جنوب السودان، الدولة الفتيّة التي ولدت عام 2011 من رحم صراع دام لعقود، تقف اليوم على عتبة تحوّل غامض، يتأرجح بين حلم الدولة المستقرة وكابوس الانقسام المستمر. ما إن أُعلن استقلالها حتى بدأت ملامح التحديات تتراكم كأمواج نهر النيل الذي يخترقها: صراعات إثنية، شح في البنية التحتية، هشاشة في المؤسسات، وتنازع على الموارد والثروات. ومع تقدم عمر الرئيس سلفا كير ميارديت، الذي يُنظر إليه كزعيم توافقي جزئياً، يعود السؤال ليفرض نفسه بقوة: ماذا بعد؟ من يحكم؟ وكيف يُحكم هذا البلد المتعدد الأعراق والغني بالثروات، والمثقل بذاكرة الحرب؟
جنوب السودان هو صورة نادرة لدولة لم تُبنَ بعد، رغم أن الأرض جاهزة. هناك ما يزيد عن 60 مجموعة عرقية رئيسية، لكل منها لغتها، وزيّها، وثقافتها، وتاريخها. الدينكا، أكبر المجموعات العرقية، تمثل ما يقارب 35 بالمئة من السكان، وتحتل مفاصل القرار السياسي والعسكري. يليها النوير، التي تشكل قرابة 15 بالمئة، وهي قبيلة نافذة لطالما شكلت التحدي الأكبر لحكم سلفا كير، خصوصاً في صراعها الدموي مع الدينكا الذي اندلع عام 2013. الشلك، والزاندى، والمورو، واللاتوكا، والأنواك، والمادي، وغيرهم، يشكلون النسيج المتنوع لهذا البلد، لكنهم ظلوا في الظل، مغيبين عن مراكز القرار، أو متنازعين فيما بينهم تحت مظلة (الهوية القَبَلية)، التي بقيت أقوى من الهوية الوطنية الجامعة.
في جنوب السودان، العِرق ليس مجرّد انتماء اجتماعي، بل هو مفتاح السياسة، ومفتاح الحرب، ومفتاح التحالفات الاقتصادية وحتى الدولية. ومع غياب أحزاب ذات برامج واضحة أو مؤسسات ديمقراطية راسخة، يُدار البلد عبر موازين القوى القَبَلية، والولاءات المتقلبة، والصفقات الشخصية. سلفا كير نفسه، رغم أنه أحد رموز النضال من أجل الاستقلال، لم يتمكن من تشكيل نظام سياسي شامل ومستدام، بل أدار مرحلة ما بعد الاستقلال عبر توليفة من المصالح العرقية والترضيات الأمنية. وشهدت فترة حكمه صعوداً درامياً في الثروة النفطية، تلاه انهيارٌ فوضوي بفعل الحرب الأهلية والفساد، والافتقار للتخطيط طويل الأمد.
ورغم كل ذلك، فإن جنوب السودان بلد غني حد الترف، إذا ما قورن بمقدراته غير المستغلة. تمتلك البلاد ما يزيد عن 3.5 مليار برميل من احتياطيات النفط، وهو المورد الرئيسي للاقتصاد، لكنه ظل رهينة للأنابيب التي تمر عبر السودان الشمالي، مما جعله سلاحاً في يد الخرطوم كلما اشتد التوتر. بالإضافة إلى النفط، هناك ثروات زراعية هائلة غير مستثمرة؛ فجنوب السودان يحتوي على ملايين الهكتارات الصالحة للزراعة، وأراضٍ غنية بالذهب والنحاس والحديد، وغابات تفيض بالأخشاب النادرة، ومياه وفيرة يمكن أن تجعل منه سلة غذاء للمنطقة إذا أُديرت بعقل الدولة لا غريزة القبيلة.
لكن المفارقة تكمن في أن هذا البلد الذي يفيض بالخيرات، يرزح تحت واحدة من أعلى نسب الفقر وانعدام الأمن الغذائي في العالم. أكثر من 70 بالمئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، والمجاعات الدورية تضرب الولايات الهشة، فيما تبتلع النخبة الحاكمة الموارد بصفقات مشبوهة لا تنعكس على الأرض، ولا تبني مؤسسة، ولا تشيّد بنية تحتية، ولا تفتح مدرسة.
المستقبل بعد سلفا كير ليس واضحاً…!
الرجل الذي ظل يمسك البلاد بشبه توازن منذ الاستقلال، باتت شرعيته تتآكل داخلياً ودولياً. الخصومات التي خمدت نسبياً بفعل اتفاقات السلام الموقعة مع زعيم المعارضة رياك مشار عام 2018، لا تزال مشتعلة تحت الرماد. الترتيبات الأمنية لم تُطبق بالكامل، ولا تزال ميليشيات قبلية مسلحة تنتظر إشارات الصدام القادمة. الخطر ليس في من يخلف سلفا كير فقط، بل في غياب هيكل مؤسساتي يمكنه أن ينقل السلطة بسلاسة. البديل قد لا يكون شخصاً بل فراغاً، وهذا الفراغ هو أخطر أشكال الحكم في بلد هش.
من يقرأ خريطة النفوذ في جنوب السودان الآن، سيجد أن السلطة لا تزال موزعة بين أمراء حرب يرتدون بدلات رسمية في النهار، ويحملون البنادق في الليل. قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان، سواء الجناح الحكومي أو المعارض، تُسيطر على مفاصل الدولة، لكنهم لا يمتلكون رؤية مشتركة. وعندما تضعف اليد التي تضبط الإيقاع، أي يد سلفا كير، فإن احتمال انزلاق البلاد إلى جولة جديدة من الصراع يصبح كبيراً.
ومع ذلك، فإن الأمل لا يزال قائماً، لكنه يتطلب قفزة في الوعي الوطني قبل أي ترتيبات سياسية. إذا استطاع الجيل الجديد من المثقفين والناشطين في جنوب السودان كسر حلقة الولاء العرقي، والدفع نحو بناء دولة قانون، وليس مجرد تحالف قبائل، فإن الطريق سيكون ممهداً لصناعة وطن حقيقي. لكن إذا استمرت السياسة تدار بمنطق قبيلتي أولاً، فإن مصير البلاد لن يختلف كثيراً عن حلقات الحرب التي سبقت، وقد يتشظى جنوب السودان إلى دويلات محلية تبتلعها المليشيات، وتتنازعها القوى الإقليمية.
الواقع يقول إن هناك فرصة ذهبية قبل نهاية عهد سلفا كير، لصياغة انتقال سياسي سلس، إذا ما تم الضغط الإقليمي والدولي لتطبيق اتفاق السلام بشكل حقيقي، بما يشمل إعادة دمج القوات، وتنظيم انتخابات شفافة، وتمكين الفئات غير الممثلة. فالتأخير في الحسم لا يخدم إلا من يريدون استمرار اقتصاد الحرب، واستغلال الفوضى لنهب ما تبقى من الثروات.
جنوب السودان بعد سلفا كير يقف أمام مفترق طرق مصيري: إما أن يتحول إلى نموذج أفريقي نادر لدولة تنجو من لعنة العِرق والدم، وتستثمر ثرواتها لصالح شعبها، أو أن يعيد تدوير الكابوس ذاته، ويكتشف شعبه بعد سنوات أن الانفصال لم يكن بداية وطن، بل مجرد مرحلة انتقال من حرب إلى أخرى، ومن وهم التحرير إلى واقع الضياع.
الثروات موجودة، والشعب حي، والتاريخ بانتظار من يكتبه هذه المرة بمداد العقل لا دم البنادق.
التعليقات