أثار الخطاب الأخير لحسن نصر الله في 'يوم القدس' - وكان المفروض أن أضع أمام اسمه مجموعة من الصفات الدينية التبجيلية وكذلك بعد اسمه الذي يُلحق دائماً بعبارة 'نصر الله'. و'نصر الله' ليس اسم عائلته ولكنها كُنية دينية تبجيلية لاحقة لاسمه. كما أن 'السيّد' و 'سماحة' كنية دينية تبجيلية سابقة لاسمه - عدة شجون في نفسي. فهذا الخطاب لا يختلف عن الخطابات السياسية السابقة، ذات النتائج والطروحات القطعية، التي لا تحتمل الشك أو الجدل أو المغايرة، مثلها مثل النصوص الدينية الأخرى، ذات الحصانة النقدية والقداسة اللاهوتية، والتي ينأى بها عن النقد والجدل والمغايرة، ولا يخضعها للتمحيص البياني والمعرفي والتاريخي، ولا يضعها تحت مناظير مختبرات اللغويات، ويعزلها عن كل هذا، ويضعها فوق كل هذا، كمنتج وكمنطوق إلهي مقدس، لا يخضع لتمحيص وتفصيص البشر مهما أوتوا من العلم والمعرفة.
ففوق كل ذي علم عليم.

نصوص البشر الإلهية المقدسة
ومن خلال ذلك، استمد رجال الدين وفقهائه على مدار العصور، قداسة نصوصهم وتعاليها، من قداسة النص الإلهي وتعاليه، حين تماهت نصوصهم مع النصوص المقدسة، وأصبحت جزءاً منها، بل واختلطت بها، بحيث لم يعُدْ سواد الناس من العامة يميزون بين الإلهي المقدس، وبين الفقهي البشري المقدس. بل إن العامة من الناس في مختلف العصور، كانوا يأخذون نصوص الفقه البشري المقدس أخذاً أشدّ من أخذهم للإلهي المقدس. وقد شهد التاريخ الإسلامي على مر عصوره، كيف أن الفروض والظروف السياسية، قد أرغمت بعض الفقهاء على أن يأتوا للناس بأحكام سياسية خاصة، لم يأتِ بها النص الإلهي المقدس، وأن يؤمنوا بهذه الأحكام السياسية ويتبعونها، إيمانهم واتباعهم للنص الإلهي المقدس. ومن هذه الأحكام قولهم :' أطع ولي أمرك ولو جلد ظهرك، وسرق مالك'. وهو الحديث الموضوع، الذي أُلصق بقائمة الأحاديث النبوية، لكي تُعطيه قوة القداسة الإلهية.

السياسي الديني يتلقى تعليماته بالإيميل الإلهي

هل ابتعدنا عن موضوع عنواننا الرئيس؟
لا لم نبتعد.
وكانت هذه المقدمة لازمة لكي نصل إلى قداسة النصوص والأفعال التي يقوم 'الفقهاء' السياسيون وعلى رأسهم حسن نصر الله.
فكما قلنا قبل قليل فإن الخطاب الأخير لحسن نصر الله لا يختلف كثيراً عن نصوص خطاباته السابقة من حيث إحاطاتها بغلاف وهالة من القداسة الإلهية، ومن حيث أنها لا تُناقش، ولا تخضع للنقد السياسي كنصوص مقدسة، ولا يُحاسب صاحبها كأي مسؤول سياسي آخر. فحسن نصر الله الآن في لبنان هو المسئول السياسي، الذي لا يستمد قراراته السياسية الكبيرة والصغيرة من المؤسسات الدستورية أو من الشعب اللبناني، وإنما تأتيه القرارات بالإيميل الإلهي من السماء. وكل ما يفعله في السياسة اللبنانية لا علاقة له بالأرض، وإنما فقط علاقته بالسماء مباشرة.


هو السيّد (الإله الأرضي) ونحن العبيد
فإعلانه الحرب (غزوة الوعد الصادق) على إسرائيل في يوليو 2006، لم يكن بقرار من المؤسسات الدستورية اللبنانية ndash; كما هي العادة في الدول الديمقراطية - وإنما كان بقرار من السماء (ربما تعني السماء هنا القرار السياسي الإيراني- السوري). لذا، فهو لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون (كما جاء في النص المقدس). وهذه صفة من صفات الله، الذي يَسأل عباده عمّا يفعلون، بينما العباد لا يسألون الله عمّا يفعل، وحتى عندما يُكفِّر الكافرين. وقد سبق لحسن نصر الله أن كفَّر معاوية بن أبي سفيان، واعتبره متآمراً على الإسلام، فلم تقم قائمة فقهاء السلطان، أو فقهاء الشيطان عليه.
هذه الصفة الاستجوابية الإلهية تنطبق على شخصية السيّد حسن نصر الله (لاحظ هذا اللقب 'السيّد' الذي ينسبه إلى آل البيت، دون سند تاريخي مبرَر، والذي يُضفي عليه مزيداً من القداسة والحصانة الدينية، وعدم خضوعه للمساءلة السياسية أو حتى الدينية) والذي يزيد حسن نصر الله قداسة دينية/سياسية كأمين عام لحزب الله (لاحظ أن هذا الحزب هو حزب الله، الذي لا يُحاسب ولا يُعاقب. فمن أراد أن يُحاسب أو يُعاقب حزب الله، فكأنه يُحاسب الله عزَّ وجلَّ ويعاقبه، وهذه خطيئة كبرى في تاريخ العقيدة الدينية البشرية).


