ينسى جميع الذين يتحدثون عن نكبة عام 1948 بأن نكبتين حدثتا في العالم العربي وليست واحدة. ففي ذلك العام المشؤوم تعاون الشرق مع الغرب في إعداد كأس من السم، وتم، أولا، إجبار الفلسطينيين على تجرع نصفه الأول دفعة واحدة، فحلت بهم نكبة، هي الأبشع في تاريخ البشرية المعاصر: شعب كامل قتل وشرد من دياره، وما يزال حتى اللحظة وبعد ستين عاما، يقدم التنازل تلو الآخر دون أن يحصل على الحد الأدنى مما خسره.
النكبة الثانية، أو النصف الآخر من كأس السم هو الذي أجبرت المجتمعات العربية على تجرعه، ولكن ليس بجرعة واحدة، وإنما بجرعات متواصلة لم تنقطع، بدأت من ذلك العام وما تزال مستمرة حتى هذه اللحظة. هذا النصف الأخر من كأس السم عنينا به انشغال العالم العربي بالقضية الفلسطينية، بإخلاص وصدق مرة، و برعونة سياسية مرة ثانية، وبدافع استغلالها والمتاجرة بها مرة ثالثة، بحيث غدت حياة المجتمعات العربية جحيما لا يطاق.
كل الأحكام العرفية وقمع الحريات التي شهدها العالم العربي منذ عام 1948، ونصف السجون التي أقيمت (لم نقل كل السجون، فنحن كما تروون ننشد الإنصاف حتى للطغاة)، وجميع قوانين الطوارئ التي ما يزال معمولا بها حتى هذه اللحظة في بعض البلدان العربية، وكافة الانقلابات العسكرية التي أوصلت عسكريين أميين إلى سدة الرئاسة، وتعطيل برامج التنمية ومختلف أساليب تبديد الثروات الوطنية (خصوصا على شراء الأسلحة)، وتعاظم ثروات الحكام وشرائهم للذمم (خصوصا بعد ارتفاع أسعار البترول أثر حرب تشرين)، وجميع أشكال التخندق أو التحالفات التي تقام صباحا وتنهار بعد الظهر (جبهة الصمود والتحدي، دول الضد، دول المواجهة، الدول التقدمية، الدول الرجعية)، وجميع الشعارات الطنانة (وأشهرها كل شيء من أجل المعركة)، إنما كانت كلها تحدث باسم الدفاع عن القضية الفلسطينية، (قضية العرب الكبرى).
النكبة الثانية، أو النصف الآخر من كأس السم هو الذي أجبرت المجتمعات العربية على تجرعه، ولكن ليس بجرعة واحدة، وإنما بجرعات متواصلة لم تنقطع، بدأت من ذلك العام وما تزال مستمرة حتى هذه اللحظة. هذا النصف الأخر من كأس السم عنينا به انشغال العالم العربي بالقضية الفلسطينية، بإخلاص وصدق مرة، و برعونة سياسية مرة ثانية، وبدافع استغلالها والمتاجرة بها مرة ثالثة، بحيث غدت حياة المجتمعات العربية جحيما لا يطاق.
كل الأحكام العرفية وقمع الحريات التي شهدها العالم العربي منذ عام 1948، ونصف السجون التي أقيمت (لم نقل كل السجون، فنحن كما تروون ننشد الإنصاف حتى للطغاة)، وجميع قوانين الطوارئ التي ما يزال معمولا بها حتى هذه اللحظة في بعض البلدان العربية، وكافة الانقلابات العسكرية التي أوصلت عسكريين أميين إلى سدة الرئاسة، وتعطيل برامج التنمية ومختلف أساليب تبديد الثروات الوطنية (خصوصا على شراء الأسلحة)، وتعاظم ثروات الحكام وشرائهم للذمم (خصوصا بعد ارتفاع أسعار البترول أثر حرب تشرين)، وجميع أشكال التخندق أو التحالفات التي تقام صباحا وتنهار بعد الظهر (جبهة الصمود والتحدي، دول الضد، دول المواجهة، الدول التقدمية، الدول الرجعية)، وجميع الشعارات الطنانة (وأشهرها كل شيء من أجل المعركة)، إنما كانت كلها تحدث باسم الدفاع عن القضية الفلسطينية، (قضية العرب الكبرى).
