في إحدى الصور، يبدو محمود أحمدي نجاد (28 اكتوبر 1956 ...) في لحظة ذوبان كلي وهو يقبّل يد آية الله علي خامنئي، وكانت يده اليسرى تحضن سجلاً أخضر كبيراً، على حين كان الرئيس السابق محمد خاتمي ينظر إلى المشهد ويسرّ في نفسه شيئاً ما تجاه الرجل الطَّموح. وفي مقابل ذلك، فإن صاحب السجل الأخضر لم يكن يكترث بتلك النظرة. نجاد الذي ما ارتدى العمامة واكتفى بقميص عارٍ من الكرافيته، وخاتمي الذي يركز عمامته بانحناءة إلى الوراء، ونجاد الدكتور في الهندسة والتخطيط المروري وخاتمي الدكتور في علم الاجتماع، هما مدرستان مختلفتان في السياسة الإيرانية.
نجاد، هو ذلك السياسيّ الحازم، المشبع بقيم الفكر الراديكالي للثورة الإيرانية، والمؤمن إيماناً مطلقاً بقدرتها على قيادة الجماهير وإيجاد الحلول الشافية للمشكلات الداخلية التي أعقبت الثورة، والمؤمن كذلك بقدرتها على مواجهة أعدائها في الخارج. عندما صعد نجمه، كان خاتمي يسعى جاهداً إلى العمل على فلسفة قيم الثورة الإيرانية والسعي إلى دمج تلك القيم بمنظومة القيم الإنسانية. كان أقرب إلى صورة الفيلسوف منه إلى صورة الرئيس. هذا المأزق، أدركه قادة الثورة المتشددين، وأدركته الجماهير المتشبعة بقيم الثورة، والمتطلعة إلى رئيس يقترب من ما تؤمن به ولا يجنح إلى عالم من المثل المفترضة والمجردة. كان نجاد يستثمر روح الشارع الإيراني، على حين كان خاتمي يتطلع إلى ما وراء الثورة؛ إلى العالم إذ يحمل بيدٍ فلسفة الثورة وبيدٍ أخرى حمامة السلام، نجح في الخارج لكنه أخفق في الظهور بالزي الذي تريده الجماهير لا الزي الذي يريده العالم. عرف أحمدي نجاد من أين تأكل كتف الخاتمي، فاتجه صوب الجماهير والقيادات المنسجمة مع إيقاعها، فكسب الجولة، وفاز برئاسة الجمهورية الإسلامية.
أحمدي نجاد، ذو الابتسامة الإيرانية المحضة، التي تضمر الزهو والتحدي الأقصى، وأحمدي نجاد ذو الثياب البسيطة التي بوسع أي إيراني أن يرتديها، تلك الثياب المطيبة بطيب الزهد في التراث الشيعيّ، هو سياسيّ ماكر، ومكره موجّه للداخل والخارج في آنٍ. كيف؟.
للداخل، يصدّر هذه الصورة الرئاسية: المتواضع، رجل المشكلات اليومية [ قرأتُ في موقعه الالكتروني كيف يجيب ويتحاور مع الناس البسطاء ويتبنى مقترحاتهم ويطبقها] ، المحافظ على قيم الثورة الإيرانية [ مرجعيات خطابه السياسي تتجذر أفقياً مع فكر الثورة الإيرانية]، المتحدي الذي يستثمر الغضب الفطري في الذات الإيرانية [ بلاغة القوة التي تنزلق فوق لسانه في كل محفل].
للخارج، يصدّر هذه الصورة الرئاسية:
1- صاحب الأوراق الإقليمية القوية [ سورية، لبنان، فلسطين، العراق، اليمن، معظم دول الخليج، بعض الدول العربية ولاسيما الأفريقية، بعض دول العالم].
2- الشاك بمسلمات الغرب[ تساءلَ نجاد في مؤتمر فلسطين تساؤلاً أثار حنق اليهود ومناصريهم في كل العالم، إذ قال: هل وقعت الهلوكوست فعلاً أم لا؟. فإذا كان ذلك حقيقةً فلماذ لا يسمح بالبحث عن ذلك في الغرب؟. ولماذا يدفع الشرقيون ولاسيما المسلمون ثمنها؟. لماذا لا تسمح الدول المسؤولة عن ذلك بإنشاء الدولة اليهودية فوق أراضها؟.].
وبسبب هذا التكتيك السياسي الذي يؤديه نجاد، فإنه فاز بثقة مرشد الثورة الإيرانية لتجهيز نفسه لدورة رئاسية ثانية. ولاشك في أنها ستكون مرحلة حاسمة في تاريخ إيران التي تواجه تحديات عديدة، وتساهم في خلق مشكلات عديدة في الشرق الأوسط. التدخل الإيراني في عدد من الدول الإقليمية وغير الإقليمية، بات لعبة مكشوفة، أو تكتيكاً سياسياً تمارسه إيران لعدة غايات، لعل في مقدمتها الصراع مع الولايات المتحدة، والتطلع الإقليمي نظراً لخوفها التاريخي من جيرانها العرب ونظرتهم غير الودية لها. ويجيد أحمدي نجاد دور الرئيس الذي يعرف كيف يقتنص الفرص، فعلاقته مع روسيا تسير على النحو الآتي: تستغل إيران الخلاف الروسي الأمريكي للمضي قدماً في تطوير برنامجها النووي، على حين تتخذ روسيا من الخلاف الإيراني الأمريكي مناسبة لابتزاز أمريكا في بعض الملفات العالقة بينهما ولاسيما المشكلة الجورجية التي برزت في المدة الأخيرة.
إن الولايات المتحدة الأمريكية، باتت تتوجس خيفة من إعادة تطبيق طريقتها الفاشلة بتغيير النظم في الشرق الأوسط. ولاشك في أن أحمدي نجاد يعيد صورة صدام حسين ثانية أمام الإدارة الأمريكية. وكفة ميزان الخسائر التي جنتها أمريكا من تغيير النظام السياسي في العراق، أثقل من كفة الأرباح. ولا تريد الولايات المتحدة أن ينقلب السحر على الساحر في استراتيجيتها لمحاربة الإرهاب، وتبنيها ما عرف بسياسة: الضربات الاستباقية، التي أحد وجوهها تغيير الأنظمة الدكتاتورية. فهذه السياسة، باتت تُستغَل لتأليب الرأي العام على السياسة الأمريكية، وتُستَثمر من قبل الجماعات المتطرفة لمواصلة ضربها المصالح الأمريكية. ولأول مرة، تجد الولايات المتحدة نفسها في وضع حرج جداً على الصعد كافة: تزايد المعارضة الداخلية للحرب وتأجيجها ثانية في حملة الانتخابات الأمريكية، وانشقاق حلفائها مابين معارض ومؤيد، وخسارتها التأييد الذي كانت تحظى به من قبل الأنظمة الدكتاتورية بعد مجاهرتها بالسعي إلى تغيير هذه الأنظمة بادئةً بالعراق في محاولة للربط مابين القمع الدكتاتوري والإرهاب.
وفي ظل هذا الصراع، تعتقد الزعامة الإيرانية أن محمود أحمدي نجاد، أكفأ من غيره لقيادة البلد على نحو يحافظ على التطلعات الإيرانية الأيديولوجية والإقليمية. ومن جهته، فإن الرئيس نجاد يبدو بارعاً في تأدية الدور الذي أوكلته إليه الزعامة الإيرانية. خطاب متشدد موجه إلى خصوم إيران الخارجيين وفي مقدمتهم أمريكا وإسرائيل، وخطاب عاطفي موجه إلى الشعب الإيراني الذي يهتز لبلاغة التحدي واللعب على وتر العاطفة الدينية.