لعل أهم ما في الأعتداء الذي نفذته قوات أميركية على موقع داخل الأراضي السورية، التوقيت الذي جاء فيه، أضافة بالطبع الى المواقف العربية المائعة أو حتى غياب المواقف التي تدين ما حصل. التوقيت مهم نظرا ألى أنه جاء لتذكير النظام السوري بأنه لا يستطيع اللعب في الوقت الضائع وأن من الأفضل بالنسبة أليه أن يكون حذرا في كل تصرفاته. كذلك عليه أن يكون حذرا في كل الأتجاهات، خصوصا في ما يخص العراق ولبنان، وأن من المفترض ألا يعتمد على الأوهام ويتصرف أنطلاقا منها. على رأس الأوهام التي ترسخت في ذهن غير مسؤول سوري أن أكثرية اللبنانيين تقف مع النظام في دمشق وان حركة الرابع عشر من آذار ليست سوى أكثرية وهمية! واهم من لديه مثل هذه الأوهام، وواهم من يعتقد أن في الأمكان حشد قوات على الحدود مع لبنان كي يعيش اللبنانيون في ظل كابوس أسمه عودة نظام الوصاية وكي يشعر يتامى الوصاية وأجهزتها الأمنية بأن التاريخ يمكن أن يكرر نفسه وأن القوات السورية عائدة ألى وطن الأرز عاجلا أم آجلا... من أجل أن تلعب دمشق دور الآمر والناهي في الوطن الصغير.
كان مفيدا أن تدين الحكومة اللبنانية الأعتداء على الموقع السوري. وكان مفيدا أن يتضمن البيان الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء تذكيرا بأن لبنان يقف مع الدول الصغيرة، مثل الشقيقة سوريا، عندما تتعرض لعدوان مصدره دولة كبيرة مثل الولايات المتحدة الأميركية. أنها أدانة في محلها، خصوصا أن لبنان يرفض أن يلحق أي أذى بسوريا وهو حريص عليها وعلى الشعب السوري أكثر من حرصه على أي أمر آخر بأستثناء الحرية والسيادة والأستقلال وصيغة العيش المشترك بين اللبنانيين والتمسك بالعروبة الحقيقية طبعا. لبنان ومن خلال تجربته مع سوريا، تماما كما كانت للكويت تجربة مع نظام صدّام حسين البعثي- العائلي، أو على الأصح العائلي- البعثي، يدرك قبل غيره معنى أعتداء دولة كبيرة على دولة صغيرة والظلم الناجم عن ذلك. لبنان يتضامن من هذا المنطلق مع سوريا، علما أن الظروف المحيطة بما حصل داخل الأراضي السورية في منطقة قريبة من الحدود العراقية لا تزال موضع أخذ ورد ولا يزال مبكرا التكهن بما أذا كان الجانب السوري بريئا أم لا وأن ما أقدم عليه الأميركيون كان زورا وبهتانا وquot;عملا أرهابياquot; على حد تعبير وزير الخارجية السوري السيد وليد المعلم في لندن. لقد توعّد المعلم بالرد على العدوان الأميركي في حال quot;تكرارهquot; وهذا يعني أن النظام السوري لن يرد على العدوان الأخير وسيعتبره مسألة منتهية. ربما قال الوزير السوري ذلك من باب الحرص على العلاقات الأميركية -السورية التي يأمل في تحسينها في يوم من الأيام على حساب لبنان واللبنانيين طبعا.
بعيدا من الزاوية اللبنانية، يفترض النظر ألى الأعتداء الأميركي من زاوية أوسع. تتمثل هذه الزاوية في الدور الأقليمي لسوريا وشعور النظام فيها أن في أستطاعته الأستفادة من الفراغ في الولايات المتحدة بسبب الأنتخابات الرئاسية التي ستأتي بالمرشح الديموقراطي باراك أوباما، على الأرجح، ألى البيت الأبيض. مثل هذا الفراغ ليس قائما. كل ما في الأمر أن النظام السوري لا يزال تحت المراقبة الشديدة والصارمة وأن كل رهاناته على دور أقليمي يلعبه، يظن أنه معدّ له سلفا، ليست في محلها. عليه التنبه ألى أنه لا زال وضعه يراوح مكانه وعليه ألا ينتظر مكافآت في أي مكان في المنطقة، خصوصا في لبنان والعراق. عليه بكل بساطة، رأفة بالسوريين أولا ألا يعتقد أن الأنفتاح الفرنسي سيقوده ألى مكان ما في حال لم ينفّذ المطلوب منها حرفيا، أي تبادل العلاقات الديبلوماسية مع لبنان ثم ترسيم الحدود بين البلدين ومنع تهريب الأسلحة ألى لبنان لمصلحة كل من له علاقة بأثارة الغرائزالمذهبية وكل أنواع التطرف والأرهاب بدءا بميليشيا quot;حزب اللهquot; الأيرانية... وأنتهاء بمن يدور في فلك quot;القاعدةquot; وماشابه ذلك من عصابات أرهابية. أول ما تفعله العصابات الدائرة في فلك quot;القاعدةquot; هو الأرتداد في أقرب فرصة وعند أول منعطف على من ساعدها وركب موجتها معتقدا أن في أستطاعته أستغلالها وتوظيفها في خدمة مصالحه.
هذه ليست مرحلة فراغ في المنطقة. ليس في الأمكان الرهان على الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع أسرائيل عن طريق تركيا والتظاهر بتنفيذ القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن من أجل القول للعالم أن في أستطاعة سوريا تجاوز المرحلة الماضية، أي تجاوز المرحلة التي نجمت عن القرار المشؤوم بالتمديد للرئيس اللبناني أميل لحود في العام 2004 ثم أغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط- فبراير من السنة 2005. كل ما هو مطروح أمام النظام السوري تنفيذ سلسلة من الشروط لا أكثر ولا أقل. أنها الشروط التي تستطيع سوريا أن تتحول من خلالها ألى دولة طبيعية من دول المنطقة. دولة لا تعيش على الأبتزاز وتصدير الأمن، في مفهومها، والذي يعتبره الآخرون تصديرا للأرهاب للأسف الشديد. لم تعد اللعبة السورية تنطلي على أحد. أنه اوان الأختيار. هل سوريا دولة طبيعية أم لا؟ هل تريد العيش في أمان في محيطها أم تظن أنها تستطيع العيش من ثقافة الأبتزاز القائمة على تصدير الفوضى؟
جاء العدوان الأخير على الأراضي السورية، وهو عدوان بكل معنى الكلمة، ليؤكد الحاجة ألى التخلي عن الأوهام السورية أكان ذلك في لبنان أو العراق أو فلسطين. سوريا دولة عادية عليها التصرف بطريقة طبيعية، أي عليها الأنصراف قبل كل شيء ألى معالجة مشاكلها الداخلية بدل ممارسة لعبة الهروب ألى أمام في شكل مستمر. تبقى مسألة المحكمة الدولية في قضية أغتيال الرئيس الحريري والجرائم الأخرى التي تلتها. هذه مسألة مختلفة ذات أطار مختلف لم تعد له علاقة له لا بلبنان ولا بالعراق ولا بفلسطين ولا بالمفاوضات المباشرة أو غير المباشرة مع أسرائيل ولا بالأنفتاح على فرنسا ولا بالتظاهر بلعب دور في الحرب على الأرهاب ولا حتى بالمحور القائم بين دمشق وطهران. هل يفهم النظام السوري الرسالة أم يعتقد ان في أستطاعته معالجة أخطائه، أو على الأصح جرائمه، بأخطاء وجرائم أكبر. الخطأ لا يغطيه خطأ أآخر. الجريمة لا تغطيها جريمة أخرى أكبر منها. الرسالة الأميركية تبدو واضحة كل الوضوح. هل من يريد تسلم الرسالة وفهم أبعادها، بما في ذلك ان ليس مسموحا للنظام السوري اللعب في الوقت الضائع؟