حقا، يستبيحون من؟

بعد quot;صولات الجهاد الكبرىquot; التي خاضتها مليشيات تابعة لأحزاب دينية، ضد مجاميع من غجر عزل من كل شيء، يسكنون في خيام بائسة على أطراف مدينة الديوانية، وسط العراق، كتب الشاعر العراقي المعروف عبد الكريم الكاصد قصيدة قصيرة عنوانها quot;مليشياتquot;، هذا نصها:

quot;بدشاديشهم
وبنادقهم
وآياتهم
يستبيحون من؟
غجرا هائمين،
وبضع خيام،
وأوعية لا تساوي الرصاص الذي يرتدون
يستبيحون
من ؟ quot;

يقينا، أن مفردة quot;بدشاديشهمquot; لا يعني بها الشاعر الإساءة للفئات الاجتماعية الفقيرة، التي تعتبر quot;الدشداشةquot; زيها التقليدي، إنما الإشارة إلى وضعهم الطبقي البائس، مثلما أن مفردة quot;بآياتهمquot; لا تعني الإساءة للآيات القرآنية الكريمة. فالشاعر لم يقل quot;آياتquot;، وإنما quot;آياتهمquot;، أي فهمهم الخاص المعوج لتعاليم الإسلام السمحة.
القصيدة هي صرخة يطلقها شاعر (وهل يملك الشاعر، أي شاعر، سوى إطلاق الصرخات ؟) تهدف لاستعادة وعي مفقود، أو إيقاظ وعي نائم، أو وعي يراد له أن يظل نائما، أو استعادة لآدمية صادرها العنف الأيديولوجي، بعد أن حول أصحابها إلى دمى، أو خيول معصوبة العيون تجر، دون أن تدرك وتعي، طاحونة الآخرين، وليست طاحونة مصالحها هي.

ولو أردنا إعادة صياغة موضوع هذه القصيدة بسطر واحد لقلنا : مقموع يحارب مقموعا، وما من شيء يحدث.
ولو أردنا إعادة صياغتها بلغة شعرية أخرى، فأننا نجد هذه الصياغة عند الشاعر العراقي البارز، موفق محمد:

quot; ماتوا ضحايا سارقين ومارقين وناقصين
وكافرين وقاطعي طرق ونصابين
عتالين مأجورين (...)

وهنا، بالضبط، يكمن أس الخراب الذي يراد له أن يستمر وأن يسود العراق من أدناه إلى أقصاه. إنه الوضع العبثي بعينه، وليس أي وضع آخر. الجميع بانتظار (غودو)، وغودو لا يأتي. لكن المرعب في هذه المسرحية العراقية هو، أن منتظري غودو محبوسون داخل غرفة، الأقلية القليلة منهم quot;يرتدون الرصاصquot; ومدججون به من قمة الرأس حتى أسفل الكاحل، والأكثرية quot;غجرا هائمينquot;، وقد وضع الجميع داخل غرفة مظلمة، أقفل بابها جيدا، ورمي مفتاحها إلى الخارج. وعلينا أن نقدر أي دمار فادح سيلحق بالعزل منهم، بل حتى بتلك الدمى المدججة بالسلاح، (إذ من يمنع، في مدينة العميان هذه، أن يقتل المسلحون أنفسهم ، أو يقتلون بعضهم بعضا). والذي يزيد المشهد عبثية مأساوية هو، أن هولاء الذين في الداخل ليس بمقدورهم الخروج، و اولاءك الذين في الخارج لا يستطيعون العثور على المفتاح، فالظلام هنا، هو سيد الموقف. إنها quot;لعبة الروليتquot;، كما يسميها موفق محمد:

quot; أفرغت كل سنبلة
في لعبة الروليت
كيف ستعشب الأرض الخراب
ولا بذور ولا ضياء
لا شمع حتى تنقذ الأرض النذور
سوى الدماء
أفرغت كل سنبلة
في راحة الوهم المقدس
عيني على لغة المسدس
فهي من أعتى اللغات
وصدى الخراب يجيب ناطقها
ومن كل الجهاتquot;
وإذا كان العبث، هنا، يحمل دلالة فلسفية، فأنه يحمل، في مكان آخر، دلالة واقعية، معاشة.
يقول الكاصد في قصيدة أخرى عنوانها (أسلاك) يتحدث فيها عن مدينته البصرة التي سبق له أن زارها قبل عامين، ويمكن اعتبارها تكملة للقصيدة الأولى:

quot;ما استوقفني في البصرة
كثرة الأعمدة والأسلاك
والقليل مما يصل في الليل
من الضوءquot;

البصرة، مثلما مناطق العراق الأخرى، كانت، وما تزال حتى بعد كل quot;صولاتquot; الحكومة، تعيش وضعا عبثيا، وما زالت تعج بالذين quot; يستبيحونquot; quot;الغجر الهائمينquot;. صحيح، أن أزيز رصاصهم خفتت حدته، لكنهم هنا، لم يبارحوا المكان. وحتى يثبتوا أنهم هنا، فأنهم يغيرون بين آونة وأخرى على quot;الغجر الهائمينquot;.
ففي الخامس من الشهر المنصرم، قال مصدر أمني من شرطة البصرة quot;إن مسلحين مجهولين اقتحموا محلا للحلاقة في منطقة السيمر وسط مدينة البصرة، فقتلوا حلاقا وفروا إلى جهة مجهولة.quot;
وفي بغداد قال صاحب مكتب للموسيقى، في الثاني والعشرين من الشهر نفسه :quot; اعتقدت أن الأمور تحسنت وصار باستطاعتي أن أمارس مهنتي التي انقطعت عنها منذ خمس سنوات بسبب تحريمها وقمت بافتتاح مكتب للموسيقى والغناء كلفني مبالغ كبيرة، ولكن بعد ثلاثة أيام تم تفجير المكتب ليلا بقنابل يدوية وتركت ورقة على الركام مكتوب عليها تحذير من مغبة إعادة فتح المكتب أو ممارسة المهنة، ضمن ما يعرف بالأحكام الشرعية التي تطبقها المليشيات على الأهالي.quot;
quot;وإلى الجنوب من بغداد شهدت الأحياء الشعبية عودة ظاهرة رسائل التهديد التي تحمل رصاصات وطبعت عليها أثار دماء ويطالب من ترسل إليه بمغادرة المنطقة حالا.quot;
وإلى الغرب بغداد، تم زرع عبوات ناسفة في المنازل العائدة للأسر المهجرة لمنعها من العودة إلى منازلها التي ولدت ونشأت فيها منذ سنين.

لكن، لماذا الضحايا هم أنفسهم، دائما وأبدا : الغجر، الحلاقون، الموسيقيون، أساتذة الجامعات، المثقفون من كل الأصناف، النساء اللواتي طفرت خصلة من شعورهن من تحت الحجاب وتغاضين من إعادتها إلى الحظيرة، الشباب الضاحكون في سفرة طلابية مشتركة، الأسر المطمئنة في بيوتها، المتساكنة بسلام تاريخي أبدي، والتي يسند بعضها البعض الآخر، بعيدا عن كل الفوارق ؟
لماذا هولاء ؟ وما الخيط الرابط بينهم ؟ ولماذا تحضر دائما تلك الرصاصة المخضبة بالدم، وعيدا ونذيرا ؟

لأن الذين quot;يرتدون الرصاصquot; في الغرب والشرق والشمال والجنوب لا يجيدون غير quot;لغة المسدسquot;. رصاصهم لغتهم وأفكارهم رصاصهم. هم لا يملكون حجة أو بينة، ورؤوسهم خالية من أي مشروع، غير إدامة الخراب. فعندما يستهدفون الحلقة الأضعف (الغجر) فأنهم يعملون بمقولةquot;أدخل الهلع إلى قلوب الضعفاء كي يهابك الأقوياء، ويسلموا لك زمام أمرهمquot;. وعندما يغيرون على الحلاقين وأصحاب المكاتب الموسيقية، فأنهم يستهدفون استئصال البهجة العامة، لمنع عودة الحياة إلى طبيعتها الاعتيادية، وليبقى الحزن سيد الموقف، فيتحول السواد إلى قاعدة عامة مقبولة من الجميع، كأنها القضاء والقدر، ويصبح الفرح استثناءا، وبالتالي الاستمرار في ترويض المجتمع، ودفعه للاستكانة إلى حد أن تصبح عنده مجرد الرغبة في البقاء على قيد الحياة، واحدة من الأمنيات الكبرى، بل الأمنية الوحيدة .
وعندما يستهدف quot;الذين يرتدون الرصاصquot; المثقفين وأساتذة الجامعات وأفراد الفئات الوسطى، خصوصا المتنورين منهم، إنما يريدون الاستمرار في دفع عملية quot;ترييفquot; وquot;تصحيرquot; المدينة إلى حدها الأقصى، وتحويل quot;الحواضرquot; العراقية إلى ساحات قتال، وغابات ضواري، يتحرك ساكنوها بدفع من غرائزهم البدائية، ويفكرون على طريقة quot;القطيعquot;، وليس كأفراد أحرار يقفون بوجه الظالم مهما كان وينتصرون للمظلوم مهما كان.
وعندما يستهدفون النساء اللواتي يرفضن، عن طريق quot;خصلات شعورهن النافرةquot;، الدخول في بيت الطاعة quot;الآيدولوجيquot;، إنما يحولون المرأة إلى quot;مدرسةquot; يعدونها، على طريقتهم الخاصة، إعدادا جيدا لتفريخ المزيد من quot;الدمىquot;، أو المزيد من quot;الخيول معصوبة العيونquot;، مسلوبة العقل والإرادة الحرة.
الذين quot;يرتدون الرصاصquot; يكرهون الحياة، ويعرفون جيدا أن لا حياة بدون بهجة، بدون فرح، بدون موسيقى، بدون شباب ضاحك، بدون عائلات من طوائف ومذاهب وأعراق مختلفة، تتزاور فيما بينها، تجلس على مائدة واحدة، وعندما تنهض ترمى فضلات التفرقة الطائفية والدينية والعنصرية في سلة القمامة سوية مع فضلات ما يتبقى من طعامها.
quot;الذين يرتدون الرصاصquot; يريدون للجميع أن يرتدوا الرصاص، مثلهم، مثلهم، مثلهم. وآنذاك، ماذا يحل بquot;تلك الشوارعquot; ؟
يجيب الكاصد في قصيدة ثالثة تحمل العنوان نفسه:

