-1-
لا عاقل دارساً لأحوال القبط في مصر ينكر أو يجهل أن أقباط مصر مظلومون، ومحظورٌ عليهم ممارسة حقوق المواطنة الكاملة كغيرهم من المواطنين المصرين. ولقد أخطأ صديقنا الكاتب والناقد الأدبي المصري رجاء النقّاش في مقاله (باطل الأباطيل) و (أقباط المهجر ماذا يريدون؟) عندما أنكر على الأقباط ndash; في المهجر خاصة ndash; المطالبة بحقوق أكثر من عشرة ملايين قبطي يعيشون داخل مصر، وأكثر من مليون قبطي يعيشون في المهجر. واتهمهم بـ quot;التحريض على الفتنة، وإشعال النيران بين أهل مصر الذين لم يعرفوا هذا الكلام الفارغ من قبلquot; (quot;الوطنquot; القطرية، 23/10/2007). ويعني النقّاش هنا ب ـ quot;الكلام الفارغquot; هنا المطالبة بحقوق المواطنة الكاملة للأقباط. فالدولة المصرية عندما تأخذ من الأقباط كل ما تأخذ، من ضرائب، وولاء للوطن، واحترام للدستور والمؤسسات الدستورية.. الخ. تعاملهم معاملة المواطنين المصريين المسلمين تماماً. ولكن عندما تعطيهم، يكون عطاؤها منقوصاً عن عطائها للمواطن المصري المسلم.
فالمواطن المصري المسلم يحق له كمواطن أن يشغل أي منصب في الدولة ما دام هو كُفء لهذا المنصب. أما المواطن المصري القبطي فلا حق له بذلك. وهو ممنوع ومحروم من تسلّم مناصب قيادية في الشرطة، وأمن الدولة، والاستخبارات.. الخ. وهو محروم من ممارسة طقوسه الدينية كما يمارسها المسلم. وهو محروم من بناء معابده إلا بإذن من الدولة يطول، وفي غالب الأحيان لا يُلبى.. الخ.
-2-
إذن هناك عصف وعسف للمواطن المصري القبطي، وهناك قضية مواطنة كبيرة على الدولة المصرية أن تكون شجاعة بما فيه الكفاية وتحلّها، بأن تلغي التفرقة كليةً بين المواطن المصري المسلم وبين المواطن المصري المسيحي الذي يُعتبر في نظر quot;الإخوان المسلمينquot; وفي نظر الدولة المصرية كذلك حتى هذه اللحظة ذميّاً، حيث تؤخذ منه الضريبة (وهي بمقام الجزية) ولا تُعطى له حقوق المواطنة بالكامل. ولقد ردد الأقباط عدة مرات قولهم بأنهم يدفعون 40% من ميزانية مؤسسة quot;الأزهرquot; الدينية - مثلاً - وفي آخر النهار، يخرج عليهم بعض شيوخ الأزهر السلفيين المتشددين، ويشتمون الأقباط، وينكرون عليهم حقوقهم في المواطنة الكاملة، كما قال لنا عدة مرات الناشط السياسي والمدني القبطي المُهجَّر عدلي أبادير شفاه الله وعافاه، مما هو فيه.
-3-
لماذا لم يحقق الأقباط أهدافهم في المواطنة المصرية الكاملة حتى الآن؟
سؤال وردني عدة مرات من عدد من القراء.
ربما يكون الجواب التالي الذي يحتاج إلى شرح طويل هو الجواب المرير، والقاسي، والمؤلم، للإخوة الأقباط، وهو:
-إن بعض الأقباط في داخل مصر وخارجها هم أعداء لبعضهم بعضاً أكثر من عداوة الإخوان المسلمين والشارع الديني المصري المتشدد لهم.
فهم كسائل quot;الخلquot; دودهم منهم وفيهم، كما يقول المثل الشعبي.
فالأقباط في مصر وخارجها غير مجتمعين على كلمة سواء واحدة.
فهم في داخل مصر منقسمون على أنفسهم.
قداسة البابا شنودة والقساوسة من حوله في جبهة واحدة، ورجال الأعمال الأقباط أصحاب التأثير الكبير في الاقتصاد المصري ndash; ما عدا الملياردير نجيب ساويرس - في جبهة متضامنة سياسياً مع الكنيسة حفاظاً على مصالحهم التجارية. والمستشار القبطي حليم لبيب نائب رئيس مجلس الدولة قال quot;إن دور العلمانيين الأقباط، مكمل للاكليروسquot;. (روز اليوسف، 7/8/2005). وهناك مجموعة من المثقفين الأقباط العلمانيين - وهم قلة - يعارضون مواقف البابا والكنيسة وبعض رجال الأعمال الأقباط من الدولة المصرية، ومن سلوكيات عهد الرئيس مبارك بالذات.
