سوف تظل أصداء المذابح الأرمنية، تتردد في التاريخ وفي المحافل الدولية، والتي يقال أن الأتراك العثمانيين قد قاموا بها عام 1915 -1917، وقتلوا خلالها ما يقارب من مليون أرمني بحجة تعاونهم مع روسيا، العدو الكبير للأتراك في ذلك الوقت. وقد سبق للأرمن أن عاشوا في تركيا كغيرهم من الأجناس التي ضمتها الإمبراطورية العثمانية، واحتل بعضهم منصب الوزير. ولكن عندما نصت معاهدة برلين عام 1878 على إجراء إصلاحات لصالح الأرمن في ست ولايات عثمانية في الأناضول الشرقية وفي عدد من مناطق البلقان لصالح الأرمن، رفض السلطان عبد الحميد الثاني(1842-1918) الذي كان يجيد اللعب على التناقضات والمصالح المتضادة بين الدول الكبرى وفي منطقة البلقان، تطبيق نصوص هذه المعاهدة. فقام الأرمن بمساندة بعض الدول الكبرى، بارتكاب مذابح بشعة ضد المسلمين القرويين، حيث بقروا بطون الحوامل، وقتلوا النساء، وقطعوا عورات الرجال،,وأحرقوا المساجد، ولم يجد عبد الحميد بُدّاً من مواجهة هذا الإرهاب، فيما وصف بأنه مذابح جماعية. ولم يكتفِ الأرمن بإشاعة الفوضى وارتكاب المذابح بحق القرويين، بل قاموا بأعمال شغب في إسطنبول نفسها في 1892 و1896، وخططوا لاغتيال السلطان عبد الحميد في 1905 بعد خروجه من صلاة الجمعة، فيما عُرف بحادث quot;القنبلةquot;، لكنهم فشلوا في اغتيال السلطان. فنكّل عبد الحميد بالأرمن وقتل منهم ndash; على ذمة بعض المؤرخين ndash; 300 ألفاً، مما دعا الصحافة الغربية لإطلاق لقب quot;السلطان الأحمرquot; و quot;السفّاك الكبيرquot; عليه، كما يقول المؤرخ العراقي علي الوردي(لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج3، ص22). ولكن ستبقى مذابح الأرمن تُستغل سياسياً ودينياً من قبل أطراف مختلفة، ربما تريد الكيد للإسلام والمسلمين النبلاء حيناً، وربما تريد تلويث سمعة تركيا الحديثة حيناً آخر. كما أن هذه المذابح ستظل مجالاً واسعاً للهجوم وصدِّ الهجوم من قبل الغربيين والإسلاميين، ما لم تقم تركيا بالاعتذار عن هذه المذبحة، كما فعلت ألمانيا باعترافها بالهولوكوست واعتذارها، وكما فعلت أمريكا ndash; وما زالت - باعتذارها عن مذابح الهنالسلطان عبد الحميد
ود الحمر والفيتناميين. وبقي ضمير العالم الحر ينتظر فرنسا لتعترف وتعتذر عن مجازرها البشعة في الجزائر. ولكن تركيا تصرُّ على نكران هذه المذابح تمام النكران، وينكرها معها معظم المؤرخين الإسلاميين المتباكين على الخلافة الإسلامية العثمانية التي سقطت 1924.
لم نعُد في عصر السلطان عبد الحميد
ما زالت الدولة التركية تتصدى للقضايا الداخلية والخارجية بمنطق القوة والعنف والعقاب، وكأننا ما زلنا نعيش في عصر السلطان عبد الحميد الثاني(1842-1918) الذي أُقصى عن العرش عام 1908 من قبل أعضاء جمعية الاتحاد والترقي نتيجة لتعطيله الدستور لمدة ثلاثين عاماً ولطغيانه واستبداده وعنفه في معاقبة المعارضة، ومنهم الأرمن على وجه الخصوص.فكما اعتقلت وسجنت تركيا الحديثة الزعيم الكردي عبد الله أوجلان وكادت أن تشنقه لولا تدخل الضمير الأوروبي الحي، فقد سبق واعتقلت في 1915 زعماء الاستقلال في بلاد الشام وعلّقت 21 منهم على أعواد المشانق في ساحة الشهداء في بيروت، حين مات الضمير الأوروبي، ولم يجد الشهداء من ينصرهم على الاستبداد والقهر العثماني آنذاك، كما وجد عبد الله أوجلان.
ولو كانت الدولة التركية عاقلة وواقعية وشجاعة، وتخلّت عن العقلية التركية المعروفة لدى العرب بالانغلاق وقُصر النظر والتشدد، لقالت إنها تعتذر عن هذه مذابح الأرمن، فيما لو أثبت التاريخ والمؤرخون الصحاح أنها وقعت دون مسببات موجبة لها، وأفعال تستدعي ردود فعل عنيفة على نحو ما جرى، وأن تتصالح تركيا مع ذاتها ومع التاريخ، وتنتصر للحقيقة تلبية لرغبة الضمير العالمي. ولكن الأتراك على عكس ذلك، يجرّمون بالقانون التركي الحالي كل من يجرؤ على مجرد ذكر هذه المذابح، ويدخلونه السجن بتهمة إهانة الهوية التركية، كما حدث مع الكاتبة التركية أليف شفق التي تحدثت عن المجزرة الأرمنية في روايتها quot;لقيط اسطنبولquot;، وحُوكمت من جرّائها. وهذه المعركة التي خاضتها أليف شفق مع القضاء، تعيد إلى الأذهان التجربة الصعبة التي خاضها الروائي التركي أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل مع سلطات بلاده، إثر حديث الذي أدلى به إلى صحيفة سويسرية، واعترف فيه بمسؤولية بلاده في إبادة ثلاثين ألف كردي ومليون أرمني. فكان أن اتُّهم بخيانة وطنه، وبالإساءة إلى الهوّية التركية كذلك.
وتظل المذابح التركية للأرمن عالقة في ذاكرة التاريخ على هذا النحو الذي نشهده، وتطفو على سطح الأخبار بين وقت وآخر نتيجة لمكابرة الأتراك، ونتيجة لأن الأتراك ndash; ماضياً وحاضراً- لا يعرفون، ولا يسلكون لغة الحوار، واعتادوا على العنف والقسوة والعقاب في حل خلافاتهم مع الآخرين الذين غالباً ما يكونوا ضعفاء يريدون الخبز والسلام والحرية.
كوارث الاستعمار العثماني للعالم العربيأليف شفق
احتل العثمانيون في 1517 بقيادة السلطان سليم الأول بلاد الشام ثم مصر، وسيطروا على العالم العربي مدة أربعة قرون(1517-1918). وخلال هذه القرون حكم العثمانيون العالم العربي بالسيف والقهر والاستغلال. ولولا أوروبا التي ورثت تركيا(الرجل المريض) بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى، لما تمّ تحرير العالم العربي من براثن الاستعمار العثماني. ولكن العالم العربي خرج وقتها، من تحت الدلف العثماني إلى تحت المزراب الانجليزي ndash; الفرنسي الذي استعمر العالم العربي إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن العالم العربي على الأقل استفاد قليلاً من الاستعمار الأوروبي، الذي هدم جدار عزلة العالم العربي الذي بناه العثمانيون، وعزل العرب عن الحضارة الأوروبية والتنوير الأوروبي، وأدخلوا للعالم العربي أفكار الحرية والحداثة والتنوير، وإن كان ذلك مقابل ثمن غالٍ.
