قد ينطبق هذا العنوان على المصريين كافة، أو حتى على كل شعوب الشرق الأوسط أو الكبير، ولكن لأن الأقباط حسب المفهوم الحالي للكلمة هم مسيحيو مصر، فإن العنوان وما سيتلوه ينطبق عليهم بالدرجة الأولى، بما لا يمنع بعدها سهولة تطبيقه على سائر مكونات شعوبنا، المحشورة منذ قرون في مأزق حضاري، لا يبدو له نهاية.
يصلح هذا العنوان أيضاً، ليكون عنواناً لما يخرج به المطالع لكتابنا quot;الأقباط والليبراليةquot;، الصادر في سبتمبر الماضي، عن دار هفن للنشر، والذي يعد مقاربة ليبرالية لأحوال الساحة المصرية، التي يصول فيها ويجول الأعدقاء الثلاثة، الذين نشير إليهم هنا بالمطرقة والسندان.
نقصد بالمطرقة الدولة المصرية، وظهيرها أو منافسها، الحميم واللدود معاً، تيار الإسلام السياسي، بما يضم من أجنحة وأطياف، تشترك جميعاً في استبعادها للآخر، كل آخر، حتى ذاك المنتمي للدين الإسلامي، وإن بتفسيرات ورؤى، تختلف بدرجة أو بأخرى عن الخطاب الديني الشائع، والذي يقدم على أنه الحقيقة الإلهية المطلقة، وما دونه ضلال وكفر وعداوة لله.
أما ما نقصده بالسندان، فهو الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تلك الصخرة العتيقة، التي تستمد صلابتها من قول الكتاب المقدس أن quot;أبواب الجحيم لا تقوى عليهاquot;، وهو الأمر الذي يكاد يكون متحققاً بالفعل، ليس فقط في مواجهة أبواب الجحيم، لكن في مواجهة كل صروف الزمن وتبدلاته.. وإذا كان من الغفلة وقصر النظر تصور أن هناك شيئاً على سطح كوكبنا، ممتنع تماماً عن التطور، فإننا نستطيع أن نقول باطمئنان، أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بتنظيمها الهيراركي الصارم والمحكم، وخطابها القائم أساساً على فكرة quot;التسليم والتسلمquot;، أي تسليم الأبناء ما سبق وأن استلمناه من الأجداد، كاملاً غير منقوص ولا مزيد، هي القلعة الأكثر مناعة في وجه التطور والحداثة في الفكر، وإن كانت كسائر أقرانها من مؤسسات وتنظيمات الشرق، لا تمانع في استهلاك منتجات الحداثة، معزولة قدر الإمكان عما تحمل من فكر حداثي، هي بالأساس نتاج له، وحاملة ومبشرة به في نفس الوقت.
المطرقة بجناحيها، الرسمي الشرعي، والشعبي المتأسلم غير الشرعي شكلاً، يضغطون على الأقباط خنقاً وعزلاً من جميع الزوايا، عدا زاوية واحدة، مازالت حتى الآن مفتوحة أمامهم، وإن كان البعض يسعى ولو من تحت السطح إلى إغلاقها، تلك هي زاوية السعي لكسب العيش، فالتضييق على إلحاق الأقباط بوظائف الدولة في مستوياتها الدنيا والوسطى، مازال يسمح بمرور البعض، وإن بشق النفس، ورغم أن إغلاق باب التوظف يكاد يكون تاماً في المؤسسات والمشروعات الممولة أو المملوكة لرموز جماعة الإخوان المسلمين، كذا لرجال أعمال ينتمون لعائلات تعد ملحقات لنظام الحكم ورموزه، يرتدون في الظاهر زي الوطنية، وفي حقيقتهم وممارساتهم، يجمعون بين البلطجة التي قد تصل إلى حد ارتكاب جرائم قتل عابرة للوطن، وبين التعصب الديني، الذي لا يستحي إعلان منع توظيف الأقباط في مؤسساتهم، إلا أن رجال الأعمال الأقباط، باحترافهم المهني والاقتصادي المرموق، استطاعوا أن يدخلوا بعض، وليس كل التوازن على هذه المعادلة المختلة.
صفحات الجرائد المسماة قومية، وقنوات الدولة التليفزيونية، وملايين شرائط الكاسيت، وآلاف الميكروفونات التي لا تصمت ليل نهار، وتصل باللعنات إلى الأقباط بخدمة من الفم للأذن، كل هذه تطرد الأقباط من الساحة المصرية. . من الأندية الرياضية والاجتماعية، ومن النقابات المهنية، وحتى من الأحزاب السياسية، بما فيها تلك التي ترفع شعارات العلمانية ربما تجملاً.
لعملية الطرد هذه لدى القائمين بها فائدة مزدوجة، فهي تتخلص من فئة غير مرغوب في مشاركتها بالأساس، لأنها أهل ذمة، وليست صاحبة حق أصيل في تقرير مصير الوطن، حتى في نظر رموز النظام العلمانية شكلاً، فأقصى ما يضمره هؤلاء من مشاعر طيبة تجاه الأقباط، هو التعاطف والإنصاف، على أرضية quot;أهل الذمةquot;، وليس على أرضية مواطنة حقيقية. . الفائدة الثانية أن هؤلاء المطرودين من الساحة لن يبقوا أحراراً أو بالأحرى متشردين، يثيرون القلاقل، مشكلين عامل ضغط على طارديهم، وإنما هناك أحضان رجال الكنيسة المستعدة والمرحبة باستقبالهم، لتتولى إما إخراسهم إلى الأبد، أو توحيدهم في صوت واحد، لا معقب ولا معترض عليه، هو صوت قداسة البابا المعظم، أياً كان اسم الجالس على السدة المرقسية، هنا يكون على نظام الحكم التعامل مع فرد واحد، يسهل ترويضه، ترهيباً وترغيباً، بدلاً من التعامل مع من 10 إلى 15 مليون مواطن، بالتنوع الطبيعي للأهواء والرؤى، وهذا يعني بلغة الأرقام، تخفيف العبء الذي يقع على كاهل النظام الحاكم لقهر وقمع الشعب المصري، بنسبة تتراوح بين 10- 15%.
قادة الكنيسة في المقابل، يصب ذلك الطرد للأقباط في خزانتهم، فتمتلئ الكنيسة بالرواد، ليس فقط للصلاة كما هو مفترض، لكن ليمارسوا حياتهم الاجتماعية، ويستكملوا النقص في مقومات حياتهم عموماً، سواء النقص الذي يختصون به وحدهم نتيجة الطرد الذي أشرنا إليه، أو ذلك النقص الذي يعانيه الشعب المصري كله، جراء الفشل الذريع والأداء الرث للحكومة المصرية.
بدون عملية الطرد هذه، يصير رجال الكنيسة مجرد رجال دين، لا يلتفت أحد إليهم إلا متى أراد الصلاة، أما الآن فهم زعماء سياسيين، وأصحاب أمر ونهي في كل ما يتعلق بالأقباط، مدعومين ليس بجماهير الأقباط فقط، ولكن أيضاً بأموالهم، التي لولا طرد الأقباط من المجتمع، لذهبت أجزاء معتبرة منها لتقوية المجتمع المدني، وبناء المدارس والملاجئ والمستشفيات، بعيداً عن سيطرة ورعاية أصحاب القداسة، الذين والحالة هذه قد صاروا أصحاب سيادة أيضاً، وربما الأصح القول أصحاب جلالة، بعد أن خلت مصر من أصحاب الجلالة والسمو.
في الكنيسة يتم تدجين الإنسان المصري، بصورة تعجز عنها جميع آليات القهر، التي قد تمتلكها دولة استبدادية، فيتعلم ويتدرب القبطي على تصعير خده للطم والدهس بالنعال، فهكذا سيكون بالحقيقة ابناً للمسيح، كما يقول خطاب الكنيسة، ورغم أن مفهوم كلمة quot;كنيسةquot; هو quot;جماعة المؤمنينquot;، الذين يؤدي بعضهم أدواراً خاصة، ويسموا بناء عليها quot;خداماًquot;، الذين هم الإكليروس بالأساس، إلا أن المفهوم القبطي الأرثوذكسي قد تطور مع الوقت، فصارت الكنيسة تتكون من quot;رعاةquot; وquot;رعيةquot;، والعلاقة بين الرعاة والرعية، ليست مجرد سوق القطيع إلى حيث تشير عصا الراعي، بدعوى الدراية بمواضع الكلأ والماء، وإنما أيضاً للراعي أن يذبح من الرعية، ويحلب لبناً ويجز صوفاً، له أيضاً أن يبيع من قطيعه ما يشاء، ولبطاركة كنيسة الإسكندرية تاريخ حافل بعمليات البيع هذه، بداية من بيع الأنبا بنيامين مصر كلها لعمرو بن العاص، نظير عودته إلى كرسيه، مروراً ببيع أنبا بنيامين آخر لثورة البشموريين في شمال الدلتا، أيام الخليفة العباسي المأمون، الذي أتى بنفسه إلى مصر، ليذبح الآلاف من أهلها، ويصطحب الآلاف، ليبيعهم عبيداً في بغداد، وصولاً لما نشهده من عمليات بيع، في يوم الناس هذا.
إذا كانت أصوات كنسية رسمية تصدم أسماعنا، تؤيد الرئيس الحالي في الحاضر، وابنه في المستقبل، رغم ثقل مطرقة النظام على رأس الأقباط، فإن لنا أيضاً أن نتوقع في المستقبل، أن تؤيد الكنيسة تولى مهدي عاكف أو أحد أنجاله رئاسة مصر، فالمطرقة تحتاج إلى السندان، كما يحتاج السندان إلى المطرقة. . هل يمكن لأحد أن يتصور أن رأس الكنيسة القبطية، يمكن أن يكون له مثل ما له حالياً من جاه وسلطان وثروة، في ظل جو تسامح ديني؟!
التماثل أو حتى التطابق حقيقي، بين هيكل الأيديولوجيا الوهابية، التي تعتنقها جماعة الإخوان المسلمون، وبين أيديولوجيا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بالطبع بغض النظر عن الاختلاف في المضمون والتفاصيل، فكلاهما يتبنى أشد التفسيرات الدينية حرفية وانغلاقاً، كلاهما أيضاً مستبعد للآخر، كل آخر، حتى أقرب المقربين، فالكنيسة القبطية تحرم على القبطي الزواج من أبناء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، رغم أن صلوات الكنيسة تشمل الدعاء للبطريرك السرياني، مع الدعاء لبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، باعتبار أنهما كنيستان حليفتان!
الوهابية والأرثوذكسية المصرية أيضاً متفقتان على محاربة الإبداع، وعلى تسميته ابتداع، وتخلو صلوات الكنيسة من الدعاء السلبي، أي الذي يستنزل اللعنات، إلا الدعاء على المبتدعين. . الأيديولوجيتان متفقتان على أن مقولاتهما هي ذات التعاليم والوصايا الإلهية، وليست مجرد فهم وتفسير لها، تؤمن بصحته، لكنه يقبل إلى جانبه تفسيرات أخرى، ويصب هذان الملمحان المشتركان في وعاء الهيمنة، فلا مجال لديهما للحرية أو المسئولية الشخصية للفرد، الذي لابد من خضوعه، ليكون خروفاً مطيعاً داخل قطيع الرب، وإلا هلك في الدنيا والآخرة.
إذا كانت الوهابية لا تؤمن نظرياً بعصمة الإمام أو رجاله، رغم أن التطبيق العملي للفكر الوهابي، يؤدي واقعياً إلى تأليه العلماء وأصحاب الفتوى والأمر والنهي، بحيث يعد الخروج عليهم حرابة لله ولرسوله، فإن الإيديولوجيا القبطية الأرثوذكسية، تقول صراحة بعصمة البابا ورجاله من الإكليروس، فالرب هو الذي اختارهم وليس البشر، وكل ما يفعلونه ويقولونه هو بوحي وإرشاد من الروح القدس، وحسابهم بذلك يكون أمام الله وحده، وليس أمام أي بشر، ولقد أعطاهم الله سلطاناً أن يغفروا الخطايا للناس، أو أن يمسكوها عليهم، مستندين في ذلك إلى ما قاله السيد المسيح لتلاميذ كان يخاطبهم لشخوصهم، وهم من أخذوا على عاتقهم بعدها نشر المسيحية في العالم، وفي رأيي المتواضع أن السيد المسيح لم يعن وقتها أن تمتد تلك الهبة، إلى من يوظفونها لا لشيء إلا لتدعيم سلطانهم وثرواتهم.
وإذا كان استخدام العنف يدخل في صميم الأيديولوجيا الوهابية، فإن الأيديولوجيا الأرثوذكسية تخلو رسمياً من العنف، وتحض رسمياً أيضاً على التسامح، وإن كانت الممارسة العملية عبر التاريخ، تدلنا أن استخدام العنف يتولد عن تصور امتلاك الحقيقة المطلقة، بأكثر مما يعتمد على نصوص تؤيده، فمالك الحقيقة المطلقة في نظر نفسه، يمكن أن ينزلق إلى العنف إذا امتلك مقوماته، رغم تجريم العنف فيما يؤمن به من نصوص، وهذا ما حدث من كنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية وأتباعها في القرنين الرابع والخامس الميلادي، حين هيأت لها الظروف القدرة على استخدام العنف، فمارسته مع الوثنيين، ثم مع المهرطقين من وجهة نظرها، رغم تضاد هذا مع تعاليم السيد المسيح.
إذا كانت العلاقة بين النظام المصري الحاكم وبين تيار التأسلم السياسي، هي علاقة تنافس على السلطة، تأخذ شكل المزايدة من قبل الدولة، لتقوم هي ببيع بضاعة التخلف والانغلاق للجماهير، بدلاً من أن تبيعها لهم الجماعات الأصولية، فإن العلاقة بين النظام والكنيسة هي علاقة تكامل، فتهميش الدولة للأقباط، وتقصيرها عموماً في أداء وظيفتها، يدفع الأقباط إلى حضن الكنيسة، ليتعاظم نفوذ قادتها، ليرد هؤلاء الجميل للدولة، بتخدير الأقباط وتغييبهم، وإلهائهم بمعجزات وأناشيد طاعة، وبرحلات لأديرة صارت منتجعات سياحية، ليعيش الأقباط في كوكب آخر، هو كوكب كنيستهم القبطية الأرثوذكسية، وكلما زادت الضغوط وهجمات واعتداءات الغوغاء على الأقباط، في ظل تقاعس الدولة عن تفعيل سيادة القانون، كلما استشعر الأقباط أن لا ملجأ لهم إلا الكنيسة، مع تنامي خوفهم من مواطنيهم المسلمين، لتجري ببط ولكن بثبات، عملية شق الوطن الواحد والشعب الواحد، إلى وطن وكنيسة، يسكن كل منهما طرفان متعاديان.
المطرقة والسندان، أو الدولة والجماعات الأصولية والكنيسة، يهيئون مصر للدخول إلى كارثة، وهم يفعلون ذلك حتى الآن بنجاح منقطع النظير.
الحديث يطول وهو ذو شجون، حول ما يعانيه الأقباط بين المطرقة والسندان، وإذا كان كثيرون هم من يجأرون بالشكوى من ضربات المطرقة، فقليلون هم من يتجرأون على مجرد التململ من وقع السندان على ضلوعهم!!