وهم في الخارج منقسمون على أنفسهم كذلك.
فمنظمة quot;أقباط متحدونquot; بزعامة عدلي أبادير ومركزها زيورخ، والتي تؤيدها منظمة quot;مسيحيو الشرق الأوسطquot; في كندا، لها استراتيجية تختلف عن استراتيجية quot;التجمع القبطي الأمريكيquot; في شيكاغو بزعامة كميل حليم. وبعد كل مؤتمر من مؤتمرات الأقباط في الخارج، تحدث انقسامات حادة في التوجهات ووجهات النظر نحو سياسة الدولة المصرية تجاه الأقباط، وعهد الرئيس مبارك بالذات. وربما يقول قائل بأن اختلاف وجهات النظر هذه عنوان الديمقراطية الغربية التي يؤمن بها أقباط المهجر خاصة وجزء كبير من أقباط الداخل في مصر، وهي علامة صحة وليست علامة اعتلال. وهذا صحيح، ولكن هذه الانشقاقات الحادة تؤدي في بعض الأحيان إلى اتهامات خطيرة من قبل الجانبين لبعضهما بعضاً مما يُظهر ndash; ولو بشكل غير جلي ndash; أن أجهزة الدولة المصرية قد نجحت في تفكيك واختراق بعض منظمات أقباط المهجر. وهو ما يُضعف هذه المنظمات. فبدلاً من دمج هذه المنظمات في منظمة واحدة قوية أصبح كل ناشط قبطي سياسي مرموق في الخارج، يسعى لأن يكون هو زعيم الأقباط في المهجر، وأصبح السباق على الزعامة من قبل الشباب الأقباط ومحاولة تهميش شيوخ أقباط المهجر، هو الهدف الرئيس من وراء كل هذه الصراعات والانقسامات التي نشهدها على ساحة أقباط المهجر، والتي تجني السلطات المصرية ثمارها.
-4-
والأقباط في الداخل مختلفون مع أقباط الخارج. وكلٌ يمارس نشاطه السياسي والمدني على جبهة منفصلة عن الآخر. والمستفيد الأكبر من هذا كله هم quot;جماعة الإخوان المسلمينquot; العدو المدني الأول لإعطاء الأقباط حقوق المواطنة كاملة (أكد مجلس شورى الإخوان المسلمين أخيراً عدم السماح للقبطي أو المرأة بشغل منصب رئيس الجمهورية. الأقباط لكونهم أقلية، والمرأة لكونها ناقصة عقل ودين. ورغم ذلك، أيّد البابا شنودة ذلك في 2005، مشدداً على أن رئيس الجمهورية يجب أن يدين بدين أغلبية الشعب؛ أي أن يكون مسلماً) (العربية. نت. 10/8/2005) ثم الدولة المصرية التي تحاول أن ترضي الإخوان المسلمين والشارع الديني الإسلامي المصري، لكي يسكت هؤلاء جميعاً على مجتمع الفساد، والرشوة، والشعوذة، والعمارات المنهارة،، والغلاء، والبطالة، ودولة التوريث القادمة.. الخ.
-5-
قداسة البابا شنودة الثالث، والكنيسة القبطية بقضها وقضيضها، لا تفتأ تدعم عهد الرئيس حسني مبارك. ويصفون هذا العهد بأنه عهد quot;حكمة وتسامحquot;. وكل قسٍّ يخرجُ عن هذا الخط، ويلتحق بالمعارضة، يتمُّ تعليق نشاطه الكنسي. وفي 10/8/2005 وأثناء الأيام الأخيرة من حملة انتخابات الرئاسة أوردت الصحف أن الكنيسة علّقت نشاط قسًّ انضم إلى المعارضة. (العربية. نت، 10/8/2005). في حين وقّع في هذا التاريخ كل أعضاء الكنيسة القبطية على وثيقة تأييد لمبارك، ووصفته الكنيسة بأنه quot;الزعيم الذي يتَّسم بالحكمة والتسامحquot;. وقالت صحيفة quot;المصري اليومquot;، أن quot; الكنيسة القبطية عاقبت قسّاً في كنيسة قريبة من القاهرة لأنه انضم إلى حزب quot;الغدquot; الليبرالي المعارض الذي أقدم رئيسه أيمن نور على الترشيح للرئاسةquot;. (quot;المصري اليومquot; 3/7/2005). وقالت صحيفة quot;الأهرامquot; أن quot;الكنائس الانغليكانية في مصر دعت الناخبين إلى المشاركة في الاقتراع، دون تأييد أي من المرشحين العشرة. (الأهرام، 7/8/2005). وهو ما يعني أن لا منافس للرئيس مبارك quot;زعيم الحكمة والتسامحquot;، كما قال البابا شنودة.
وكانت تعليمات الكنيسة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة تصدر بضرورة الوقوف مع مرشحي الحزب الحاكم، حتى وإن كان المرشح المعارض مسيحياً. وقد رشّح حزب التجمع اليساري مسيحياً في إحدى دوائر محافظة المنيا، فتركه الأقباط يسقط، وانحازوا للحزب الحاكم، كما لم يقفوا مع طلعت جاد الله مرشح حزب الوفد، في دائرة مصر الجديدة. فقد وقف الأقباط مع منافسه مرشح الحكومة الدكتور حمدي السيد، بناءً على أوامر الكنيسة، وقد اجتمعوا عليه مع الإخوان المسلمين. فالمسيحيون انتخبوه، لأنه مرشح الحكومة، والإخوان انتخبوه، لأنه نقيب الأطباء المتحالف مع الجماعة. (سليم عزوز، الملتقى، 6/9/2006).
-6-
وفي الفترة نفسها قال البابا شنودة ناسفاً طوابق المعارضة القبطية الناشطة في المهجر، والداعية إلى عدم انتخاب مبارك لمدة رئاسية خامسة:
quot; إن تلك الجماعات ليست إلا أفراداً يبحثون عن دور. وكل ما يرددون من أنهم يتولون رئاسة جمعيات كبيرة ليس إلا حبراً علي ورق. ويمكن لأي شخص التحقق من ذلك بمتابعة أي اجتماع يُعقد. وأكرر، أن أي بيان يصدر عن أي من هؤلاء الأفراد، لا يُعبِّر، ولا يُمثِّل رأي أبناء الكنيسة المخلصين للوطنquot; (جريدة quot;أخبار اليومquot; القاهرية، 6/8/2005).
وهكذا عاد البابا شنودة منذ أن تولى زعامة الكنيسة القبطية في 1971 زعيماً سياسياً قبطياً رافضاً العلمانية، وفصل الكنيسة عن السياسة كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية منذ القرن التاسع عشر، رابطاً بين الكنيسة والسياسية. في حين أن التقاليد المعروفة، والتي كانت تشكل سمة رئيسية من سمات الكنيسة المصرية هي عدم تدخل الكنيسة ـ والبطريرك ـ في الأمور الدنيوية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأن يقتصر دور الكنيسة والبابا على الأمور الروحية. وقد أصبح هذا الأمر أحد أهم مميزات الكنيسة المصرية، لأنها انتزعت هذا التقليد بدماء كثير من الضحايا من رعاياها ورهبانها، ويحتفظ التاريخ القديم للكنيسة أن الأب أثناسيوس أصر على عدم الخلط بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية وكتب إلى الإمبراطور الروماني قسطانيوس قائلاً: quot;لا تقحم نفسك في المسائل الكنسية ولا تصدر إلينا أمراً بشأن هذه الكنائس.. quot; وكانت النتيجة أن تعرض الأب اثناسيوس للمطاردة من قبل سلطات الدولة الرومانية، التي وضعت جائزة لمن يأتي برأسه، واستمرت تلك المطاردة 20 عاماً.
وهكذا دشنت الكنيسة المصرية بالدم والضحايا تمسكها بمبدأ الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية، واستمر هذا المبدأ سارياً لم يجرؤ بطريك أرثوذكسي على تجاوزه ؛ ففي عام 1769 بعث بابا روما مندوباً عنه إلى مصر يحمل رسالة يدعو فيها البطريك المصري quot;يؤانس الثامن عشرquot; إلى الاتحاد بين الكنيستين؛ إلا أن البطريرك quot;يؤانسquot; رفض تلك الدعوة وكلف أحد كبار اللاهوتيين بالرد عليها، وجاء الرد مشتملاً على أقصى أنواع العنف والسخرية، وعندما ظهر ما يسمى بمجلس الكنائس العالمي رفضت الكنيسة المصرية الانضمام إليه معتبرة إياه جزءًا من المخطط الأمريكي. كما يقول محمد مورو في بحثه quot;الكنيسة المصرية ودعاة الفتنة الطائفيةquot;.
-7-
إضافة إلى ذلك، وخلال عدة مؤتمرات حضرناها للأقباط في المهجر، شكونا من عدم وجود روح التضحية والفداء والنضال لدى أقباط الداخل. وكان زعماء أقباط المهجر ndash; عدلي أبادير مثالاً لا حصراً ndash; يتمنون أن توجد في الأقباط روح الكُرد الأشداء المناضلين، وأن يكون بينهم قادة ذوو بأس شديد. وكثيراً ما قالوا للكُرد: quot;علّمونا كيف ننتزع حقوقنا في المواطنة الكاملة، كما فعلتم أنتم في كردستانquot;. وهذا المعنى العام هو الذي قاله البابا شنودة في إحدى مواعظه في قداس الأحد، وفيها يلوم الأقباط لوماً شديداً على خوفهم وترددهم في انتزاع حقهم المشروع، وسكونهم إلى الخنوع والسلبية، وسلبياتهم تجاه المشاركة السياسية، وعزوفهم عن الانتخابات، ويقول لرعاياه بالعامية المصرية:
quot;ماتزعلوش بقى، لو اتّاخذ منكم موقف سلبي - وانتوا فاهمين الكلام-، مش كل شويّة تيجوا تعيطولي، وتقولوا يا أبونا ضربونا وبهدلونا. ولو حدث أية مشاكل معكم محدّش يجي الكنيسة، اذهبوا للمسؤول عن الدائرة، واشتكوا باعتباركم مصريين ولستم أقباطاً، واللّي ملوش صوت انتخابي، يبقي ملوش لازمه وقلّته أحسن. (من موعظة الأحد، مدونات مكتوب).
ويلتقي هنا البابا مع المعارضة القبطية في الخارج. ولكن يبقى الخلاف الأساسي قائماً بينهما وهي أن البابا يريد ذهاب هذا الصوت الانتخابي إلى مبارك، وليس لغيره من أحزاب المعارضة، وهو ما يرفضه أقباط المهجر المعارضين.
-8-
وعندما عارض أقباط المهجر quot;المادة الثانيةquot; من الدستور المصري التي تنص ُّعلى أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع طبقا للتعديل الذي أدخله السادات في 1980 وعارضها كذلك في الداخل الأنبا مرقص والمستشار نجيب جبرائيل رئيس منظمة quot;الاتحاد المصري لحقوق الإنسانquot; (وهما من القلائل الذين عارضوها) وطالبوا بتعديلها، كنا نحن الليبراليين إلى جانبهم، وأطلقنا على هذه المادة quot;مسمار جحاquot; (أنظر مقالنا في quot;إيلافquot;، 23/1/2007) ولكن كان للكنيسة والبابا موقف مخالف. فقال البابا شنودة quot;من حق الأغلبية أن تجعل الإسلام ديناً رسمياًquot; (جريدة quot;المصري اليومquot;، 22/1/2007). وقال البابا كذلك في تصريح لقناة أبو ظبي، quot;أن المادة الثانية من الدستور، والتي تنصُّ على أن الشريعة الإسلامية، هي مصدر التشريع ودين الدولة الإسلام، لا تسبب مشكلة في ذاتها، وإنما في التفسيرات التي يمكن أن تحيط بها أثناء تنفيذها، وقال: quot;إن غالبية الشعب المصري من المسلمين، من حقهم أن يكون الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد ومصدر التشريعquot;. وجاءت هذه التصريحات بمثابة تأكيد واضح على الموقف الرسمي للكنيسة القبطية، على أحقية الشعب المصري ذي الأغلبية المسلمة، أن يتحاكم إلى شريعته، وأن ينصَّ دستوره على أن مصر دولة مسلمة، مرجعيتها تتمثل في الشريعة الإسلامية.
فأين يريدنا الأقباط أن نقف، إذا كان ربُّ البيت القبطي في مصر(البابا) يدعو كافة الأقباط إلى انتخاب مبارك في ولايته الخامسة وربما السادسة أيضاً ndash; فيما لو قَدِرَ عليها مبارك - ويحمد ويشكر النظام القائم الذي يصفه بـ quot;الحكمة والتسامحquot;، ولا يريد تعديل quot;المادة الثانيةquot; من الدستور المصري؟
ولماذا إذاً كل هذه المؤتمرات، وكل هذه المنتديات، والندوات، والمقالات، التي تحاول أن تقول كلمة حق معارضة لموقف البابا والكنيسة القبطية التي يدين لها كل أقباط مصر في الداخل والخارج بالولاء والنصح والهداية؟
فعلى أية صخرة يريدنا الأقباط أن نقف ونهتف؟
السلام عليكم.
اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات