-1-
تسير الأصولية دائماً عكس مسار التاريخ.
وهي بذلك ترتهن لـ quot;الإرادويةquot;، التي تريد ما لا يريده التاريخ. والإرادوية، مصطلح سياسي يعني الاستعلائية، وفرض إرادة الحاكم ونزعته الديكتاتورية على التاريخ، والتي يحاول بها - عبثاً - أن تغلب إرادة التاريخ. وبذا، فالإرادوية هي بكل بساطة إرادة ما لا يريده التاريخ. والإرادوية هي التي تضع الرغبات فوق التاريخ؛ أي أنها تحيد عن مسارات التاريخ الحتمية. يقول المفكر المغربي عبد الله العروي quot;إن المجتمع الذي يتمشى على ضوء النظرة التاريخانية يسود العالم. ولم يستطع أي مجتمع كان، المحافظة على مقامه وحقوقه إلا بالخضوع للمنطق الجديد. أما الوفاء لرؤية خصوصية، دون أدنى أمل في تعميمها وفرضها على الغير، فإنه لا يؤدي إلا إلى كلام غير مسموع؛ أي إلى اللغو في ميدان العلاقات الدولية. فالوعي التاريخي هو منطق العمل والانجاز.quot; (العرب والفكر التاريخي، ص 61).
من ناحية أخرى، فإن الإرادوية التي تنتشر الآن في العالم العربي انتشاراً واسعاً، وتتمثل أكثر ما تتمثل بالأنظمة الديكتاتورية العسكرية والحزبية والقبلية الحالية، هي ادعاء هاذٍ بمعرفة المستقبل، والسيطرة عليه، والقدرة على تحقيقه طوعاً أو كرهاً.
-2-
والأصولية المرتهنة للإرادوية، تحاول من جانبها، أن تفرض على التاريخ ولادة غير طبيعية؛ أي ولادة قيصرية وقسرية. فإذا كان التاريخ الحديث يسير تجاه الحوار والمفاوضات والتفاهم وحل النزاعات سلمياً بين الأفراد والشعوب، فالأصولية المرتهنة، تُصرُّ على جعل العنف الطريق الوحيد والمعتمد لسير التاريخ. وهذه كانت من النتائج القائمة الآن على أرض الواقع العربي، والمتمثلة بعدم التفريق بين القرآن والسلطان، والخلط بينهما ذلك الخلط الخطير والمدمر، على الساحة العربية الآن، وذلك من أجل أن يظل حلم الاستيلاء على السلطة قائماً لدى الأصوليين، باعتبار أن الأصولية حركة سياسية بالدرجة الأولى، وليست دينية كالسلفية. (سنبين في مقال قادم الفروق الكثيرة بين السلفية والأصولية).
-3-
فمن الواضح والمعلوم، أنه تمَّ التفريق بين القرآن والسلطان منذ 14 قرناً؛ أي إعلان فصل الدين عن الدولة (وما نُطلق عليه اليوم بالعَلْمانية) منذ اعتلاء معاوية بن أبي سفيان عرش الدولة الأموية، وتوقفه عن إمامة الصلاة. وأكد هذه العَلْمانية صراحة الخليفة عبد الملك بن مروان. فحين سمع بنبأ توليه الخلافة، وهو يقرأ القرآن، أطبق عندها القرآن، وقال: quot;هذا آخر عهدي بكquot;. وفي أول خطبة صلاة جمعة له، وقف على المنبر، وقال مهدداً المصلين: quot;والله لو سمعت أحدكم يقول لي اتقِ الله لقطعت لسانهquot;. ومنذ 1466 عاماً، والقرآن بعيد عن السلطان بُعد الأرض عن السماء. والخلفاء خلال هذه المدة، كانوا يمارسون ما أُطلقُ عليه quot;عَلْمانية الغانياتquot;. فحيناً يُقرّبون منهم رجال الدين لحاجةٍ لهم بهم، وحيناً آخر يبعدونهم لعدم حاجتهم لهم. والمهم كما قال لهم مؤسس quot;عَلْمانية الغانياتquot;، معاوية بن أبي سفيان: quot;أنظروا.. نحن لا نُفرّق بين الناس وألسنتهم ما لم يُفرّقوا بيننا وبين سلطانناquot;؛ أي أن الدين لكم، تكلموا فيه كما تشاءون، والدولة لنا، فإياكم والمساس بها. وهكذا أصبح الفراق بين القرآن والسلطان، حتماً وقدراً مقدوراً، وواقعاً معاشاًً، وأكتسب بحكم تاريخه الطويل ( أكثر من 1466 سنة) شرعية تاريخية، سيما وأن الخلفاء العباسيين في نهاية عصرهم الثاني (847-1258م) (عصر الانحطاط) في القرن الحادي والثاني عشر للميلاد، منحوا شؤون الدولة للسلاطين البويهيين ثم السلاجقة، واحتفظوا هم بالخلافة الدينية فقط. وتحققت العَلْمانية بالقلم العريض هذه المرة دون جدل، وقبل أن تتحقق العَلْمانية في أوروبا بالإصلاح الديني بعدة قرون، وتنتهي إلى ما انتهت إليه الآن.
ورغم هذا، فما زال زعماء الأصولية الدينية اليوم الذين يحلمون بالرئاسة وزعامة السياسة كأنور الجندي، ويوسف القرضاوي، وراشد الغنوشي، وحسن الترابي، ومهدي عاكف وكثير غيرهم في الخليج العربي، يرمون العَلْمانية بالكفر والإلحاد، ونكران رب العباد، لا لشيء، إلا لأنها تنكرُ عليهم العمل في السياسة، وترفض إعطاءهم مُلكية الدالين معاً: دال الدين، ودال الدنيا.
-4-
إن الصراع اليوم، بين الأصولية وبين الليبرالية، ليس صراعاً معرفياً، أو تاريخياً، أو دينياً.. الخ. ولكنه صراع سياسي من جانب الأصولية طلباً للاستئثار بالسلطان، بعد أن استأثروا بالقرآن. فالأحزاب الدينية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين مستعدة لقبول أي خطاب ليبرالي أو راديكالي، في سبيل الوصول إلى السلطة. وهذا هو حالهم الآن في مصر وخارج مصر. وهم مستعدون للتحالف مع أي حزب أو فئة ليبرالية أو راديكالية أو دينية للفوز بالسلطان ونسيان القرآن كما قال الخليفة عبد الملك بن مروان. ولا مانع لديهم من أن يأتوا إلى كرسي الحكم على ظهر دبابة أو ظهر جمل. وما القرآن الذي يرفعونه عالياً في أيديهم في كل مناسبة وزفة، إلا من أجل الإمساك بكرسي السلطان. فالطريق إلى السلطان يمرُّ بالقرآن. وهم يقتلون حيناًً حتى رجال الدين (قتلوا الشيخ الذهبي عام 1977، والشيخ محمد المصري في حلب 1979) ويحاورون حيناً حوار الثعابين، و(يتمسكنون) أحياناً أخرى (تمسكن) الشياطين، لا من أجل أن تسود أحكام القرآن، بل من أجل الوصول إلى كرسي السلطان. وهم يعلمون تمام العلم، أن لا صلة سياسية بين القرآن والسلطان. وأن القرآن ليس دستوراً سياسياً، ولكنه كتاب صدق، والسلطان كتاب كذب. وأن القرآن كتاب هداية، والسلطان كتاب غواية. وأن القرآن كتاب قداسة، والسلطان كتاب نجاسة. ومع هذا، تراهم يرفعون في مظاهراتهم، ومسيراتهم، وانتخاباتهم، وأعراسهم، وأحزانهم، ونكباتهم، وانتصاراتهم القرآن، من أجل الإمساك بالسلطان.
السلام عليكم.
التعليقات