-1-

بالأمس رحل القصاص والروائي، والكاتب الليبرالي السعودي عبد الله جفري. وورحيل عبد الله جفري بالأمس، خسارة كبيرة لليبرالية

رحيل كاتب الحياة الجائعة
السعودية المتمثلة بالدرجة الأولى بالدفاع عن المرأة وحقوقها ووجودها، وبمساندة الحركة النسائية العربية، والحركة النسائية السعودية على وجه الخصوص.
فمنذ أكثر من أربعين عاماً، ومنذ أول قصة قصيرة كتبها، أثار الجفري قضية المرأة، وشجونها، وحريتها، وعلاقتها مع الرجل. وهو بهذا، يكون المؤسس للكتابة الفنية (قصة ورواية ومقالة) عن تموضع المرأة وهمومها في الجزيرة العربية، وفي السعودية بالذات.

-2-
فمنذ البدايات الأولى، وقبل أكثر من أربعين سنة، كانت المرأة بالنسبة للجفري همّاً جميلاً، ينام على وسادته. ثم تحوّلت في مرحلة من مراحلها إلى سيف يذبحه. فقد مرت المرأة في أدب الجفري بطورين: طور الهمِّ الجميل، وطور السيف القاطع. في حين أن المرأة في شعر نزار قباني- الذي يعتبر الجفري المثيل القصصي والروائي له في السعودية ndash; قد مرّت بأربعة أطوار: طور وردة في عروة الثوب، وطور خاتم في الإصبع، والطور الثالث هَمٌ جميل ينام على وسادة، والطور الأخير سيف يذبح.

-3-
خلال الأربعين سنة الماضية، التي قضاها الجفري (رحل في الثالثة والستين من عمره) يكتب القصص والروايات والأعمدة الصحافية اليومية، لا يكاد يمضي يوم على الجفري، دون أن يكتب عن المرأة، وفي المرأة، وللمرأة.
فهو تارة يعتبرها أماً يولد من حبها الرجل. وتارة يعطيها طابعاً كونياً، كما فعل من قبل الشاعر الفرنسي العظيم لويس آراجون في حبيبته quot;إلساquot;، باعتبارها منبع الخصب.

-4-

وعبد الله جفري كان يعيش دائماً هاجس فهم سر الكون، وامتلاك هذا السر، والارتقاء به.

والمرأة كانت بالنسبة للجفري سراً من أسرار هذا الكون. فهي الحياة. وهي المعرفة. وهي رمز للطوفان والخلاص، كما كانت كذلك بالنسبة لقيس بن الملوَّح، ولأبي عبد الله، آخر ملوك غرناطة.

-5-
كان الحب يعني للجفري الكرامة، أو الوعد بالكرامة.
وكان قلب عبد الله جفري قلباً عاشقاً دائماً، حتى وهو في الستين من عمره.
وكان الجفري عاشقاً في العشرين، والثلاثين، والأربعين، والخمسين، والستين. ولو عاش حتى المائة لكان أيضاً العاشق الولهان في السبعين، والثمانين، والتسعين، والمائة أيضاً. فقلبه كان العشب المتجدد، الذي لا يَصْفَر.

-6-
كان الحب يعني للجفري علامة لعودة أبدية الأشياء، وتوكيداً للذات المعذبة، في ابتداعها وجوداً جديداً.
إنه قياس المجهول.
إنه تشابك الزمني في اللازمني.
وهو الحياة والموت.
لذا، فعندما مات الجفري، كان قد ذهب من الحب إلى الحب.

-7-
لم يكن عبد الله الجفري كاتباً سعودياً محلياً فقط في عصر لم يكن فيه انترنت، ولم تكن فيه فضائيات. فقد كان من الكتَّاب السعوديين القلائل الذين كسروا quot;صَدَفةquot; المحلية، وفضّوا شرنقتها، في معالجته لقضايا الأدب والفن والحياة، كما قال عنه الناقد الراحل رجاء النقاش. ولكنه ظل وجهه وقلمه رغم ذلك، مُعفّراً بتراب الصحراء وهمومها. فسيظل أدب الجفري وثيقة حياتية في الخليج العربي، وفي السعودية على وجه الخصوص.
فإذا كان تاريخ مصر المعاصر، يُقرأ من خلال الروائيين المصريين المختلفين، فإن الحياة الخليجية يمكن أن تقرأ في جانب منها، من خلال أكثر من أربعين عملاً قصصياً وروائياً خلَّفها لنا الجفري، ومن خلال آلاف الأعمدة الصحافية التي كتبها في الصحافة الخليجية والعربية.

-8-
ولو عاش الجفري في فضاء أكثر حرية، وأكثر انفتاحاً وانطلاقاً، مما كان عليه الحال، لقدم لنا شهادات أكثر وضوحاً وعمقاً مما ترك لنا. فقد كان الجفري، كما قال عنه أنيس منصور، quot;كاتباً يكتب، وهو يتلفّت وراءه، ويخشى أن يسمعه أحد، أو أن يراه أحدquot;.
لقد كانت الحرية هاجس الجفري الدائم، وكانت أزمة الحرية بالنسبة له جزءاً من أزمة المرأة. وكان يردد مقولة المفكر الفرنسي شارل فورييه، بأن تقدم مجتمع ما وانفتاحه، يُقاس بمدى حرية المرأة فيه.
فحرية المرأة في أي مجتمع، هي البارومتر للحرية العامة.
نطلب للجفري ولقلبه، الذي توقف بالأمس عن نزيف الحب، الراحة قليلاً، من شقاء ما عاناه.
السلام عليكم.