وخلال أربعة قرون من الاستعمار العثماني، قام العثمانيون بقمع ومطاردة وسجن وقتل كل من كان يطالب بالاستقلال العربي والخبز والسلام والحرية. وكان آخر هذه المجازر ما تم في بيروت في 1915 حيث نصب السفاح جمال باشا، الوالي العثماني المشانق لزعماء الاستقلال العربي في بيروت، فيما سُمّي بعد ذلك بـ quot;ساحة الشهداءquot;، وأعدم فيها 21 من الزعماء السوريين واللبنانيين. ومارس quot;جمال باشاquot; سياسة قمعية في الفترة من 1915م حتى 1917م ضد الوطنيين الشوام. كما طارد الحكم العثماني المثقفين الليبراليين الشوام وأضطرهم إلى الهروب إلى مصر كشبلي شمّيل، وفرح انطون، وجورجي زيدان، وآل تقلا(الذين أسسوا جريدة الأهرام في القرن التاسع عشر)، ويعقوب صروف مؤسس المجلة العلمية الشهيرة quot;المقتطفquot;، وعبد الرحمن الكواكبي مؤلف(طبائع الاستبداد) الذي ك
أورهان باموك |
تبه بوحي من الاستبداد العثماني، وخاصة فترة السلطان عبد الحميد الثاني، الذي يقال أنه دسَّ له السمَّ في القاهرة. كما نفى الأتراك مجموعة من المفكرين العرب التنويريين من بلادهم ومنهم شكيب أرسلان(أمير البيان). ولم تقم الدولة التركية بالحوار مع كل هؤلاء الزعماء والمثقفين والمفكرين، بل هي استخدمت أشد وسائل العنف والقهر، معهم لكونهم كانوا يطالبون بالخبز والسلام والحرية.
هل السلطان أردوغان على خطى آل عثمان؟
مشكلة حزب العمال الكردستاني PKK التي تتعرض لها تركيا الآن، امتحان كبير واختبار عسير لمدى مرونة وشفافية تركيا الجديدة بقيادة quot;حزب العدالة والتنميةquot;، الذي نال قسطاً لا بأس به من أصوات الكرد في الانتخابات التشريعية الأخيرة، دفعته إلى الظفر برئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، بعد وعد الكرد بشتى الوعود الإصلاحية والتنموية والتعليمية والصحية، في المناطق التي يعيش فيها الكرد عيشة ضنكة. فحزب العمال الكردستاني وقادة الكرد في كردستان العراق يناشدون دولة quot;حزب العدالة والتنميةquot; وحكومته الحوار والتفاوض بخصوص مطالب الكرد في تركيا وكان آخرها إعلان الزعيم المناضل عبد الله أوجلان أنه مستعد لقبول أي حل ديمقراطي للصراع بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني. وقال أوجلان في بيان موجه للحكومة التركية: quot;حزب العمال الكردستاني لن ينتهي.. أنتم ترتكبون خطأ. اقترحوا مخرجاً ونحن مستعدون لقبول أي حل ديمقراطي من أي نوعquot;، كما أعلن ذلك في البيان الذي سلّمه لمحامييه الذين زاروه هذا الأسبوع للمرة الأولى منذ شهر في سجنه بجزيرة quot;ايمراليquot; جنوبي اسطنبول، حيث يقبع رهن الاحتجاز منذ اعتقاله عام 1999.
فهل يستجيب سلطان القرن الحادي والعشرين أردوغان لنداء السلام والحوار، وهو الذي يسعى الآن بكل ما أوتي من عزم وتصميم ودبلوماسية إلى الانضمام إلى اتحاد السلام والحرية(الاتحاد الأوروبي)؟
فهل تدفع معطيات العصر الحديث، وتبدل القيم السياسية نحو الأرقى والأمثل والأنبل، في النهاية أردوغان إلى طاولة الحوار لأول مرة في تاريخ تركيا القديمة والحديثة، وتكسر التقليد السياسي العثماني في مواجهة حقوق الشعوب ومنها الشعب الكردي بحد السيف وقطع الألسنة فقط.
السلام عليكم.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات