدون أن تلك النعوت المتناقضة هي، عند أبي نواس، طرق، من طرق أخرى كثيرة مختلفة، يسلكها علها تساعده في فهم ألغاز هذا الكون: علاقته مع الله، علاقته مع الطبيعة، مع نفسه، مع الأخر المختلف معه، مع الزمان، مع المكان، وهكذا.
فلو عاينا موقفه إزاء الدين، فأننا نجد أن أبا نواس علماني، على طريقته الخاصة. إنه يميز بين الدين، من جهة، كعلاقة روحية تربط الفرد مع الخالق، وبين السياسية كعلاقة تربط الفرد المحكوم مع الحاكم quot;إمام المسلمينquot;. وما دامت السياسية تعتمد في جوهرها وحركتها وتطبيقاتها على البشر، أو على الإنسان quot;المخلوقquot;، كحاكم وكمحكوم، فأن احتمال أن يبتلى المحكومون quot;بإمام جور فاسقquot;، يغطي على ظلمه بجلباب الدين، هو احتمال كثير الوقوع والتطبيق. وتأسيسا على هذه الفرضية النواسية، تتأسس فرضية أخرى، مفادها أن جمع شؤون الدين والدنيا بيد واحدة، هي يد الحاكم، يقود إلى الإساءة للدين، وإلى مزيد من ظلم البشر، في آن واحد. من هنا، يرفض أبو نواس المتاجرة بالدين واستخدامه لتحقيق أغراض دنيوية مخاتلة وعابرة. وما من جماعة ينفر منها أبو نواس مثلما ينفر من quot;المرائينquot; ونهاز الفرص الذين يوظفون الدين لغايات خاصة في نفوسهم، فيظهرون أمام الناس بمظهر quot;الحسن البصريquot; في quot;حسن سمتهم وعفتهم وزهدهمquot;، وكذلك في زيهم الديني المخادع، فتراهم يضعون quot;المسابيح في الذراعquot; ويعلقون في أعناقهم quot;المصحف مكان القلادةquot;، ويجهدون أنفسهم لكي يبدو quot;اثر الصلاةquot; بوجوههم. أبو نواس يرى أن هولاء غير صادقين، لا في تدينهم، ولا في تعصبهم الذي يظهرونه لهذا المذهب أو ذاك، ولا في أخلاقهم، ولا يستحقون المنزلة الدينية الاجتماعية التي يستحوذون عليها عنوة، في غفلة من الناس، وهم خطر على الدين. ورغم مظاهر الورع والتقوى والوقار التي يظهرها هولاء الناس، فأنهم يفتقدون إلى السمو الروحي الداخلي. إنهم لا يعرفون قلق الأسئلة الكبرى، ولم يمروا بأي امتحان عظيم للنفس، ولم يجربوا أرق الروح. أما هو، أبو نواس، فيرى أن الحياة quot;محنة للورىquot; فيها quot; الغوايات، واللذات، والمحارم، والفضائح، واللوعات، والأعاجيب، والآفات، وتصرف الحالات quot;. وحتى يخرج من هذه quot;المحنةquot;، بالحد الأدنى من الخسارة (لأن الظفر النهائي أمر مستحيل)، فأن أبا نواس يفوض أمره، بعد الله تعالى، إلى ضميره، وليس لأي جهة أخرى: quot; عف ضميري وطيب خبريquot;. وعندما يجعل أبو نواس من ضميره بوصلة يهتدي بها، فأن ذلك يعني رفضه لعقلية ولثقافة القطيع، وإصراره على التفرد: quot; ما لي في الناس كلهم مثل quot;. تفرد أبي نواس يتجسد، بعد إيمانه بالله، في تأكيده على أن الأديان كلها تهدف، في جوهرها، ومهما اختلفت التفاصيل، إلى سعادة البشر. وحتى الاختلافات المذهبية بين المسلمين، فان أبا نواس يتعامل معها من منطلق quot;الحياد الإيجابيquot;، موقف الذي يضع نفسه فوق كل الاختلافات المذهبية:
إني رضيت أبا حفص وصاحبه كما رضيت عتيقا صاحب الغار
وقد رضيت عليا قدوة علما وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي فاضل علم فهل علي بهذا القول من عار
إن كنت تعلم أني لا أحبهم إلا لوجهك فاعتقني من النار
وهو يضع نفسه فوق الفروق الدينية، فيبدي احتراما لجميع الأديان السماوية quot;مزجت ديني بدين الروم فامتزجاquot;. وما خلاف ذلك، فأن أبا نواس يسمح لنفسه بطرح كل الأسئلة ومناقشة كل القضايا. وإذا وجد نفسه قد هوم في هذا الجانب أو ذاك، أو تمادى في مناقشة هذه المسألة أو تلك، فأنه يعود ويفوض أمره ، أولا وأخيرا، إلى الله وحده الذي يتسع عفوه لجميع الخطايا ولكل الذنوب، مهما عظمت:
يا نواسي توقر وتجمل وتصبر
يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر
أكبر الأشياء عن أصغر عفو الله أصغر
وبعد أن يحسم مسألة إيمانه بالله وبعفوه لذنوب البشر مهما عظمت، فأن أبا نواس يبيح لنفسه مناقشة كل ما هو من صنع البشر، أي المنظومة الأخلاقية والاجتماعية، بما فيها من عادات وتقاليد وأعراف، بطريقة حرة وشجاعة، حاثا الفرد على استخدام عقله، ودافعا إياه إلى رفض الحلول السهلة، والصيغ الجاهزة :
أبدا ما عشت خالف دأب قوم بعد قوم
وهذا القول ليس مجرد شعار يرفعه أبو نواس متى ما أراد ويتنكر له متى ما رغب، إنما هو ممارسة عملية مسؤولة، يتحمل نتائجها بشجاعة. فقد كان quot;المثقفquot; أبو نواس يعي جيدا بأنه لا يحيا في جزيرة معزولة، وإنما وسط مجتمع معين، له قوانينه وحكامه وسجونه وعسسه ووشاته، وله رجاله المتعصبون الذين يدينون الناس على الظن والشبهة. وقد تحمل أبو نواس، قولا وفعلا، نتائج مواقفه، حتى أنه دخل الحبس بسبب مواقفه الفكرية، المعارضة لما quot;دأبquot; عليه معاصروه. فقد خبر أبو نواس، وفقا لتجاربه الحياتية وقراءاته للتاريخ البعيد وذاك الذي عاش أحداثه شخصيا، أن quot;دأبquot; القوم الذي عاش في وسطهم هو، تمجيد العنف، والتعصب القومي، والانغلاق الفكري، واللوذ بقوة العشيرة، وتكديس الثروة حتى ولو كانت من السحت الحرام، ورفض quot;الآخرquot; المختلف، والجمود الثقافي ورفض الحداثة وعدم مسايرة العصر، والتمسك بالقشور دون لب الأشياء.
وإزاء كل هذه القضايا وغيرها، كان لأبي نواس مواقف متفردة، وأصيلة خاصة به. فالعنف، مثلا، يرفضه أبو نواس رفضا مبدئيا، حاسما وقاطعا، وهو يتعامل مع العنف السياسي، أي عنف الدولة، على طريقة quot;همquot;، أي الجلادون، أو الحكام، وquot;نحنquot; أي الضحايا، أو الناس البسطاء (موقف أبي نواس إزاء الحرب نجده مكررا، وأحيانا بشكل حرفي، عند شعراء الحرب العالمية الأولى الأنكليز: ساسون، الفريد أوين، اسحق روزنبرغ، وعند الروائي الأميركي ستيفن كرين، وعند الألماني أرك ماريا ريماك، وعند الفرنسيين رومان غاري وهنري باربوس، ولكن خصوصا عند جان جينه). وهو يعتمد في رفضه ذاك على أسباب وعوامل شخصية وأخرى مبدأية. فهو يرى أنه شخصيا، أي وفقا لمؤهلاته وصفاته السيكولوجية والبدنية، لم يخلق للحرب:
يا بشر ما لي والسيف والحرب وإن نجمي للهو والطرب
فلا تثق بي فإنني رجل أكع عند اللقاء والطلب
والسبب الثاني، وهذا هو الأهم، يرى أبو نواس أن سفك دم الإنسان لا تبرره أي quot;قضيةquot;، مهما كانت عادلة ونبيلة. بالإضافة لذلك، فإن أبا نواس يرى أن الحياة هي أقصر من أن يبددها الناس في معارك وحروب تثير عداوات وأضغان وأحقاد، تظل تتناسل ولا تموت. فهو يفضل إذا quot; سارت راية الموت وشبت حربهاquot; أن يرفع، هو ورفاقه الذين يؤمنون بأراءه، راية quot;الحياةquot;، راية ضرب العود والغناء والعيش المشترك، وشعارهم هو :Make Love Not War :
إذا ما ضربوا الطبل ضربنا نحن عيدانا
فهذي الحرب لا حرب تغم الناس عدوانا
فعادت حربنا أنسا وعدنا نحن خلانا
وإذا كان أبو نواس يرفض العنف كأسلوب في حل النزاعات، فمن الطبيعي أن يرفض، أيضا، التعصب بكل أصنافه. وهنا، أيضا، لأبي نواس دوافعه وأسبابه الخاصة. فهو، كهامشي في المجتمع، لا حسب له ولا نسب (تماما مثل جان جينيه)، يشعر بغربة واغتراب وسط قوم لا quot;دأبquot; لهم غير التفاخر بأنسابهم وعشائرهم ومنزلتهم الاجتماعية. إنهم يشعرونه بquot;دونيتهquot; الاجتماعية، ولهذا فأنه يفضل، مدفوعا بأراءه ومواقفه الكوسموبوليتية أو الأممية، على معاشرة quot;الأعاجمquot; :
وبنو الأعاجم لا أحاذر منهم / شرا، فمنطق شربهم مذموم
لا يبذخون على النديم إذا انتشوا / ولهم إذا العرب اعتدت تسليم
وجميعهم لي، حين أقعد بينهم / بتدلل، وتهيب، موسوم
لكن مجالسة quot;الأعاجمquot;، ورفض العنف لا تعني، بأي شكل من الأشكال، كراهية أبي نواس لوطنه الذي ترعرع وعاش على أرضه ووسط أبناءه. حب أبي نواس للعراق لا يضاهيه حب آخر:
كفى حزنا أني بفسطاط نازح ولي نحو أكتاف العراق حنين
وإذا كان لquot; الوطنية العراقيةquot; من ينطق بأسمها ومن يجسدها، فهو الحسن بن هانيء لا غيره. فعشقه لبغداد، بكرخها وصالحيتها، لا يضاهى، وكذلك تقديسه لأجواء الحرية الشخصية والتسامح الاجتماعي في مرابع بغداد، إلى حد أنه يتمادى في هذا التبجيل وفي هذا العشق لبغداد (وقائل: هل تريد الحج ؟ قلت له: نعم، إذا فنيت لذات بغداد).
أماquot;البصرة البيضاءquot; فيكن لها حبا عارما، ويقدر طيبة أهلها ونقاء سريرتهم تقديرا لا يبارى ( لا أستخف صداقة البصري ). والكوفة أو quot;كوفانquot; لها عنده موقع خاص، فهو يطري على مستواها الثقافي وعلى ظرف أهلها، أيضا، (ذهبت كوفان مذهبها وعدمت عن ظرفائها صبري). وحبه الخاص لمدينة هيت، في غرب العراق، يبيح له أن يطارح أهلها ظرفهم ووداعتهم ودماثة خلقهم (من أهل هيت سخي الجرم، ذي أدب له أقول مزاحا: هات يا هيتي). بعد ذلك يعرج أبو نواس على مدينة عانة القريبة من هيت (وهاكها قهوة صهباء، صافية منسوبة لقرى هيت وعانات). ولا ينسى أبو نواس ظرف الأكراد، ومجالسهم الباذخة (عتقها الكردي في مجلس بين بساتين وأجبال). وفي ديوانه يآخي أبو نواس بين المسلم والمسيحي واليهودي والعربي والأعجمي، بل أنه يود لو جمع البشرية كلها في أهاب واحد، ووفر للجميع الكرامة والعيش الرغيد.
وإذا كانت الأفكار وليست الفقر أو الجمل فقط، موجودة على قارعة الطريق، يلتقطها ويغرف منها ما يشاء، منذ أن تكونت اللغة ومنذ أن استخدم الإنسان عقله، فبإمكاننا القول أن مقولة quot;النظرية رمادية لكن شجرة الحياة خضراءquot; يجب أن تنسب لأبي نواس وليس إلى لينين أو غوته.
ولسقي quot;شجرة الحياةquot;، وجعلها أكثر اخضرارا، نذر أبو نواس نفسه. إنه مثقف يؤمن بالتجديد، ومستعد دائما وأبدا لركوب المغامرة الثقافية والإبداعية والحياتية حتى نهاياتها القصوى، لكنه لا يطالب بإحداث قطيعة بين الماضي والحاضر. فهو يعتز بالتراث اعتزازا كبيرا إلى حد انه غالبا ما يلقح نتاجه الإبداعي بإبداع الذين سبقوه( زهير بن أبي سلمى، جرير، عروة بن حزام، قيس الملوح، النابغة الجعدي الأعشى... ). لكن أبا نواس يحتفي بالتراث لا لتحنيطه ولا لتقديسه، إنما ليبني عليه ويطوعه ويجعل منه وسيلة لمواجهة متطلبات العصر الذي يعيشه، محتفظا هو، أبو نواس، بأراءه ومواقفه الخاصة المتفردة.