ولكي يتم تكميم الأفواه بطريقة محكمة، تم إضفاء طابع quot;القدسيةquot; والتأليه على القضية الفلسطينية. وبسبب هذه القدسية أصبح أي موقف، وأي وجهة نظر، وأي نقد في كل شأن يتعلق بهذه القضية، من قبل أي جهة، بمثابة كفر بالذات الإلهية.
والحق، أن اعتبار الحديث عن القضية الفلسطينية من المحرمات (تابو) لم يكن فقط حكرا على الحكام العرب، وإنما (وهذه واحدة من نتائج النصف الثاني من كأس السم) حملت رايته قوى سياسية مدنية، أحزاب وأفراد وهيئات. فقد انقسم الناس في العالم العربي إلى قسمين، ملائكة وشياطين، أو مناضلين وخونة. الملائكة أو المناضلون هم الذين أصروا وما زالوا حتى هذه اللحظة، على تحرير كامل التراب الفلسطيني، وبالقوة المسلحة، ورفض أي طريق سياسية، مهما كانت، للتعامل مع القضية (هل نسيتم لاءات الخرطوم الثلاث؟). إما الشياطين أو الخونة، فهم الذين يروون أن حل القضية لا ينجز بالسلاح وحده، فقد يتم بأسلوب غير ذاك الذي ينبع من فوهة البندقية.
وquot;الخونةquot; الأوائل الذين وقعوا، مبكرا، في quot;مستنقع العار والرذيلةquot; هي الأحزاب الشيوعية العربية، عندما وافقت على قبول تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة للفلسطينيين وأخرى لليهود (كان ذلك قبل أن يلفظ أبو عمار كلمته الفرنسية الشهيرة CADUQUE). وquot;الخائنquot; الآخر كان الرئيس التونسي السابق الحبيب أبو رقيبة الذي رأى أن يبدي العرب موقفا عمليا واقعيا بخصوص حل القضية الفلسطينية (حدث ذلك قبل أن يتبادل الرئيس الفلسطيني السابق أبو عمار الحالي أبو مازن القبل مع المسؤولين الإسرائيليين). الخائن الثالث كان الرئيس المصري السابق أنور السادات، عندما حرر سيناء مقابل زيارة quot;العارquot; التي قام بها (حدث ذلك قبل أن يعلن السادات في خطاب عام بان رئيس جبهة الصمود والتحدي الرئيس العراقي صدام حسين رجاه، والعلاقات بين البلدين كانت ما تزال مقطوعة، أن يمده بالأسلحة في حربه ضد إيران).
والحق، أن اعتبار الحديث عن القضية الفلسطينية من المحرمات (تابو) لم يكن فقط حكرا على الحكام العرب، وإنما (وهذه واحدة من نتائج النصف الثاني من كأس السم) حملت رايته قوى سياسية مدنية، أحزاب وأفراد وهيئات. فقد انقسم الناس في العالم العربي إلى قسمين، ملائكة وشياطين، أو مناضلين وخونة. الملائكة أو المناضلون هم الذين أصروا وما زالوا حتى هذه اللحظة، على تحرير كامل التراب الفلسطيني، وبالقوة المسلحة، ورفض أي طريق سياسية، مهما كانت، للتعامل مع القضية (هل نسيتم لاءات الخرطوم الثلاث؟). إما الشياطين أو الخونة، فهم الذين يروون أن حل القضية لا ينجز بالسلاح وحده، فقد يتم بأسلوب غير ذاك الذي ينبع من فوهة البندقية.
