-1-
أعود في هذه الأيام إلى أوراقي القديمة.
أعود لأقرأ من جديد ما سبق أن قرأته قبل عشرين عاماً، ويزيد.
وأعود لأقرأ أيضاً ما كتبته قبل عشرين عاماً ويزيد، لأرى هل تغيّر شيء في تفكيري، نحو الموضوعات التي كتبتُ عنها، منذ ذلك التاريخ؟
وهل تغيّر شيء في العالم العربي، لكي تتغير النظرة إلى هذه الموضوعات؟
لقد كان انطباعي الأول أن لا شيء قد تغيّر. فقد كتبت تحت هذا العنوان لهذا المقال في عام 1986 في كتابي quot;الزمن المالح: جدلية الأدب والسياسة في الثقافة العربية المعاصرةquot;، أقول:
ما زال العرب منذ أكثر من قرن من الزمان مشغولين بالإجابة عن أسئلة شائكة، ولا يستطيعون حتى الآن الإجابة عنها، ومنها:
- لماذا فشلت كافة تجارب الوحدة العربية، ما عدا وحدة نجد والحجاز، ووحدة الأمارات العربية المتحدة، ووحدة شمال اليمن مع جنوبه؟
- لماذا هُزم العرب في معظم حروبهم مع إسرائيل حتى الآن؟
- لماذا يعتبر العالم العربي من أكثر دول العالم تخلفاً اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً؟
- لماذا يجري معظم العرب وراء فقهاء، عقولهم من القرون الوسطى، أو ما قبلها، لكنها مركبة على أجسام من العصر الحديث، فهي عقول قروسطية مركبة على أجساد عشرونية (تنتمي إلى القرن العشرين وما بعده)، من أجل إصدار الفتاوى الطفولية المضحكة؟
- لماذا يُرمى الإسلام وحده بدين البدع والهرطقات، بينما المسيحية، والأرثذوكسية القبطية خاصة، مليئة بالبدع والهرطقات. ومنها ما كان قديماً في القرن الثاني للميلاد، حيث ادعى البطريرك باسيليوس - وكان من أتباع الغنوصية. وهو مذهب المعرفة الروحية، والفكر الغنوصي Genōsis في الأصل، خليط من أفكار المسيحية، واليهودية، والإغريقية الوثنية. وازدهر هذا الفكر في القرن الأول والثاني للميلاد. وكان أهم مركزrlm; له في الإسكندرية. وقد عُثر على كثير من كتابات الغنوصية في مخطوطات نجع حمادي الشهيرة. - أن المسيح عندما أرادوا أن يصلبوه، اتخذ صورة سمعان القيرواني، وأعطاه صورته، فصُلب سمعان لا يسوع. أمـا يسـوع فصـعد إلـى السـماء. ومن هذه الرواية، كانت الرواية القرآنية المعروفة عن عدم صحة صلب المسيح. ومنها ما كان في القرن الثالث، والتي جاء بها أسقف الفيوم نيبوس، الذي كان يدعي أن المسيح سيحكُم علـى الأرض ألف سنة حرفياً.
-2-
ومنها ما كان بعد نكسة 1967. فبعدها بسنة واحدة، أُشيع في القاهرة عام 1968، أن السيدة مريم ظهرت فوق كنيسة بحي الزيتون. ونشر محمود فوزي كتاباً بهذا الخصوص وقال إن عبد الناصر وحسين الشافعي جاءا وشاهداها. وقال الرهبان أثناءها إن للظهور هذا أمرين هامين:
الأول: انتعاش روح الإيمان بالرب والعالم الآخر والقديسين، وإشراق نور المعرفة الرب، على كثيرين كانوا بعيدين عنه، ومما أدى إلى توبة العديدين وتغيير حياتهم. والثاني: حدوث آيات باهرة من الشفاء المعجزى لكثيرين ثبت علمياً وبالشهادات الجماعية.
وقامت جريدة quot;الأهرامquot; بالترويج الإعلامي لهذه الخرافة، وكيف أن السيدة مريم هي التي ستحرر القدس، وتُعيد سيناء. ونشرت في 5/5/1968 صوراً للعذراء تظهر بكاملها على سحاب ناصع البياض، أو بشكل نور يسبقه انطلاق أشكال روحانية، تشبه الحمام. وكيف أن عدداً من أساتذة الجامعة تصدوا لعَلْمنة هذه الحادثة. وقام رجال دين ومفكرون وعلماء بكتابة مقالات quot;علميةquot; لإثبات هذه الحادثة وتعليلها، وذلك كله نتيجة لخيبة الأمل والهزيمة الكبرى، التي حلّت بالأمة العربية في العام 1967.
وهناك القصة التي روتها فتاة مصرية تقول فيها أن العذراء قد أجرت لها عملية جراحيـة ناجحة. وقامت مجلة quot;روز اليوسفquot; في 18/9/1972 بالترويج لهذه القصة، ونشر تفاصيلها. وكان ذلك كله بوحي من السلطة الحاكمة، لتخدير الشارع العربي المهزوم والمجروح في كبريائه القومي والوطني.
