أعاد الصراع في جورجيا الحلم العربي إلى الانتعاش، بعد أن مرت سنوات طوال وهو في حالة موت سريري، فالأنظمة العربية المناضلة، ومن حولها جوقة المتثاقفين والمطلبين والمزمرين الأشاوس، يدعون ليل نهار قائلين: quot;يارب مشكلةquot;.. يرهفون آذانهم الطويلة، وقرون استشعارهم قصيرة المدى، لأي مشكلة بين روسيا والغرب، تعيد إلى العالم، وإلى الكائنات الطفيلية المترممة، أجواء الحرب الباردة.
الكائنات المترممة في عالم الحيوان، هي تلك الكائنات غير القادرة على اصطياد غذائها، ولأنها من آكلات اللحوم، فقد تأقلمت على الاقتيات بالجثث النافقة، الناتجة عن الصراع بين الأقوياء والقادرين، أو ما يتبقى من الفرائس التي نهش صائدوها أفضل ما فيها، وتركوا البقايا للضباع وما شابهها.
أما في عالم الإنسان، فهناك مثيل لهذه الكائنات، كما يوجد أيضاً في المجتمع الدولي ما يماثلها، وهي تلك المجموعة من الأنظمة التي أخفت في الماضي عوراتها، خلف ورقة توت كبيرة، وسميت بالكتلة الثالثة، أو مجموعة دول عدم الانحياز والحياد الإيجابي، وضمت نظم المغامرين والعسكر، المتحكمين في رقاب شعوب فشلت في امتلاك مقومات الحداثة والقدرة على الإنتاج، ولم تجد لها طريقاً غير ذاك الذي تسلكه الضباع، بالصبر على الجوع، حتى تتخلف عن الكبار فريسة أو بقاياها، وكانت ورقة التوت شعارات تقول بأن الكتلة الثالثة تقف في منطقة وسطى بين المعسكرين المتناحرين، للتقريب وتهدئة الخلافات بينهما، رغم أن ما تحت ورقة التوت كان عورة يشمئز النظر لمرآها.. عورة تلعب بجهل وسذاجة على الحبال أو الأوتار المشدودة بين المعسكرين، تحت وهم أن تلك القوى العظمى، يمكن أن تسوقها تلك الكيانات الهامشية المترممة، لتحارب لها معاركها، وقد تضرب بعضها بعضاً بالقنابل الذرية، من أجل سواد عيونها وبريق شعاراتها، التي لا يصل مجال فاعليتها، لأبعد من حدود تلك الكيانات، التي تسودها الأمية والعاطفة القبلية والبدائية.
ورغم أن تلك الكتلة الثالثة المزعومة قد انفضت، وذهب كل إلى حال سبيله، ونجح الكثيرون منها في الالتحاق بالركب العالمي المعاصر، وكثيرون أيضاً في طريقهم لتوفيق أوضاعهم مع العصر ومفاهيمه وشروطه، يتقدمهم التنين الصيني، الذي كان ماوياً في يوم من الأيام، إلا أن البقية المتبقية من تلك الأنظمة المنقرضة، والتي لم يكد يتبقى منها غير ما يمكن عده على أصابع اليد الواحد، هذه البقايا مازال زعماؤها الميامين يشنفون آذان المتثاقفين الأشاوس في عالمنا العربي، بعنترياتهم ومشاغباتهم، وبالأحلام الوردية أو الدموية، بالعودة إلى عصر الحرب الباردة.
الغريب في أمر الحالمين هؤلاء، أن العصر الذي يحلمون به، لم يكن أبداً عصر مكاسب وانتصارات.. هو فقط كان عصر صياح وشعارات ترتج لها الميكروفونات، وتلتهب بالتصفيق لها أكف الملايين المغلوبة على أمرها.. أما على المستوى العملي، فقد فشلت تلك النظم حتى في أن تكون كائنات مترممة حاذقة.
لم نخرج من الحرب الباردة إلا بالنكبات والنكسات، ففي مستهلها خسرت الجيوش العربية الجرارة أمام العصابات الصهيونية، بعد أن كان الاتحاد السوفيتي هو السبَّاق إلى الاعتراف بدولة إسرائيل، وفي أوج الحرب الباردة ضربت إسرائيل ثلاث دول عربية مناضلة، واحتلت أراضيها، بالإضافة لابتلاع كل فلسطين، التي كنا ومازلنا نتاجر بها، كما سبق للأجداد أن تاجروا بقميص عثمان، وعند نهاية الحرب الباردة، كنا قد فقدنا احترامنا لأنفسنا، بعد أن فقد العالم احترامه لنا، بما فعله صدام حسين في الكويت، وانقسمت الأمة العربية الواحد ذات الرسالة الخالدة إلى فريقين، فريق يهلل ويناصر البطل والزعيم الملهم صدام، وفريق تصطك ركبه رعباً، مما سوف يفعل به صدام في الجولة القادمة.
خبراتنا وذكرياتنا عن الحرب الباردة أليمة ومريرة، لكنها طبيعتنا، وربما هويتنا ككائنات طفيلية مترممة، تفرض علينا أن ننتظر ولو مصيبة تحل بالعالم، لتتصادم وتتصارع قواه، علنا نجد في الفتات أو الأشلاء المتناثرة، ما يصلح أن نقتات عليه.
هو الاستسلام لأضغاث الأحلام، أو العجز المزمن عن الرؤية الواقعية للعالم، ما يدفعنا إلى تصور إمكانية عودة الحرب الباردة أو الساخنة، وأن روسيا يمكن أن تعيد تشكيل إمبراطورية الشر من جديد، لتناوئ الغرب وأمريكا، وتعيد قسمة العالم الذي يسير في موكب واحد.. وراء مثل تلك التصورات ذلك الانفصال الأزلي بين أفكارنا وبين حقائق الواقع العيني، فمنذ الحلقة الأخيرة من القرن الماضي، انتهى إلى الأبد الانقسام الأيديولوجي للعالم إلى معسكرات متخندقة متعادية ومتصادمة، فالساحة العالمية الآن شركة قابضة واحدة، تتأسس العلاقات بين أجنحتها على التعاون والاعتماد المتبادل، كما تقوم على التنافس، الذي لا يندر أن يتخلله تعارض المصالح وتضاربها، ما قد يؤدي أيضاً إلى صراعات محدودة وتكتيكية، لكنها لن تكون أبداً صراعات أبدية أو استراتيجية، وما يتم هو مقاربة هذه الصراعات بمنهج حلها وتفكيكها، للعودة إلى قاعدة التعاون والاعتماد المتبادل، وليس كما يتصور صناديدنا، باتجاه تفاقم الصراع، للعودة إلى ما كان، وما لا يمكن أن يكون بعد الآن.
روسيا التي خرجت من مرحلة الاتحاد السوفيتي، وهي على شفا مجاعة حقيقية، وليست مجازية، وجميع مؤسساتها -وفي مقدمتها قواتها المسلحة- في حالة انهيار شبه تام، قد بدأت الآن تقف على قدميها، وهذا لم يحدث عبر انتهاجها للصراع والعداء مع العالم الغربي، بل تتأسس نهضتها على ثمار التعاون البناء مع قوى الحضارة العالمية، التي هي بالتحديد أمريكا وغرب أوروبا، ولا يعني رجوعها عن مسارها الجديد، إلا عودتها إلى ما كانت عليه من تهالك وتخلف سياسي واجتماعي وتكنولوجي.
نفس هذا يقال عن العملاق الصيني، الذي يتطلع إليه أشاوسنا، بأمل أن يعود مصدر تهديد للعالم الحر وحضارته، وهو بالتحديد ما لن يفعله، فالصينيون لا تحركهم مثلنا العداوات والكراهية عميقة الجذور للحضارة وأهلها، وإنما هم كما شاهدناهم في الحقبة الأخيرة، شعب قادر على الإنتاج، وقادر على العطاء في مسيرة الحضارة، والقادر على العطاء لا يستهويه الهدم والعداوة والصراع الدائم.
ليس من المتوقع أن تعدل روسيا نهجها الذي أقالها من عثرتها أو انهيارها، لمجرد أن الأسد السوري أو الفنزويلي قد عرضا عليها استضافة صواريخها وغواصاتها، كما من غير المتوقع أن تترك روسيا مقعدها في قطار الحضارة الإنسانية، لأنه قد استهواها الجلوس على عرش جبهة الممانعة الكورية الإيرانية السورية الفنزويلية.
نحن بأفكارنا أبعد ما نكون عن عالم العقلاء، الذين يتعاونون ويتناقشون ويتنافسون ويتصارعون، لكنهم في جميع الحالات يضعون نصب أعينهم مصالح شعوبهم.. أما أبطال الممانعة وصناديد العداء الأبدي، ورافعو رايات صراع الوجود وليس صراع الحدود، فهؤلاء ميدانهم الأثير الذي يصولون فيه ويجولون هو فراش الأحلام.
ولا عزاء للفاشلين.
[email protected]