وquot;الخونةquot; الأوائل الذين وقعوا، مبكرا، في quot;مستنقع العار والرذيلةquot; هي الأحزاب الشيوعية العربية، عندما وافقت على قبول تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة للفلسطينيين وأخرى لليهود (كان ذلك قبل أن يلفظ أبو عمار كلمته الفرنسية الشهيرة CADUQUE). وquot;الخائنquot; الآخر كان الرئيس التونسي السابق الحبيب أبو رقيبة الذي رأى أن يبدي العرب موقفا عمليا واقعيا بخصوص حل القضية الفلسطينية (حدث ذلك قبل أن يتبادل الرئيس الفلسطيني السابق أبو عمار الحالي أبو مازن القبل مع المسؤولين الإسرائيليين). الخائن الثالث كان الرئيس المصري السابق أنور السادات، عندما حرر سيناء مقابل زيارة quot;العارquot; التي قام بها (حدث ذلك قبل أن يعلن السادات في خطاب عام بان رئيس جبهة الصمود والتحدي الرئيس العراقي صدام حسين رجاه، والعلاقات بين البلدين كانت ما تزال مقطوعة، أن يمده بالأسلحة في حربه ضد إيران).
وما دمنا قد وصلنا إلى صدام حسين، فعلينا أن نعترف بأنه الحاكم العربي الوحيد الذي لم يتعب ولم يمل من الدفاع عن القضية الفلسطينية، وهو الحاكم العربي الوحيد الذي وظف مخيلته الخلاقة وعبقريته التي لا تبارى لهذا الغرض المقدس. فقد وصل وحزب البعث إلى الحكم عام 1968 لتحقيق هدف واحد هو، محو عار هزيمة حزيران، كما قالوا. وعندما رأى أن المنظمات الفلسطينية، فتح وكل quot;الجبهاتquot; اليسارية التي انشقت عنها، تختلف معه في التفاصيل، فأنه أغلق في نهاية السبعينيات، مقراتها في بغداد وأجبرها على الرحيل. وعندما حدثت الثورة الإسلامية الإيرانية وأغلقت السفارة الإسرائيلية، شن صدام ضدها حربه المعروفة. وحالما اكتشف، بعد ثمان سنوات، أن الاحتياطي المالي الخرافي في البنك الرئيسي العراقي قد ابتلعته تلك الحرب، فانه استدار نحو الكويت ليضمها، وليوظف ثروتها النفطية لتحرير القدس، أو على الأقل لحرق نصف إسرائيل. ولأن ضم الكويت استعصى عليه، ولأن تحرير فلسطين استعصى عليه، أيضا، فأنه لم يعترف بمحدودية قدراته (وهل أعترف حاكم عربي آخر غيره؟)، وأعلن على الملأ أن فتح القسطنطينية لم يتم بين ليلة وضحاها.
وصدام على صواب فيما يقول وهو صادق أشد الصدق، وهو تحدث، صادقا، بأسم ملايين العرب. والدليل على ما نقول هي مواقف الإشادة ببطولاته، من قبل النخب العربية، ومن قبل سواد الناس سواء بسواء (تذكروا، نحن ما زلنا نتحدث عن نصف كأس السم). أما، هل قمع صدام حسين الحريات في بلده، وهل بدد الثروة الوطنية، وهل أباد أبناء شعبه بالمواد السامة، وهل أساء إلى الوحدة العربية والتضامن العربي (ظلت علاقته بسوريا مقطوعة طوال حكمه)، وهل رد الاعتبار للولايات المتحدة بعد موقفها في هزيمة حزيران (كانت العلاقات العراقية الأميركية مقطوعة في عهد عارف، وصدام هو الذي أعادها)، وهل استعان بالمخابرات الأميركية في حربه ضد إيران (يقول رئيس المخابرات العسكرية العراقية السابق الجنرال وفيق السامرائي أن مقر المخابرات الأميركية الذي كان يزود العراق بمعلومات عن التحركات العسكرية الإيرانية خلال الحرب كان موجودا في العاصمة الأردنية، لكنه انتقل لاحقا إلى بغداد)، كل هذه الأسئلة هي مجرد (تفاصيل)، والجوهر هو دفاع صدام عن القضية المقدسة، قضية العرب الكبرى.
