نقصد بصدمة الحداثة تلك الحالة التي عليها شعوب منطقة الشرق الكبير الآن، من عجز عن الالتحاق بالركب العالمي، سواء من الوجهة الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية وأخيراً السياسية، باعتبار الحالة السياسية هي محصلة نتاج واقع الحال في سائر جوانب الحياة الإنسانية، ويتبدى هذا العجز في صورة رفض يكاد يكون قاطعاً لكل ما ومن حولنا، ليصل الأمر أيضاً إلى سعي بعض التنظيمات التي نمت في رحمنا إلى تحطيم الحضارة الراهنة، واستهداف المتحضرين بالقتل.
تحدث الصدمة حين تفاجأ بما لم تكن تتوقعه، فهل كان الشرق بالفعل داخل قوقعة محكمة، عزلته عن العالم من حوله، ثم اكتشف فجأة أن العالم أخذ شكلاً وموضوعاً غريباً عليه تماماً، فكان أن حدث له ما يطلق عليه الكثيرون صدمة الحداثة؟
ليس الأمر هكذا بالتأكيد، فلا شيء في حياة الشعوب يمكن أن يتم فجأة، مهما بلغت قوة الأحداث المفصلية أو الانفجارية، فالشرق كان بالفعل في عزلة، لكنها لم تكن يوماً تلك العزلة المحكمة التي يمكن تشبيهها بصدفة تعزلنا تماماً عن كل ما هو خارج عن بلادنا وأفكارنا وتقاليدنا العتيقة، فالشرق كان عبر التاريخ معبراً بين أوروبا وآسيا، وقد أدى وظيفة الجسر على الأقل بداية من الإمبراطورية الرومانية، ثم ما تلاها من عهود وإمبراطوريات، وكما مرت بهذا الجسر الجيوش الغازية، مرت أيضاً قوافل التجارة، وفي ركابها طلاب العلم، لكن السؤال هو عن حجم ذلك التلامس مع العالم أو درجته، بمعنى درجة تغلغله أو تأثيره في المجتمعات الشرقية، فقد تدرجت درجة التأثر، لتتخذ أقصى مدى لها عند طبقة التجار وكتبتهم، الذين صاروا في مرحلة لاحقة يعرفون بالمثقفين، لتخفت شدتها تدريجياً، حتى تصل إلى أدنى درجاتها لدى عموم الجماهير في المدن والقرى، الذين بقيت حياتهم وثقافتهم وتقاليدهم تكاد لا تتحرك إلا بدرجة يمكن إغفالها.
مثلت حملة نابليون على مصر في أواخر القرن الثامن عشر أولى صدمات الحداثة للشعب المصري، الذي لم يجد إزاء مدافع نابليون وجنوده إلا أن يصرخ: quot;يا لطيف الألطاف نجنا مما نخافquot;، هي هرولة فزعة إلى الدين إذن، يستند إليه من اكتشفوا فجأة أن لا حول لهم ولا قوة حيال ما يواجهون من تحديات، كانت قذائف المدافع صورتها الساخنة، التي لم تكن وحدها الجديدة والغريبة فيما استقدمه هؤلاء الوافدون بدون دعوة أو توقع، لتترك الحملة تأثيراتها الخطيرة على الشعب المصري، الذي كان مسترخياً في استنامة عصوره الوسطى، ليبدأ بعدها رحلته المشوبة بالقلق والعقبات في طريق الحداثة، لكن قصر فترة الحملة الفرنسية زمانياً، ومحدودية انتشار تأثيرها الجغرافي، والذي كاد أن يقتصر على العاصمة وما حولها، قد حد إلى درجة كبيرة من فاعلية وعمق تلك التأثيرات.
من الطبيعي إذن أن يكون طريق محمد على وأسرته نحو تحديث مصر بعد ذلك حافلاً بالعقبات من كل جانب، وفي مقدمة تلك العقبات الفقر والأمية، ورسوخ العادات والتقاليد وارتباطها المتعسف -في أحيان كثيرة- بالمعتقدات والمفاهيم الدينية، التي لابد وأن تكون الملجأ في حالة ثقافة غيبية منغلقة على نفسها، ومعادية لكل فكر أو تغيير سلوكي وافد، فتروج أمثلة شعبية، تكون بمثابة الدستور في ثقافة شفاهية، مثل: quot;يا قاعدين يكفيكم شر الجايينquot; وquot;مايجيش من الغرب يسر القلبquot; وquot;من فات قديمه تاهquot;، وهكذا ظل جدول التحضر ينساب في مصر شحيحاً، لكن بإصرار وثبات، إلى بداية الربع الأخير من الألفية الثانية، حين بدأت تباشير ما سميناه بعد ذلك عصر العولمة، التي داهمتنا في نهاية القرن المنصرم، بصورة نستطيع من ردود أفعالنا التالية أن نقول أنها كانت صدمة مروعة، ولم تكن الصدمة هذه المرة مثل سابقتها محدودة زمانياً ومكانياً، وإنما جاءت ساحقة ماحقة كإعصار.
ما أحدث الطفرة التي شكلت المفاجأة، هو التقدم الهائل في وسائل الاتصالات والمواصلات، فالاتصالات بأقمارها الصناعية وقنواتها التليفزيونية الفضائية أتت بالعالم الغربي إلى كل قرية ونجع في بلادنا، والمواصلات أوصلت أبناءنا إلى الشمال والغرب في سهولة غير مسبوقة. . هي العولمة إذن وراء اللقاء الذي يمكن -بقليل من التجاوز- اعتباره فجائياً مع العالم المتحضر ومع الحداثة، بل فلنقل أنها مواجهة صار الاستقطاب فيها حاداً، بين العالم المتقدم وأطرافه التي كانت سباقة في السعي على طريق الحداثة في شرق وجنوب شرق آسيا، وبين الجيب الذي يطلق عليه مصطلح الشرق الكبير، فكان أن حذا الأحفاد حذو الأجداد، فهرعوا إلى الدين يستجيرون به، وليستردوا الثقة بالنفس التي فقدوها إزاء ما يشعرون به من ضآلة أمام منجزات العصر وحضارته، والتي وجدوا أنفسهم مضطرين لأن يلعبوا فيها دور المتطفل والمستهلك صاحب اليد السفلى، عاجزين عن امتلاك القدرة على لعب دور المشارك القادر على العطاء، كهؤلاء أصحاب اليد العليا.
هكذا وجدنا أنفسنا ننتحي جانباً، لنأخذ دور الناقمين الناقدين، والرافضين لأسس الحضارة وصناعها، والساعين في نفس الوقت للانتفاع بمنجزاتها، فيما أخذ البعض منا على عاتقه تدمير تلك الحضارة على رؤوس أهلها، أو وفق منظور هؤلاء تدمير تلك الأصنام الضخمة التي تتطلع إلينا من علياء، متخذين من مقولات تأخذ شكل الدين وفق تفسيراتهم، يستبدلون عن طريقها مركب النقص، بمركب استعلاء مضاد، لنكون نحن حزب الله والآخر حزب الشيطان، ونحن في أعلى عليين، وهم في الدرك الأسفل من النار، هكذا ننتقل من موقع الأدنى حضارياً، والعاجز عن امتلاك مقومات الحضارة واستيعابها، إلى موقع الداعية الذي يحمل رسالة هداية العالم من الضلالة، ولن نكون بعد متطفلين على الحضارة باضطرارنا لاستهلاك منتجاتها دون قدرة على الإنتاج، لأن الحضارة وصناعها سيكونون مسخرين لخدمتنا من قبل الله، بما يرفع عن كاهل المؤمنين عبئاً نفسياً شديد الوطأة.
هكذا ينشأ بيننا وبين المتحضرين سداً منيعاً وعالياً، أساساته العجز الفردي والمجتمعي عن مواكبة العصر، وما أقيم فوق هذا الأساس من أيديولوجيا ميتافيزيقية، قوامها العداء والاستعلاء والكراهية، وتحولنا كأفراد وكيانات سياسية واجتماعية إلى كتل صماء، تستعصي على رياح الحضارة النفاذ منها.
تشير التقارير الدولية أن هذه المنطقة عاجزة عن ولوج أبواب الحداثة، رغم موقعها المتوسط بين عالمين، ما كان كفيلاً بتناغمها مع المسيرة العالمية، لكن ما حدث هو أن اقتصر التأثر بالآخر على الدفع بالأمور إلى ظاهر حداثي لم تتوفر مقوماته على أرض الواقع، فكان أن صارت مجتمعات المنطقة مسخاً مشوهاً، بما تضمه من تناقض بين الشكل والمضمون، أفرز تقلصات شكلت مع معوقات التخلف الأصلية ملامح المأساة الحضارية، التي جعلت محاولات التنوير تتعثر وتتخبط في دائرة مغلقة، تنحدر من سيئ إلى أسوأ، فتتحول أي حركة للأمام إلى تدهور نحو هاوية بلا نهاية، تمخض عنها ما سمي بمرحلة الاستقلال والتحرر الوطني في الخمسينات والستينات، لتأتي الألفية الثالثة ونحن نستجدي الاستعمار تحت تسمية الأمم المتحدة والقوات متعددة الجنسية، لتنقذ ما يمكن إنقاذه من كياناتنا التي تتهاوى!!
[email protected]