أبو نواس، إذا شئتم، مثقف شعبوي، متواضع إلى حد الكسر، وجماهيري إلى حد الابتذال، يستمتع، أي استمتاع بمجالسة quot;شذاذ بغدادquot;. لكن شعبويته تخفي وراءها معرفة فلسفية عميقة، حتى أن شيخ المعتزلة، إبراهيم النظام، يقول (طبقا لرواية بن منظور) أنه وضع كتابا في الحركة والسكون، مستلهما فكرته من بيتين سمعهما لأبي نواس. وأبو نواس ذاته يرى نفسه فيلسوفا، ويجد نفسه موكلا بأداء مهمة فكرية، على غرار كبار الفلاسفة:
فكيف ترون زجري واعتيافي / ألست من الفلاسفة الكبار ؟
أو قوله:
لم أشرك الناس يوم العيد في الفرح / ولا هم شركوني في جوى الترح
غدوا بزينتهم فيه وخلفني / ألا تروح لي من قلبي القرح
لكن هذا الفيلسوف الكبير، quot;المبتلىquot; ( خليون من أوجاعنا يعذلوننا يقولون: لم تهوون ؟ قلنا: لذنبنا) لا يملك منظومة فلسفية متكاملة، واضحة ومحددة، إنما رؤى تصل، كما قلنا، إلى حد التعارض والتناقض. ففي مسألة التفاوت الطبقي، مثلا، لا يرى أبو نواس أن هذا التفاوت سيزول يوما، وسيظل حب الثروة وجمعها، طبيعة من طبائع البشر:
إلا إنما الدنيا عروس، وأهلها / أخو دعة فيها، وآخر لاعب
وذو ذلة فقرا، وآخر بالغنى / عزيز، ومكظوظ الفؤاد، وساغب
وبالناس كان الناس قدما، ولم يزل / من الناس مرغوب إليه وراغب
مع ذلك، فان أبا نواس يزدري، بل يحتقر أصحاب الثروات الذين يتيهون على الآخرين ويستعبدونهم بثرائهم، ليس إلا:
ومستعبد إخوانه بثرائه لبست له كبرا، أبر على الكبر
ولهذا فهو ضد اقتصاد السوق وضد المضاربات التجارية:
إما المكاس فشيء لست أعرفه / والحمد لله، في فعل ولا راح
بل هو يشير إلى ضرورة مساواة الناس جميعهم وتقسيم الثروة بين الجميع، بطريقة اشتراكية quot;لإلحاق الفقير بذي الغنىquot;.
ولأن أبا نواس يدرك جيدا أن هذه الأمور هي من شؤون السياسيين ورجال الدولة، وتحتاج إلى quot;فعلquot; سياسي، ولأنه يعي قدراته الذاتية، وانه مثقف خلق للتأمل وليس للفعل، فانه يكتفي بالتحذير مرة، والتلميح مرة أخرى، ويزاوج بين المواقف المبدأية والريلبولتيك، مرة ثالثة، وبالتمرد الفوضوي quot;السلبيquot; مرة رابعة، ليعاقب من خلاله المجتمع، ويفضح نفاقه وزيفه:
لا تطلبن اللذات مكتتما / وأغد إليها كخالع الرسن
ومثلما كان أبو نواس مثارا للجدل في حياته، بسبب مواقفه الحرة، وأصالته، وأراءه المتفردة، وquot;تناقضاتهquot; الصادقة، ودأبه المتواصل للإمساك بالحقيقة والدخول إليها من ألف باب، وليس من باب واحد، فأن موته كان، أيضا، مثارا للاختلاف، حتى أن الروايات التي يقدمها ابن منظور، صاحب لسان العرب، عن أسباب موت أبي نواس، والطريقة التي لفظ بها أنفاسه، تكاد لا تصدق لتضاربها. ولم يسلم أبو نواس، حتى في لحظات نزعه الأخير، من التشنيع وتشويه السمعة، وإلصاق التهم الباطلة، وحتى رميه بالطائفية، وكأنهم يغارون منه حتى وهو تحت التراب، ويخشونه حتى وهو في رمسه.
إنه لمن غير الإنصاف أن يستمر البعض، بعد مرور قرون على انطفاء ذاك النيزك (هل انطفأ حقا ؟)، إلى الحط من قدره والإساءة إليه. وإذا كانت المخيلة الشعبية معذورة في دأبها على تصوير أبي نواس بطريقة كاريكاتورية،أو إظهاره كمهرج، فمن الصعوبة أن نعذر بعض كبار المثقفين العرب (طه حسين وعباس محمود العقاد وعبد الرحمن صدقي ومحمد مندور) وهم يقدمون أبا نواس، عن عمد وإصرار، ولكن بإجحاف، كواحد من الطابور الخامس، زرعه الفرس في قلب حضارة العرب لتهديمها، رغم أن أبا نواس هو القائل:
إنما العيش يا أخي حب خشف من العرب
فإذا ما جمعته فهو الدين والحسب
كل من قال غير ذا فاصفعوه فقد كذب.