'الوعد الصادق' وعَدَ فصَدَقَ
في كل خطاب يلقيه حسن نصر الله على أتباعه لا يلقى منه غير التبجيل والمزيد من القداسة، حتى ولو كان هذا الخطاب دعوة لإحراق لبنان أو تدميره، أو قتل شعبه، كتلك الخُطب التي ألقاها بعد حرب تموز 2006 (عملية الوعد الصادق، الذي وعد بها نصر الله بتدمير لبنان وصدق وعده)، وأدّت إلى تدمير لبنان معمارياً واقتصادياً وسياحياً وسياسياً كذلك على النحو الذي رأيناه، وخسارته لأكثر من 15 مليار دولار، وتشريد آلاف العائلات، دون تحرير شبر واحد من الأرض اللبنانية، ودون استعادة سنتيمتر واحد من أرض العدو، والاكتفاء بالنصر الإعلامي، على طريقة عبد الناصر في حرب السويس 1956.

الإله السيّد الذي لا يُسأل عمّا يفعل
ورغم هذا فلم يجرؤ أحد في لبنان، أو في العالم العربي، على محاكمة نصر الله وسؤاله عمّا فعل في لبنان من حرائق وتدمير وخسارة المليارات من الدولارات. فهم يُسألون عمّا يفعلون، وهو كالآلهة، لا يُسأل عمّا يفعل. في حين أن المسئولين الإسرائيليين من عسكريين وسياسيين كانوا عُرضة للحساب والعقاب، نتيجة حرب تموز 2006. وكذلك كل من أشعل حرباً أو اشترك في حرب، أو سبب دماراً لبلده، ما عدا القادة والزعماء العرب الذين هم كالآلهة أيضاً، بحيث لا يُسألون عمّا يفعلون.

وحتى قبل هذه الحرب المدمرة، هل سُئل حسن نصر الله عمّا فعل ويفعل في لبنان من استيراد أسلحة، وبناء ميليشيا قوية، وامتلاك أكثر من عشرين ألف صاروخ، وإهمال وتجاهل وجود دولة لبنانية، وبأنه هو القادر وحده على التصدي لإسرائيل، واعتبار حزب الله جزءاً من التسلط والهيمنة الإيرانية ndash; السورية على لبنان ومقدراته.
ومن خلال هذا كله، بنى حزب الله، وبنى حسن نصر الله لنفسه شخصية إلهية أسطورية، وأخذ أتباعه ومعهم الإعلام اللبناني والعربي، في تضخيم هذه الصورة الأسطورية الإلهية، وصبغها بصبغة القداسة التبجيلية الدينية، بحيث أن برنامجاً فكاهياً (بس مات وطن) في قناة LBC اللبنانية، تناول شخصية السيّد إله الأرض (حسن نصر الله) قد أدى إلى مظاهرات وحرائق واحتجاجات في الشارع اللبناني من قبل عناصر حزب الله، واعتذار من قبل محطة التلفزيون اللبنانية، وكأن الأمر قد طال ربَّ العزة والجلال أو أحد رُسله.


أسطرة شخصية السيّد الإله
وهذا كله ما يجعل المعلقين في الإعلام العربي، يأسطرون شخصية حسن نصر الله، ويرفعونها إلى مقام الآلهة في مجتمعات دينية متشددة، ليس لها من تراث تتكئ عليه غير هذا الدين الذي أصبح عِلْمها وعَلَمها، وأخلاقها، وسياستها، واقتصادها، وصناعتها، وزراعتها، وأدبها، وفلسفتها، وكافة جوانب حياتها، وحضارتها. ومثال هذه الأسطرة، ورفع شخصية حسن نصر الله إلى مرتبة الألوهية والقداسة الدينية والسياسية ما يقال في هذا الإعلام من أن:
' السيّد حسن نصر الله، ذلك الرجل الشامخ، القابض على جمر الحق والحقيقة، الصابر في عرينه على تفاهات بعض شركائه في الوطن، المقاوم للإسرائيلي الغاشم، ولبعض اللبناني المهرج والمتباكي كذباً وزوراً. وفي كل خطاب من خطاباته لا تستطيع أن تمنع عبرتك من العبور إلى وجنتيك عزة وشموخاً، ولا تستطيع إلا أن تشعر بالفخر والكرامة والإباء، التي نحن أحوج ما نكون إليها في مثل هذا الزمان.
الأمين العام لحزب الله حين يتكلم في لبنان، المخلوقات العجيبة تختفي ويختنق صوتها، بل تتقزم إلى درجة الذوبان، ولقد أصاب كبد الحقيقة عندما قال لمن ينتقد ويشكك في مصداقية حزب الله: من أنت؟
السيّد حسن: ظلمك من قال إنك سيد المقاومة فقط، بل أنت حقيقة سيد لبنان كل لبنان، لبنان المقاومة والممانعة، والعز والكبرياء، لا لبنان الذي يدار من قبل السفراء وتهريج البعض فيه.
إلى الرجل الذي هو أشرف وأرفع وأرقى وأنقى وأصفى وأطهر وأخلص وأكبر من أن يجرؤ أحد على اتهامه في خلفيته الوطنية كل المحبة والاحترام.

أصنام الجاهلية الثانية
وهكذا عاد العرب من جديد إلى أصنامهم في الجاهلية، يعبدونها، ويقدسونها، وينتصرون لها، دون أن يجرؤ أحد على على نقدها، ومحاسبتها، أو عقابها على ما ترتكبه من أخطاء وآثام، فهي كالحجارة أو أشبه بالحجارة.
أليس العرب الآن في جاهلية أكثر تخلفاً، وأشد ظلاماً من جاهليتهم الأولى، قياساً إلى تقدم المجتمع البشري في الماضي والحاضر؟
السلام عليكم.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية