-1-
الدولة الدينية، أياً كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو بوذية أو غيرها، دولة لم تستطع العيش في القرن العشرين، ولا تستطيع العيش في القرن الحادي والعشرين، وفي الألفية الثالثة، وما بعدها. والسبب في ذلك بكل بساطة، أن النمط الإنساني للدولة الآن هو الدولة المدنية. فقد كان من الممكن أن يسود حكم الكنيسة في القرون الوسطى، وما بعدها وإلى ما قبل عصر التنوير.
وكان من الممكن إقامة الخلافة الراشدة مرة أخرى في القرون الوسطى أيضاً، حيث كانت الأرضية الدينية، والفكرية، والعلمية، والسياسية تتقبل ذلك، ويمكن أن تُنبت مثل هذه الدولة. ولكن بعد هذا التقدم الإنساني العظيم، في مجالات العلم، والتفكير، والتكنولوجيا، والفلسفة وغيرها من العلوم، أصبح الفضاء الإنساني بحاجة إلى دولة مدنية، تتبنى مباديء وقيم العصر الحديث، ولا مانع لديها من تبني قيم الأولين، إذ لم تكن تتعارض مع تقدم الإنسان الحديث، وتتماشى مع مصالحه وواقعيته.

-2-
كباحث ليبرالي، أرفض الدولة الدينية لا كرها بالدين، ولا معاداة له، ولكن حباً في الدين، وموادعة معه. ورفض الدولة الدينية، هو محاولة لأبعاد قداسة الدين عن نجاسة السياسة. ورفض الدولة الدينية التي يترأسها رجل دين وليس رجل سياسة، نابع من الفروق الكثيرة والكبيرة بين رجل الدين ورجل السياسة، ومن هذه الفروق:
أن رجل الدين يعتبر الدين ثابتاً، لا متغيرات فيه. وأن الدين ذو طابع ميتافيزيقي سحري. وأن الدين سلطة روحية. وأن كل النصوص في الدين مقدسة. وأن هدف الدين الإيمان والطاعة. وأن الكرسي الديني أبدي ومقدس. وأن العلماء في الدين هم خلفاء الأنبياء، وهم الهُداة والدُعاة. وأن الدين يحاكم الطغاة أمام محكمـة الله وليس أمام محكمة الشعب. وأن الدين ممارسة مثالية، وليس ممارسة الممكن، ولكن ما يجب أن يكون. وأن الدين موقف أخلاقي من الحياة والمجتمع والناس.
في حين أن رجل السياسة يعتبر أن السياسة متغيرة، لا ثوابت فيها. وأنها ذات طابع إنساني وقانوني. وهي سلطة وطنية وعسكرية. وأن لا نصوص مقدسة في السياسة. وأن هدف السياسة المصالح والمنفعة. وأن الكرسي السياسي متداول، وقابل للطعن. وأن العلماء لا الفقهاء والقساوسة هم دعامة السلطة. وأن السياسيين في السياسة أسود وثعالب. وأن السياسة تحاكم الطغاة أمام محكمة الشعب. وأن السياسة هي فن الممكن، وليست ما يجب أن يكون. والسياسة ممارسة واقعية لا علاقة لها بالمثاليات. ولا علاقة للسياسة بالأخلاق. وليس لها موقف أخلاقي ذاتي أو شخصي.

-3-
ولعل العلاقة الضدية بين الدين والسياسة، تتجلّى خير تجلٍ في قول الراحل عمر التلمساني المرشد العام السابق للإخوان المسلمين، من أن 'برنامج الإخوان المسلمين السياسي لم يتغير، ولن يتغير بتغير الظروف السياسية. فليس هناك تعديلات ولا تغييرات في برامـج الإخوان المسلمين السياسيـة، لأنها برامج مستمدة من القرآن، والقرآن لا يتغير ولا يتبدل بتبدل الزمان والمكان والظروف المتقلبة. فكـلام الله يلائم الحياة حتى يوم الساعة' (جريدة 'الأهرام'، 15/11/1971). ولكنه بطبيعة الحال لا يلائم الحياة السياسية المتقلبة والمتغيرة. ومن هنا جاء الفصل بين الدين والسياسة. وقد قال بعض الفقهاء بذلك. فيقول الفقيه ابن عابدين:
'كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان، لتغير عُرف أهله ولحدوث ضرورة أو فساد الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه، لزم منه المشقة، والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة الإسلامية المبنية على التخفيف ورفع الضرر'.
ويقول الإمام الزيلعي:
'إن الأحكام قد تختلف باختلاف الزمان والمكان'. (محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي، ص 190).
إضافة إلى ذلك، فإن الدين غير قادر على كبح جماح السياسة الكاسر والكاسح في كثير من الأحيان. وكما قال جاك روسو، فإن الدولة تتأثر تأثراً كبيراً بمصالحها الخاصة إلى الحد الذي تلجأ فيه إلى القهر والظلم وطمس الحقيقة لتحقيق مصالحها، دون أن يكون للدين سلطة محاسبتها، أو كبح جماحها (ناصيف نصّار، 'مطارحات للعقل الملتزم'، ص146).
وفي هذه الحالة، يُلام الدين على عدم تقويم السلطة السياسيـة، وسكوته عليها، ما دامت الدولة دولة دينية. في حين أن الدين عاجز عن ذلك. ولا يتم مثل هذا التقويم إلا في الدولـة العَلْمانية ذات المؤسسات الديمقراطية القادرة على المحاسبة والمعاقبـة.

-4-
لاختلاف الدين والسياسة في النظرة إلى السلطة ومفهومها، كان من المُحتَّم للدولة الدينية أن تفشل في الحكم كما هو الحال في دولة الملالي الدينية في إيران، وكما هو الحال في دولة حماس في قطاع غزة، وذلك يعود لأيديولوجية الدولة الدينية التي تنص على:
المشرِّع الأول هو الله. وأن الحاكمية هنا لله والخلافة للجمهور. وأن الحاكم هو إمام الدين ورجل السياسة. وميزة الحاكم هنا مدى تعلُّقـه بالدين، وتطبيقه لأحكامه. وعلماء الدين وحدهم هم سلطة عزل الحاكم، إذا جار، وهو نادراً ما يتم، ويُترك الحاكم الجائر لعقاب الله دون الخروج عليه. وهذا ما نادى به الإمام أحمد بن حنبل. وهو عدم الخروج على السلطة حتى ولو جارت، خوفاً من الفتنة، وركوناً إلى الصبر عليها، وترك أمر الحاكم الجائر إلى الله. وهو ما درج عليه فقهاء السُنَّة فيما بعد. وكانت مثل هذه الآراء هي التبرير الفقهي للخضوع والاستسلام للسلاطين والحكام، الذين يبغون في الأرض، ويفرضون قوتهم وسلطانهم بقسوة وظلم. (أنظر: علي أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص39).
وفي السلطة الدينية، يمثل القرآن التشريع الأساسي، الذي يجب على السلطـة أتباعه دون تغيير. والسلطة هنا دائمة وليست مؤقتة. ولا يُسمح بوجود معارضة إلى جانب السلطة.
أما أيديولوجية الدولة السياسية، فهي تنصُّ على أن المشرِّع الأول هو الإنسان. وأن الحاكمية والخلافة هنا للجمهور. وأن الحاكم هو رجل الدولة السياسي، ولا دخل له في الدين. والحاكم هنا، هو الصالح لهذا المنصب، بغض النظر عن أصله وفصله. وميزة الحاكم هنا، مدى إجادته وعلمه وخبرته في إدارة شؤون الدولة. ولممثلي الأمة في البرلمان الحـق في عزل الحاكم إن جار، وهو كثيراً ما حصل. ويعاقب الحاكم من قبل الشعب وممثليه. و يمثل الدستور المدني التشريع الأساسي، الذي يجب على الدولة أن تتبعه. ومن الواجب أن تقوم السلطة عن طريق رضا واقتناع الناس. والسلطة هنا متغيرة، ومؤقتة، ومتداولة. ويسمح في الدولة السياسية بوجود معارضة. وتُعتبر هذه المعارضة هي حكومة الظل. كما يُسمح بسنِّ التشريعات، وبتغيير الدستور، من وقت لآخر حسب الحاجة.

-5-
ما دامت جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفي غير مصر، خارج الحكم وخارج السلطة، فهي بخير وعافية وتقدم، وتتسع قاعدتها دوماً، وتحقق نجاحاً جماهيرياً كل يوم، بفضل خيبة وفشل الدولة الوطنية، وبفضل ضعف منافسيها من الأحزاب الأخرى. ويرتفع عدد ممثليها في مجلس الشعب، وتكسب المزيد من المريدين والأنصار. والمثال الأكبر على هذا، حركة حماس (الجناح الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين). ولكن الخسارة كل الخسارة للجماعة، والانهيار كل الانهيار، والسمعة السيئة كل السوء، وكشف الغطاء عن المستور، يكون عندما تتسلم الحكم، وتمارس السلطة، وتجد نفسها في محيط السياسة العالمية، وأمواجه الهوجاء. وهنا تبدأ كوارثها وانهياراتها، وتكشف عن عورتها القبيحة. وحركة حماس هي المثال كذلك.
فأين كان موقع حماس من الشارع الفلسطيني والعربي قبل أن تحكم، وأين أصبحت بعد أن حكمت دار الخلافة في غزة، وجمهورية الأنفاق الإسلامية؟
وللفيلسوف الألماني هيجل، فيلسوف التاريخ الكبير، قول مشهور ليتنا نتأمله ونفهمه وهو: 'التجاوز يتطلّب التحقيق'؛ بمعنى أنه لا يمكن تخطي مرحلة دون المرور بها. وحرق المراحل، يعني لا مراحل. وسيبقى الإخوان المسلمون في مصر حُلم الحالمين، ومطلب المثاليين، وهتاف المحرومين، وسعي المقهورين، وهدف المسلمين المتشددين والمتطرفين، ما لم تستولي جماعة الإخوان المسلمين على الحكم، وتُنصّب مرشدها محمد مهدي عاكف رئيساً للجمهورية. وعندها سوف تُلغي إسرائيل معاهدة كامب ديفيد، وتعيد احتلال سيناء، وتُوقف أمريكا مساعدتها المالية السنوية لمصر، وينسحب المستثمرون الأجانب من مصر، وتنهار البورصة المصرية، وتنشط تجارة التهريب بين السودان ومصر وليبيا ومصر، ويتم إغلاق قناة السويس في وجه سفن الكفار، ويزداد عدد النساء المحجبات، وتعتزل كثير من الممثلات والراقصات، وتُقفل النوادي الليلية، ويُمنع شُرب الخمر، ويزداد تعاطي المخدرات، ويصبح لكل مائة مصري مشعوذ (النسبة الآن دجال لكل 240 مصري، حسب الدراسة الميدانية التي قام محمد عبد العظيم، الباحث في مركز البحوث الجنائية في القاهرة)، وتنشب الحرب الأهلية بين المسلمين والأقباط، الذين سيصبحون من أهل الذمة، وعليهم دفع الجزية عن يدٍ، وهم صاغرون (أذلاء ومقهورون).
فلا بُدَّ من شُرب هذه الكأس المُرَّة مرارة الحنظل.
السلام عليكم.