وصدام على صواب فيما يقول وهو صادق أشد الصدق، وهو تحدث، صادقا، بأسم ملايين العرب. والدليل على ما نقول هي مواقف الإشادة ببطولاته، من قبل النخب العربية، ومن قبل سواد الناس سواء بسواء (تذكروا، نحن ما زلنا نتحدث عن نصف كأس السم). أما، هل قمع صدام حسين الحريات في بلده، وهل بدد الثروة الوطنية، وهل أباد أبناء شعبه بالمواد السامة، وهل أساء إلى الوحدة العربية والتضامن العربي (ظلت علاقته بسوريا مقطوعة طوال حكمه)، وهل رد الاعتبار للولايات المتحدة بعد موقفها في هزيمة حزيران (كانت العلاقات العراقية الأميركية مقطوعة في عهد عارف، وصدام هو الذي أعادها)، وهل استعان بالمخابرات الأميركية في حربه ضد إيران (يقول رئيس المخابرات العسكرية العراقية السابق الجنرال وفيق السامرائي أن مقر المخابرات الأميركية الذي كان يزود العراق بمعلومات عن التحركات العسكرية الإيرانية خلال الحرب كان موجودا في العاصمة الأردنية، لكنه انتقل لاحقا إلى بغداد)، كل هذه الأسئلة هي مجرد (تفاصيل)، والجوهر هو دفاع صدام عن القضية المقدسة، قضية العرب الكبرى.
وطلبا للإنصاف نقول إن إيران الإسلامية وظفت، هي الأخرى، القضية الفلسطينية لتعزيز وتصدير ما تريد من أفكار ومواقف. فبعد أن عمدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى إغلاق السفارة الإسرائيلية، فأن النخب القومية العروبوية واليسارية في العالم العربي كافأتها على هذه المأثرة (وهي مأثرة حقيقية بدون أي شك) بأن غضت النظر عن القمع الذي دشنته الثورة الإيرانية ضد القوى الديمقراطية واليسارية والليبرالية داخل إيران. وظلت إيران الإسلامية تردد أن القضية الفلسطينية هي هاجسها الأكبر، حتى أنها أسست جيشا خاصا أسمته (جيش القدس). وحتى بعد ما تيقن الرئيس العراقي السابق صدام حسين بأنه وقع في ورطة حقيقية، عندما شن حربه المشؤومة، وحاول أن يوقف تلك الحرب، فأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية واصلت رفضها لإيقاف الحرب، وظلت ترى أن الطريق إلى القدس يمر عبر مدينة الفاو العراقية، ولم تتوقف الحرب إلا بعد أن أضطر الإمام الخميني على تجرع quot;كأس السمquot;.
وهكذا بددت أكبر دولتين منتجتين للنفط ثرواتهما المالية وطاقاتهما البشرية، وكل واحدة منهما تردد أن هدف الحرب كان تحرير فلسطين. الآن، وبعد مرور سنوات على وفاة الإمام الخميني تحولت القضية الفلسطينية برمتها، في العين الإيرانية، إلى دعم quot;عشيرةquot; حماس ضد عشيرة فتح، ليس لحسابات مبدأية، وإنما لتحقيق أجندة إيرانية خالصة.
وكانت مصر الناصرية، بالطبع، قد سبقت الجميع في الدفاع عن قضية العرب الكبرى، فنزفت دما ومالا وجهدا كبيرا، ومثلها فعلت ليبيا وسوريا ولبنان ودول عربية أخرى.
وبعد أن وصلت الحكومات والدول، على ما يبدو، إلى حد الإعياء، ولم تحرر كامل التراب الفلسطيني، فأنها أوكلت المهمة، أو أن المهمة ظلت تفتش عن طريق أخرى، حتى وجدت ضالتها عند الحركات الإسلامية المتطرفة. ولا يمكن الحديث عن هذه الحركات، قبل أن يتم ذكر (القاعدة). فقد وجد quot;المجاهدونquot;، قبل أن تظهر القاعدة، أن الطريق إلى القدس يمر عبر بوابة التعامل مع المخابرات الأميركية، لكي تساعدهم على دحر الغزو السوفيتي، وبناء دولتهم الإسلامية لينطلقوا من ثغورها نحو القدس. وهذا ما حدث، فتكونت حكومة طالبان. لكن بعد انتهاء الحرب الباردة تيقن المجاهدون أنهم تحولوا، في العين الأميركية، إلى مجموعة أصفار، فأرادوا معاقبة حليفتهم السابقة، فشنوا غزوة الأبراج. ومن كان يعيش في أوربا أثناء وقوع تلك الغزوة، وقبلها بسنوات، فأنه كان يقدر الضرر الجسيم الذي ألحقته غزو الأبراج بالقضية الفلسطينية. لنأخذ الساحة الفرنسية مثالا على ما نقول. قبل هجمات سبتمبر كان الرأي العام الفرنسي يشهد تحولا ملحوظا، بل كبيرا، لصالح القضية الفلسطينية. فقد بدأت وقتذاك قطاعات لا بأس بها داخل المجتمع الفرنسي،وفي المقدمة المناهضون للعولمة بزعامة القائد الفلاحي جوزيه بوفيه، بالتحرك النشط للدفاع عن حقوق الفلسطينيين. واستطاعت هذه المجموعات الفرنسية، بمؤازرة وتعضيد من شخصيات عربية داخل فرنسا، لبنانية ومغاربية، كسر حاجز الخوف الذي رسمته جماعات الضغط الموالية لإسرائيل، إزاء كل ما هو فلسطيني. ونجحت تلك الجماعات في إرسال متطوعات ومتطوعين إلى الأراضي الفلسطينية، للوقوف على ما يعانيه الفلسطينيون من ظلم، ثم تعود أدراجها إلى فرنسا لتشرح تلك المعاناة. وبفضل ذلك النشاط الواسع، بدأ يتكون داخل فرنسا مزاج سياسي جديد أصبح بفضله الفرنسي المناصر للقضية الفلسطينية لا يتحرج من إبداء تعاطفه معها. بعد غزوة الأبراج تلاشى ذاك النشاط ثم انقطع نهائيا أو كاد، بعد أن حولت غزوة الأبراج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى صراع بين quot;المسلمين وبين الصليبيينquot;، فأصبح من يدافع عن الفلسطينيين، خصوصا من الأوربيين، يخشى أن يتورط في صراع قذر كهذا.
وهكذا بددت أكبر دولتين منتجتين للنفط ثرواتهما المالية وطاقاتهما البشرية، وكل واحدة منهما تردد أن هدف الحرب كان تحرير فلسطين. الآن، وبعد مرور سنوات على وفاة الإمام الخميني تحولت القضية الفلسطينية برمتها، في العين الإيرانية، إلى دعم quot;عشيرةquot; حماس ضد عشيرة فتح، ليس لحسابات مبدأية، وإنما لتحقيق أجندة إيرانية خالصة.
وكانت مصر الناصرية، بالطبع، قد سبقت الجميع في الدفاع عن قضية العرب الكبرى، فنزفت دما ومالا وجهدا كبيرا، ومثلها فعلت ليبيا وسوريا ولبنان ودول عربية أخرى.
وبعد أن وصلت الحكومات والدول، على ما يبدو، إلى حد الإعياء، ولم تحرر كامل التراب الفلسطيني، فأنها أوكلت المهمة، أو أن المهمة ظلت تفتش عن طريق أخرى، حتى وجدت ضالتها عند الحركات الإسلامية المتطرفة. ولا يمكن الحديث عن هذه الحركات، قبل أن يتم ذكر (القاعدة). فقد وجد quot;المجاهدونquot;، قبل أن تظهر القاعدة، أن الطريق إلى القدس يمر عبر بوابة التعامل مع المخابرات الأميركية، لكي تساعدهم على دحر الغزو السوفيتي، وبناء دولتهم الإسلامية لينطلقوا من ثغورها نحو القدس. وهذا ما حدث، فتكونت حكومة طالبان. لكن بعد انتهاء الحرب الباردة تيقن المجاهدون أنهم تحولوا، في العين الأميركية، إلى مجموعة أصفار، فأرادوا معاقبة حليفتهم السابقة، فشنوا غزوة الأبراج. ومن كان يعيش في أوربا أثناء وقوع تلك الغزوة، وقبلها بسنوات، فأنه كان يقدر الضرر الجسيم الذي ألحقته غزو الأبراج بالقضية الفلسطينية. لنأخذ الساحة الفرنسية مثالا على ما نقول. قبل هجمات سبتمبر كان الرأي العام الفرنسي يشهد تحولا ملحوظا، بل كبيرا، لصالح القضية الفلسطينية. فقد بدأت وقتذاك قطاعات لا بأس بها داخل المجتمع الفرنسي،وفي المقدمة المناهضون للعولمة بزعامة القائد الفلاحي جوزيه بوفيه، بالتحرك النشط للدفاع عن حقوق الفلسطينيين. واستطاعت هذه المجموعات الفرنسية، بمؤازرة وتعضيد من شخصيات عربية داخل فرنسا، لبنانية ومغاربية، كسر حاجز الخوف الذي رسمته جماعات الضغط الموالية لإسرائيل، إزاء كل ما هو فلسطيني. ونجحت تلك الجماعات في إرسال متطوعات ومتطوعين إلى الأراضي الفلسطينية، للوقوف على ما يعانيه الفلسطينيون من ظلم، ثم تعود أدراجها إلى فرنسا لتشرح تلك المعاناة. وبفضل ذلك النشاط الواسع، بدأ يتكون داخل فرنسا مزاج سياسي جديد أصبح بفضله الفرنسي المناصر للقضية الفلسطينية لا يتحرج من إبداء تعاطفه معها. بعد غزوة الأبراج تلاشى ذاك النشاط ثم انقطع نهائيا أو كاد، بعد أن حولت غزوة الأبراج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى صراع بين quot;المسلمين وبين الصليبيينquot;، فأصبح من يدافع عن الفلسطينيين، خصوصا من الأوربيين، يخشى أن يتورط في صراع قذر كهذا.
لكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد. فبعد سقوط نظام صدام حسين، دخل quot;المجاهدونquot; من جماعة أبي مصعب الزرقاوي إلى العراق. ومن هناك أرادوا أن يقيموا دولتهم الإسلامية لينطلقوا منها عبر الأردن أو ربما سوريا، باتجاه فلسطين لتحريرها بالكامل. ومن اجل تحقيق هذا الهدف المقدس بدأوا بنحر العراقيين الشيعة، ثم ثنوا بالعراقيين السنة الذين امتنعوا عن طاعتهم، ثم بدأوا بقطع رؤوس quot;الكفار الصليبيينquot; والتلويح بها أمام الكاميرات. ومثلما رقص اليساريون والقوميون العرب المتطرفون على أنغام نشيد الله أكبر، وصوت أحمد سعيد الصادح من القاهرة (ما زلنا نتحدث عن كأس السم الذي شربناه عام 1948)، بدأوا يرقصون، هذه المرة، على زئير الأسود، الزرقاوي والظواهري وبن لادن وهم يعدون الأمة بيوم الانتصار القريب.
