-1-

قرأنا في التاريخ السياسي القديم والمعاصر، أن تبادل التمثيل الدبلوماسي بين الدول يتم بعد أن تُحدَّد وتُرسَّم حدود الدولتين جغرافياً، قبل أن يتم أي تبادل للسفارات فيما بينها. وهكذا كان الحال بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وكذلك حديثاً بين مصر وإسرائيل وبين الأردن وإسرائيل بعد توقيع معاهدة السلام بينهم. فكل دولة عرفت أين حدودها مع الدولة الأخرى، وجرى الاعتراف، وتبادل التمثيل الدبلوماسي على هذا الأساس.
أما ما حصل بين لبنان وسوريا في الأيام الماضية من خطوة للتمثيل الدبلوماسي، وفتح سفارة لبنانية في دمشق، وأخرى سورية في بيروت قبل ترسيم الحدود، فهو الفقه السياسي المعاكس الجديد، الذي جاء به نظام الحكم في سوريا، والذي يجعل من سفارة سوريا في بيروت مجرد مركز جديد للمخابرات السورية، بدل عنجر الماضي، والبوريفاج الماضي.

-2-
السؤال المضحك المبكي هو:
- أي لبنان ذلك الذي اعترفت به سوريا، وما هي حدوده بالضبط؟
- وأين حدود لبنان المعترف بها سوريا، والتي تريد سوريا فتح سفارة فيها؟
- وكيف تفتح سوريا سفارة في بلد مجاور لها، وهي لا تعترف بحدوده معها حتى الآن؟
- وماذا يمنع سوريا من ترسيم حدود لبنان معها، لكي تضع خارطة لبنان (الدولة المعترف بها) في وثائق الخارجية السورية رسمياً؟
- وماذا كان يُمثِّل ميشيل سليمان رئيس الجمهورية اللبنانية عندما زار سوريا.. هل كان يُمثِّل لبنان المعترف به، وبحدوده مع سوريا؟
- لقد تمَّ ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان، وعرف كل طرف حدوده، فلماذا لا تفعل سوريا الفعل ذاته، وتُريح اللبنانيين، لكي يهدأ بالهم الذي ظل مشغولاً منذ 1943 إلى الآن؛ أي أن سوريا ترفض ترسيم الحدود منذ 62 سنة، وهو عمر أطول من عمر القضية الفلسطينية؟
- وأخيراً، هل هناك سفارات لسوريا في بلدان ndash; ما عدا لبنان - لا تعترف سوريا لها بحدودها الجغرافية الشرعية؟

-3-
أسئلة لا جواب مقنعاً عنها، غير جواب أن السفارة السورية في بيروت، ليست كباقي سفارات سوريا في العالم، وإنما هي مركز جديد لسوريا في قلب بيروت، يقوم مقام مراكز المخابرات السورية التي كانت في عنجر وشتورا والبوريفاج وغيرها من مراكز المخابرات السورية. أما السفارة اللبنانية في دمشق فستكون دار ضيافة للزعماء السياسيين اللبنانيين الموالين لسوريا، الذين يزورون دمشق لبوس الأيادي، وتلقي التعليمات اللازمة، وإن كان عدد هذه الزيارات سيقلُّ مستقبلاً، لأن quot;الشامquot; أصبحت في قلب بيروت من جديد. ولن يزور السياسيون اللبنانيون الموالين لسوريا دمشق، إلا في الحالات الاضطرارية.
فهل اكتشف اللبنانيون العقلاء معنى الخطوة الدبلوماسية السورية نحو لبنان؟
وهل أدركوا أن هذه الخطوة ما هي إلا لذر الرماد في العيون الأوروبية والأمريكية، وبعض العيون العربية؟
وهل فهموا بأن سوريا لا تتخذ الآن أية خطوة نحو لبنان إلا بعد الاتفاق مع إيران وحزب الله الذي يحكم quot;الجمهورية اللبنانية الجنوبية الإسلاميةquot; بامتياز، وأن السفارة السورية في بيروت ما هي إلا سفارة في quot;الجمهورية اللبنانية الجنوبية الإسلاميةquot;؟
فتلك quot;الجمهورية اللبنانية الجنوبية الإسلاميةquot;، ومن يدعمها من المسيحيين (عون وفرنجية والمُرّ وسكاف) والأرمن (حزب الطاشناق) والدروز (المير طلال أرسلان، ووئام وهاب) هي فقط ما تعترف به سوريا.

-4-
معظم السياسيين المسيحيين اللبنانيين، يعترفوا بأن quot;الجمهورية اللبنانية الجنوبية الإسلاميةquot; قد تمت إقامتها، وأن سوريا وإيران تعترف بها اعترافاً ضمنياً. وهذه الجمهورية لا تحتاج إلى أكثر من هذا الاعتراف الآن، الذي يؤمن لها المال والسلاح والدعم السياسي، وهذا كل ما تحتاجه لنهوضها وسيطرتها السياسية على باقي أنحاء لبنان، كما هو الحال الآن.
إن حزب الله في لبنان، قد قام بانقلاب أبيض، والناس في لبنان نيام. وسيطر على منطقة الجنوب اللبناني، وأصبح له أرضه وشعبه الذي يحكمه، وأصبح له ميزانيته السنوية (يقال أنها 500 مليون دولار) التي تأتيه من إيران، وأصبح له جهازه الخاص بالخدمات (إعلام، كهرباء، اتصالات، تعليم، صحة، نظافة.. الخ)، وهو في غنى عن الدولة اللبنانية الجبلية البيروتية، التي يرأسها ميشيل سليمان.

-5-
فالرئيس سليمان لا يحكم جمهورية لبنان الجنوبي الإسلامية، ولا يستطيع أي مسؤول لبناني مهما كبُر أو صغُر، أن ينال من أظفر أي مواطن من مواطني هذه الجمهورية. وعندما شرب فؤاد السنيورة (حليب السباع)، وأقال العميد الشيعي شقير (رئيس جهاز أمن مطار بيروت) وهدد بإزالة نظام الاتصال الخاص بحزب الله، قام حزب الله بإغلاق مطار بيروت تماماً لمدة يومين، واحتل بيروت وأجزاء من الجبل. وكشف حزب الله للسنيورة ولحكومته عن (العين الحمراء) التي اقتنع بعدها السنيورة وبدو 14 آذار، أن لحم حزب الله مُرٌ، ولا تستطيع أسنان الدولة اللبنانية التي يعتقد حزب الله أنها غير موجودة، أن تعضَّ هذا اللحم المُرَّ.

-6-
ما هي نية سوريا من عدم ترسيم الحدود اللبنانية ndash; السورية، واستباق هذه الخطوة بخطو التمثيل الدبلوماسي المتبادل؟
لقد قلنا كلاماً كثيراً في مقالنا يوم الأحد الماضي (النظارة في السفارة.. من عنجر إلى بيروت) إجابة عن هذا السؤال.
فمنهم من قرأ وفهم، ومنهم من قرأ ولم يفهم، ومنهم من فهم قبل أن يقرأ، وما بدلوا تبديلاً.
فسوريا كما قرأنا في هذا المقال، تسير مع لبنان، ومع لبنان وحده، في الاتجاه المعاكس.
فلماذا؟
لأن لبنان لا جيش قوياً له، ولا دولة قوية له، وهو بالنسبة لسوريا ما زال المحافظة الخامسة عشرة، تفعل بها وفيها، ما لا تقدر أن تفعله في أية دولة أخرى، وتضحك على ذقون سياسييه من خصوم سوريا بقطعة العظم (السفارة) التي رمتها لهم، لعلهم يكفون عن... ويسكتون.
السلام عليكم