في أول وزارة عراقية تم تشكيلها عام 1921، تم اختيار العراقي اليهودي ساسون حزقيال وزيرا للمالية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الأكثرية في العراق هم المسلمون، فأن حزقيال يكون قد عين وزيرا لبيت مال المسلمين. وعندما ظهر للوجود قانون المجلس التأسيس عام 1922 فأن الفقرة الثانية فيه نصت على أن يكون من بين الأعضاء يهوديان من بغداد وواحد من كل من البصرة والموصل وكركوك. وفي قانون انتخاب النواب (رقم 11 العام 1946)، نصت المادة التاسعة فيه على أن يمثل اليهود العراقيون ثلاثة نواب من بغداد ونائب من الموصل إلى جانب من يمثلهم في مجلس الأعيان.
وبعد ثورة 14 تموز 1958 تم اختيار العراقي المندائي، عالم الفيزياء الشهير، د. عبد الجبار عبد الله كأول رئيس لجامعة بغداد (كانت وقتذاك تعتبر بمثابة وزارة) في العهد الجمهوري. وعندما أعترض البعض على تعيين عبد الله بسبب ديانته، وطالبو باختيار علماء آخرين عرب ومسلمين، مثل د. عبد الستار الجواري و د. عبد العزيز الدوري، فأن رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم رد بقوله: quot; إن الثورة لا تفرق بين مذهب ومذهب وبين دين وآخر، بل جاءت لوضع كل إنسان عراقي مهما أختلف دينه وقوميته وشكله في المحل المناسب (نقلا عن: د. جمال العتابي، عبد الجبار عبد الله.. شرف العلم والموهبة الفذة. منشور في موقع اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر.quot;
وخلال الفترة التي أعقبت انقلاب 17 تموز 1968 أصبح العراقي المسيحي طارق عزيز واحدا من أكثر العراقيين الذين تناوبوا على شغل منصب وزير الخارجية في العراق. وعندما يمثل حاليا عزيز أمام المحكمة فأن ذلك لم يحدث بسبب ديانته، بل لسبب سياسي، تماما مثلما يحدث لعراقيين آخرين غير مسيحيين يقفون بجانبه في قفص الاتهام.
ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى اليوم لم يعرف العراق تظاهرة احتجاج جماعية، ولو واحدة، ضد اختيار عراقيين غير مسلمين في مناصب رفيعة في الدولة العراقية، لا من المرجعية الدينية، ولا من العشائر، ولا من النخب الثقافية، ولا من الأحزاب السياسية.
وإذا كان هذا قد حدث على المستوى الرسمي (الدولة)، فأن ما حدث على المستوى المدني، أي منظمات المجتمع المدني، في الحقول السياسية والثقافية والاجتماعية، كان أكثر بكثير. فالعراقيون، مثلا، كانوا يعرفون حق المعرفة أن الحزب الشيوعي العراقي أسسه (وكان ذلك قبل أكثر من سبعين عاما) عراقي مسيحي أسمه يوسف سلمان يوسف (فهد). لكن هذا الحزب انتشر في أنحاء العراق المختلفة، كما لا ينتشر أي حزب آخر. وطوال العقود التي تلت تأسيس الحزب الشيوعي، أنضم إلى قياداته وقواعده ألاف مؤلفة من العراقيين، وبعض منهم ينحدرون من عائلا دينية مرموقة في البلاد.
والعراقيون يعرفون، أيضا تمام المعرفة، أن مؤسس حزب البعث هو مسيحي غير عراقي اسمه ميشيل عفلق. لكن اللذين أسسوا فرعا لهذا الحزب داخل العراق أو أصبحوا من أبرز قياديه، كانوا ينتمون إلى عائلات دينية شيعية وسنية مشهورة، وعشائر عراقية ضاربة، كفؤاد الركابي، وسعدون حمادي ومحسن الشيخ راضي، وهاني الفكيكي... الخ.
هذا في العراق الحديث، أما في عراق العصور الإسلامية فأن جميع اللذين عاشوا على أرض الرافدين من غير المسلمين ومن غير العرب، إنما عاشوا في أجواء كبيرة من التسامح، وأتيحت أمامهم فرص كافية للمساهمة في بناء المجتمع.
هذه حقائق تاريخية يكفي، لكي نتأكد من وجودها، أن نلقي نظرة سريعة على تاريخ العراق. لكن هذه الحقائق تريد جهات في عراق اليوم أن تلغيها، لأنها تستفزها، ولأنها تتقاطع مع مشروعها الأحادي الجانب، و تريد جهات أخرى أن تقفز فوقها لأنها تتعارض مع حساباتها القومية المبالغ فيها. والمفارقة المؤسفة هي، أن بعض الجهات التي تريد الآن تهميش دور quot;الأقلياتquot; (ونحن نضع مفردة أقليات بين مزدوجتين، لأننا نرى أن أي عراقيين، مهما كانت ديانتهم أو قوميتهم، هم مواطنون وليسوا أقليات، لهم ما لغيرهم من الحقوق وعليهم ما عليهم من واجبات) عانت، في زمن سابق، من التهميش. لكنها، بعد أن أصبحت مسؤولة عن قيادة البلاد، راحت تهمش غيرها من العراقيين، أو تساهم في التهميش أو، في أحسن الأحوال تسكت عنه أو تبرره، وتجد له الأسباب، ولكن أي أسباب !
هاكم ما قالته بعض الشخصيات، وهي تبرر إلغاء الفقرة 50 التي كانت تسمح بضمان مقاعد للمسيحيين وغيرهم من quot;الأقلياتquot;.
يقول نائب رئيس البرلمان العراقي خالد العطية: quot;إن مجلس النواب أخذ بنصيحة الأمم المتحدة التي أبدتها منذ بداية مناقشة قانون انتخابات مجالس المحافظات وهي، أن تترك عملية اختيار ممثلي الأقليات للمناطق التي يتواجد فيها عدد كبير من أبناء تلك الأقليات.quot; ويرى العطية أن quot;قضية تمثيل الأقليات أعطيت أكبر من حجمها بكثير، كون قانون انتخابات مجالس المحافظات الذي صوت عليه مجلس النواب بالإجماع لا يقصي ولا يهمش الأقليات.quot; وأوضح أن quot;الأرقام المقترحة للمثلي الأقليات ستكون اعتباطية وتعسفية بسبب عدم وجود قاعدة بيانات واضحة ومعتمدة، وأرقام إحصائية شفافة عن أعداد الأقليات في مختلف مناطق العراق.quot;
وقال القيادي في كتلة الإتلاف، حيدر العبادي، إن quot;خلافات الأقليات على عدد المقاعد الممنوحة لها في مجالس المحافظات دفع الكتل السياسية إلى إلغاء الفقرة الخاصة بحصة الأقليات من القانون.quot; وأوضح العبادي بأن quot; سبب عدم أعطاء حصة للأقليات عائد إلى وجود مشاكل بين الشبك والإيزيدية والمسيحيين حول المقاعدquot; وأن quot;كل فريق كان يريد عدد مقاعد في مجلس المحافظات أكبر من الفريق الأخر.quot;
إما رئيس لجنة الأقاليم في مجلس النواب، النائب عن جبهة التوافق، هاشم الطائي، فقد قال: quot;إن مجلس النواب العراقي حذف بأغلبية أصواته المادة التي تنص على وجود حصة مقررة للأقليات في مقاعد مجالس المحافظاتquot; لأن quot;بعض الأقليات ليست ضمن مستوى الأقليات وأعدادها تتراوح ما بين 400 ألف نسمة، لذا لا يمكن حسبانها على الأقليات التي تتمكن من حيث الأصوات اللازمة للحصول على مقاعد لها، كالصابئةquot;.
نسأل هولاء السادة: هل كانت توجد quot;قاعدة بيانات واضحة ومعتمدة، وأرقام شفافة عن أعداد الأقلياتquot; عام 1921 عندما تم أختار العراقي اليهودي، ساسون حزقيال وزيرا للمالية؟
هل أجرى رئيس وزراء العراق الزعيم عبد الكريم قاسم إحصائية عن عدد الصابئة، عندما أختار العراقي الصابئي، د. عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد، قبل أكثر من خمسين عاما؟
ثم، هل أجريت عملية إحصائية لعدد النساء العراقيات عندما تم تخصيص نسبة معينة لهن في مقاعد البرلمان الحالي؟
وهل تم بحث quot;المشاكل بين الشبك والإيزيدية والمسيحيينquot; عندما تمت صياغة الفقرة 50 قبل أن يلغيها البرلمانيون الآن؟
إن مسألة إلغاء هذه المادة لم يحدث لأسباب quot;تقنيةquot;، كغياب إحصاء لأعداد الأقليات، أو لخلافات بين الأقليات. المادة ألغيت لأن الكتل السياسية الكبرى الممثلة في البرلمان لا تؤمن، إيمانا حقيقيا، عميقا، وراسخا بفلسفة الديمقراطية التعددية، كغاية وكوسيلة لبناء الدولة العراقية الجديدة. لو كانت هذه الكتل السياسية تملك قناعة راسخة لبناء عراق ديمقراطي تعددي، لخاضت حربا شعواء لتثبيت المادة 50 الملغاة.
ألم يشهد مجلس النواب معارك حقيقية من أجل تثبيت بعض المطالب، كقضية استخدام الرموز الدينية، وقضية كركوك، ومسألة الأقاليم، ومسألة رفع الحصانة عن بعض النواب، ومسألة قانون انتخابات المحافظات؟
هناك، لدى الكتل السياسية الكبرى الممثلة في البرلمان، أولويات quot;تستقتلquot; لتنفيذها. وأولى الأولويات هي تحقيق الأهداف الخاصة بهذه الكتل، وبعد ذلك فليأت الطوفان.
ما العمل؟
بعد أن تم إلغاء المادة 50 برزت احتجاجات لا بأس بها من قبل أوساط المجتمع المدني العراقي، وبسببها حاولت الكتل البرلمانية الكبرى quot;تصحيحquot; quot;الخطأquot;، فأوكلت مسألة تمثيل الأقليات إلى المفوضة العليا للانتخابات. إن حلا مثل هذا ليس quot;ترقيعياquot; فحسب، وإنما هو أهانة حقيقية جديدة تلحق بالأقليات العراقية، بعد أهانة التفسيرات التي بررت إلغاء المادة 50. فتلك التفسيرات التي ذكرناها في بداية المقال، أرادت أن تقول، إجمالا، للعراقيين المسيحيين والصابئة والإيزيدية والشبك: أنتم ليسوا سوى مجموعة من quot;الزعاطيطquot; المتخاصمين، أذهبوا ورتبوا أموركم يا أطفال وأجروا إحصائيات دقيقة وشفافة لأعدادكم وعندها سننظر بقضيتكم. وإذا لم تفعلوا ما نأمركم به فسنوصي المفوضية العليا للانتخابات أن تمنحكم ما تجود به، على طريقة: لله يا محسنين.
هذه الرؤية الاستعلائية لا تعيد حقوق الأقليات العراقية، قطعا، لأنها تعتمد على قاعدة الوصاية، وعلى مبدأ أن (القوي) هو الذي يقرر ويحسم الأمور. وهذه الرؤية تلتقي مع تلك التي يطالب أصحابها الفاتيكان أن يتدخل لأنصاف الأقليات، وخصوصا المسيحيين، وكأن هولاء وجميع أبناء الأقليات ليسوا أبناء العراق الأصلاء، وإنما (جاليات) أجنبية استوطنت العراق البارحة، وهي بحاجة إلى عطف إنساني من هذه الجهة الدولية أو تلك.
إن الحل الحقيقي يكمن في إصرار الأقليات العراقية على انتزاع حقوقها، وفي رفضها أن يعامل أبنائها كمواطنين من الدرجة الثانية. والحل يكمن، أيضا وأيضا، في التضامن الحقيقي والواسع لنصرة الأقليات، الذي يجب أن تبديه كل القوى العراقية، جماعات وأفرادا، التي تطالب بعراق ديمقراطي تعددي. هذه القوى لا تقتصر على جهة معينة، وإنما تشمل الديمقراطيين واليساريين والقوميين والإسلاميين المتنورين. وما يفرح القلب هو، أن أحزابا وأفرادا تنتمي إلى جهات مختلفة، بما في ذلك من داخل القوى الإسلامية، بادرت إلى الاحتجاج ضد إلغاء المادة 50، وإبداء تضامنها مع مطالب الأقليات العراقية. ولا بد أن نثمن هنا بموقف رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي قال، بصفته الرسمية: quot; كنا نأمل من مجلس النواب الموافقة على مشروع القانون الذي رفعه مجلس الوزراء والذي يتضمن حماية تمثيل الأقليات وفق الدستور بما ينسجم مع توجهاتنا في الحرص على ضمان تمثيل عادل لجميع مكونات الشعب العراقي والدفاع عن حقوقها.quot;
ولكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق المثقفين العراقيين. فنحن نرى كيف أن الساسة العراقيين منكبون على تحقيق أهداف الكتل التي ينتمون إليها، حصرا، ونحن نرى كيف أن (الجماهير) العراقية مثخنة بالجراح، جراح الركض وراء تأمين لقمة العيش، وجراح تغييب الوعي والتخدير الطائفي، والقومي المتعصب، وجراح اليأس واللاجدوى من فعل أي شيء، وبالتالي ليس لديها الوقت، ولا المزاج الرائق، بل ولا حتى القدرة على الرؤيا الشاملة التي تشجب الظلم الذي يقع بأي مكون من مكونات المجتمع العراقي، مثلما تم رفع شعار quot; ليسد السلم في كردستانquot;، عندما كان الأكراد في الستينيات من القرن الماضي، يعانون من الظلم والتهميش.
ولهذا، فأن المثقفين العراقيين التنويريين، على اختلاف توجهاتهم ومواقفهم وأرائهم السياسية، مطالبون بقيادة حملة واسعة لا تتوقف إلا بإعادة الفقرة 50، وليكن الشعار المرفوع:
كلنا أقليات عراقية.