-3-
ومنها ما كان حديثاً، كما جاء في مقدمة كتاب البابا شنودة quot;بدع حديثةquot; الذي صدر في 2006. وكان البابا يعني بالبدع الحديثة، تلك الأفكار الجديدة والحديثة التي أتى بها المفكرون المسيحيون التنويريون، الذين قال عنهم البابا في مقدمة كتابه: quot;بعضهم عاش في بلاد الغرب، وتأثر بالانحرافات الفكرية التي فيه. والبعض الآخر، لم يذهب إلى البلاد الغربية، ولكنه قرأ الكتب التي أصدرها كتاب غربيون، وتأثر بها، واعتنقها، وأراد نشر ما يعتنق. والبعض يحب الرأي الجديد، الغريب، الشاذ. ويرى في نشره مجداً ذاتياً له. إذ أصبح يعرف ما لا يعرفه غيره. لذلك كله، أرى من الواجب أن نكشف هذه الأفكار الغريبة، ونرد عليها حتى لا يصبح ناشروها حكماء في أعين أنفسهمquot;. وهذا هو المنطق نفسه الذي تتم به مهاجمة التنويريين المسلمين هذه الأيام، من قبل بعض رجال الدين المسلمين، ومنهم محمد أركون الفيلسوف الجزائري العربي، ورئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة السوربون.
-4-
يتميز محمد أركون عن باقي المفكرين العرب، بأنه صاحب دعوة عميقة، لإعادة قراءة التاريخ الإسلامي، وإعادة قراءة الواقع العربي من جديد كذلك.
فمعظم المفكرين العرب يدعون الآن إلى ضرورة إعادة quot;كتابةquot; التاريخ العربي- الإسلامي الحديث. ولكن قلة قليلة منهم هي التي تدعو إلى ضرورة إعادة quot;قراءةquot; الواقع العربي من جديد. فالتاريخ قد كُتب - ربما - صحيحاً، ولكنه قُريء مغلوطاً.
وأركون الذي يرميه معظم رجال الدين المتشددين والمتطرفين، بأنه إساءة كبيرة للإسلام، ويرميه آخرون بالكفر والإلحاد، وأنه من ضمن قائمة السفهاء، هو الذي يقول في كتابه quot;الفكر العربيquot;، بأن هذا الفكر قد حقق انطلاقته اللامعة مع انتشار الإسلام.
وأكد في كتابه quot;الإسلام: الأمس والغدquot; الذي اشترك فيه مع المفكر الفرنسي لوي جارديه، أن الإسلام ما زال حاضراً حتى الآن، حضوراً فكرياً متوهجاً، بقوة أفكاره التي طرحها منذ 14 قرناً. ذلك أن الإسلام كما يقول الفيلسوف الفرنسي لويس ماسينون هو quot;إرادة العيش المشتركquot;، وسيظل كذلك.
-5-
إن بحث أركون في سوسيولوجيا الإخفاق العربي، ينصبُّ حول موقف المثقفين منذ مطلع القرن الماضي وحتى مشارف الثمانينات من الطرح الأركوني للتنمية الشاملة. ولقد فوّت العالم العربي على نفسه فرصة عظيمة خلال القرن الماضي، كان يمكن من خلالها أن يكون واحدة من القوى الكبيرة الآن، لو أن مثقفيه وسياسييه فهموا، وأدركوا، واستوعبوا، وطبّقوا طروحات أركون، في مختلف أوجه التنمية.
لقد كان واقع الثقافة العربية خلال القرن العشرين واقع الخيالات والهيام بطروحات الثقافة الغربية، ومشكلاتها. وهذا الهيام لم يكن قاصراً على المثقفين العرب، بل إن بعض المثقفين في الصين، واليابان، وكوريا، والهند، وماليزيا، وسنغافورة وأمريكا اللاتينية وغيرها، كانوا قد هاموا بهذه الثقافة، وأُخذُوا بها أخذاً سحرياً، ولكنهم في الوقت نفسه ابتدعوا، وأنتجوا لأممهم ثقافة ذات هوية مميزة، استطاعت أن تقودهم إلى التفوق في مجالات مختلفة. أما نحن، فقد وقفنا من الثقافة الغربية موقف المُعجب المذهول، ولم ننجح في الاستفادة من هذه الثقافة، كما نجح الآخرون.
-6-
وفي اعتقادي، أن السبب الرئيس في ذلك، يعود إلى علو صوت وقوة فقهاء مسلمي ومسيحيي القرون الوسطى (القروسطيون العشرونيون) الذين يعيشون بيننا الآن (أنظر كتاب عوض القرني quot;الحداثة في ميزان الإسلامquot; 1988، وكتاب البابا شنودة: quot;بدع حديثةquot; 2006).
وهؤلاء الفقهاء من مسلمين ومسيحيين، كائنات غريبة جداً، ذات أجسام مخضَّبة بالعطر الحديث، تتشافى بالطب الحديث، ولها لحى حديثة مُمشطة ومُهذبة بأدوات حديثة، ولباس حديث، وأدوات استهلاك مختلفة حديثة. وهم يقفون على منابر حديثة، ولكن عقولهم تنتمي إلى عقول القرون الوسطى، وطرق تفكيرها، وتطبيقاتها، وتردد آراءها التي كانت سائدة آنذاك.
فالزمن الاجتماعي والفكري، قد توقف لديهم عند القرن الخامس والسادس عشر.
بل هم ينطلقون في تفكيرهم وآرائهم، من أنهم يعيشون حقيقةً، في مجتمعات القرون الوسطى، وليس في القرن العشرين وما بعده. ولعل هذا هو سرُّ تأخر الشرق عامة حتى الآن، نتيجة لسيطرة التفكير الأرثوذكسي الإسلامي والمسيحي المتشدد والمتطرف على السواء. والمثال الواضح في ذلك، ما يجري في مصر الآن خاصة.
السلام عليكن وعليكم.