الآن جاء دور حزب الله اللبناني. في واحد من خطاباته العلنية، وصف السيد حسن نصر الله محازبيه وأنصاره بهذه الصفات: يا أشرف الناس ويا أنبل الناس ويا أطهر الناس ويا أحسن الناس. عندما تسأل السيد نصر الله عن الأسباب التي تدفعه أن يضفي هذه النعوت التفضيلية على مناصريه، ويمنحهم نقاوة quot;العنصر الآريquot;، فأن الجواب سيأتيك صاعقا حارقا، مع بعض النعوت، بالطبع: يا جبان، يا خائن، وهل غير هولاء من دافع عن قضية العرب الكبرى، وحرر بلاده من الاحتلال الإسرائيلي؟ بالطبع، سيصمت السائل، متسربلا بعار سؤاله، وبصدق الرد، أيضا. فحزب الله وأنصاره هم الذين حرروا لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. هذا أمر مفروغ منه. ولكن لبنان تحرر، ولم يبق من أراضيه بقبضة الاحتلال الإسرائيلي، على حد معرفتنا، سوى لسان جغرافي أسمه مزارع شبعا تتنازع ملكيتها أكثر من جهة. فهل يحتاج لبنان إلى كل هذه الترسانة الموجودة عند حزب الله لتحرير ذاك الشريط؟ ثم، هب أن إسرائيل، بدافع الإحراج أو الخوف، أعادت هذه الأراضي، فهل يتنازل الحزب عن ترسانته؟
الجواب هو، بالتأكيد، لا، وألف لا. والخطاب الذي ألقاه السيد نصر الله وفجر الأزمة الحالية هو خير شاهد على ما نقول. لو أردنا تلخيص الخطاب المذكور بجملة أو عدة جمل، لوجدنا أن نصر الله أراد أن يقول: نحن، حزب الله، نملك جيشا يوازي جيش الدولة، إن لم يتفوق عليه عدة مرات. ونحن نملك بنى تحتية ومؤسسات وشبكات اتصالات. ولدينا مطالب سياسية نريد تحقيقها، ولدينا مصادر مالية يجب أن لا يعرف مصادرها وتفاصيلها أحد، ولدينا تحالفات عربية وإقليمية نصر عليها سواء تعارضت أو توافقت مع سياسية الدولة اللبنانية. من يعجبه كلامنا فهو وطني ومخلص وسنضعه في بؤبؤ العين، ومن لا يعجبه يلقي بنفسه في البحر أو في السجن، قبل أن نقوم نحن بفعل ذلك.
وحتى نكون، مرة أخرى منصفين، علينا أن نقول أن ما يقوله السيد نصر الله تقوله، سرا أو علانية، جميع الأطراف اللبنانية، وكل هذه الأطراف تتمنى أن تملك ما يملكه حزب الله من قوة لكي تتمكن أن تعلن الشيء نفسه. وقد أثبتت الحرب الأهلية اللبنانية السابقة أن جميع الأطراف حاولت أن تفرض منطقها. لكن السؤال هنا هو عن إقحام القضية الفلسطينية في هذا الموضوع كله. بإمكان السيد نصر الله أن يقول بصراحة أن كل ما يملكه حزبه وكل ما يعد له، بالخفاء وبالسر، يهدف إلى تحقيق مصالح الحزب الخاصة، ولا دخل للقضية الفلسطينية به. لكن حزب الله وغيره يعرف جيدا أي قدسية وأي مشروعية وأي هيبة وأي نضالية سيحصل عليها لو هو أقحم القضية الفلسطينية، وأي خسارة ستلحق به لو هو جاء ممتطيا ظهر أي قضية أخرى غير القضية الفلسطينية المقدسة.
الجواب هو، بالتأكيد، لا، وألف لا. والخطاب الذي ألقاه السيد نصر الله وفجر الأزمة الحالية هو خير شاهد على ما نقول. لو أردنا تلخيص الخطاب المذكور بجملة أو عدة جمل، لوجدنا أن نصر الله أراد أن يقول: نحن، حزب الله، نملك جيشا يوازي جيش الدولة، إن لم يتفوق عليه عدة مرات. ونحن نملك بنى تحتية ومؤسسات وشبكات اتصالات. ولدينا مطالب سياسية نريد تحقيقها، ولدينا مصادر مالية يجب أن لا يعرف مصادرها وتفاصيلها أحد، ولدينا تحالفات عربية وإقليمية نصر عليها سواء تعارضت أو توافقت مع سياسية الدولة اللبنانية. من يعجبه كلامنا فهو وطني ومخلص وسنضعه في بؤبؤ العين، ومن لا يعجبه يلقي بنفسه في البحر أو في السجن، قبل أن نقوم نحن بفعل ذلك.
وحتى نكون، مرة أخرى منصفين، علينا أن نقول أن ما يقوله السيد نصر الله تقوله، سرا أو علانية، جميع الأطراف اللبنانية، وكل هذه الأطراف تتمنى أن تملك ما يملكه حزب الله من قوة لكي تتمكن أن تعلن الشيء نفسه. وقد أثبتت الحرب الأهلية اللبنانية السابقة أن جميع الأطراف حاولت أن تفرض منطقها. لكن السؤال هنا هو عن إقحام القضية الفلسطينية في هذا الموضوع كله. بإمكان السيد نصر الله أن يقول بصراحة أن كل ما يملكه حزبه وكل ما يعد له، بالخفاء وبالسر، يهدف إلى تحقيق مصالح الحزب الخاصة، ولا دخل للقضية الفلسطينية به. لكن حزب الله وغيره يعرف جيدا أي قدسية وأي مشروعية وأي هيبة وأي نضالية سيحصل عليها لو هو أقحم القضية الفلسطينية، وأي خسارة ستلحق به لو هو جاء ممتطيا ظهر أي قضية أخرى غير القضية الفلسطينية المقدسة.
الآن، هدأت المناوشات التي حدثت أخيرا في لبنان، وحرب أهلية ثانية لن تحدث أبدا. فالحرب الأهلية الأولى حدثت بسبب ضعف التوازنات، إما الآن فهذه التوازنات حسمت لصالح طرف واحد، هو حزب الله وحلفائه. وعندما انحنت أطراف الموالاة أمام عاصفة حزب الله وحلفائه وأخلت مقرات أحزابها ومؤسساتها، فلأنها تدرك هذه الحقيقة. لكن السؤال الذي يهمنا هنا هو، من بعد حزب الله سيمتطي القضية الفلسطينية؟
أكثر الظن، بل المؤكد، أن أطرافا عديدة في لبنان وغير لبنان تنتظر أن تركب القطار الفلسطيني لتحقيق أهدافها، وستستمر في تجريعنا من كأس السم وتشل حياتنا وتعطلها وتمنعنا من اللحاق بركب الدول المتطورة، ما دام الظلم الذي يلحق بالفلسطينيين مستمرا، وما دامت الولايات المتحدة ترفض أن تقول لا لإسرائيل، وتستمر في تمثيل شاهد الزور.
أكثر الظن، بل المؤكد، أن أطرافا عديدة في لبنان وغير لبنان تنتظر أن تركب القطار الفلسطيني لتحقيق أهدافها، وستستمر في تجريعنا من كأس السم وتشل حياتنا وتعطلها وتمنعنا من اللحاق بركب الدول المتطورة، ما دام الظلم الذي يلحق بالفلسطينيين مستمرا، وما دامت الولايات المتحدة ترفض أن تقول لا لإسرائيل، وتستمر في تمثيل شاهد الزور.
التعليقات