quot;حين تخلو من الناس
تلك الشوارع
أو تستفيق على زخة من رصاص
أتمسك مذعورة وجهها باليدين
وتعول ؟
هل تمسح الدم عن وجهها
وهي ترتج ؟
هل تستدير إلى حائط
عند نافذة
أغلقت ؟
هل تدق على أي باب
وتجلس مطرقة ؟
أم ترى ترتدي للعزاء السواد،
كما يرتدي الناس،
تلك الشوارع

إنها أسئلة حائرة. إما لماذا الحيرة، فلأن أوضاع العراق نفسها حائرة ومحيرة. ما يطفو على السطح شيء، وما يدور في الأعماق شيء مغاير.كل ما نراه على خشبة المسرح، خلال السنوات الخمس الماضيات، لا يشير إلا إلى الرصانة والتعقل والحكمة والعدل والأنصاف، لكن ما يحدث في الكواليس ليس سوى ملهاة من النوع الهابط.

كل ما نراه وكل ما نسمعه على خشبة المسرح مخضب بالروحانية والخشوع والتقوى:
رجال دين من كل المذاهب حاضرون في كل جهات العراق الأربعة، وفي كل زاوية من زوايا العراق، في الشارع والمسجد والبرلمان ومقرات الأحزاب ودور العبادة وداخل الطائرات وفي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وكلهم يدعون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
جمعيات دينية تضم الرجال والنساء، يزيد عددها على عدد مستشفيات العراق وجامعاته، وبمسميات غاية في الورع والتقوى: المبشرون والمبشرات، الداعون إلى الخير والداعيات، المبلغون والمبلغات، الناهون عن المنكر والناهيات، المدافعون عن الأخلاق الحميدة والمدافعات.
داخل المساجد والجوامع والحسينيات والتكايا خطب مخضبة بالخشوع. وعلى شاشات الفضائيات، برامج دينية للشيعة وأخرى للسنة وثالثة للاثنين معا، وفود من سامراء إلى كربلاء وأخرى من كربلاء إلى سامراء، ترفع راية الوحدة الوطنية وتؤكد على تلاحم العراقيين ونبذ التفرقة. رايات بيضاء وخضراء وحمراء وسوداء، طرزت كلها بآيات قرآنية ومواعظ.
جيوش وتنظيمات مسلحة لا تستمد مسمياتها إلا من النبي محمد وآل بيته والصحابة والخلفاء الراشدين، ومعارك المسلمين.

إنها أجواء دينية لم تعشها أرض الرافدين، منذ أن عرفت الإسلام.
والنتيجة ؟
النتيجة: كل شيء موجود إلا الإسلام، فساد مالي، وتدليس، وقطع رؤوس، ونذالة استثنائية، وغدر، وامتهان للحرمات وللمقدسات، وإساءة للدين وللتدين، بأساليب لم تشهدها أرض الرافدين، ربما منذ أن وطأتها أقدام أول إنسان.
النتيجة، أيضا: عودة التحريض ضد العلمانية والأفكار الغربية، وهم يقصدون بذلك كل فكر وكل موقف وكل رأي يرفض المتاجرة بالشعارات الدينية وتوظيف الدين لغايات سياسية، سواء جاءت هذه الأفكار من الديمقراطيين أو الليبراليين أو اليساريين أو التنويريين داخل الأحزاب الإسلامية، وإلا، فما دخل الأفكار العلمانية والعلمانيين فيما حدث ويحدث من خراب، وهل أن الأحزاب التي تقود العملية السياسية منذ خمس سنوات هي أحزاب علمانية ؟
إنه العبث
إنه quot;الوهم المقدس.quot;
إنها تبرئة للفاشلين.