لا أظنّ أن إحساس القارئ اللبيب، يُخطئ في معرفة: مَن المقصود بالأعمى المبصر في تاريخنا الحديث؟. الحقائق العلمية في البحث والتفكير في الثقافة العربية بعد طه حسين (1889- 1973) لا يمكن أن تتطابق مع الحقائق قبله. لا أقصد أن الواقع الثقافي بعد طه قد تغيّر جذرياً، لكن من المؤكد أن قيمة أي منجز ثقافي سوف تخضع قيمتها لمقياس التحرر والشك في المسلَّمات. وكان طه قد عمل على تحرير عقل النهضة العربية، من الوقوع في عبودية عاملين في أية ممارسة ثقافية وهما: القومية، والدين. طبعاً مقارعة هذه العبودية، أكبر من طاقة طه، إنها مهمة تحتاج أن تنهض بها مؤسسات وعقول، لكن هذا الأعمى النحيف الجسد ذا العقل الخارق اضطلع وحده بمهمة قلقلة الثوابت المقدسة في الثقافة والمجتمع. وهكذا، فإن البحث العلمي الموثوق بمقدماته ونتائجه يجب أن يستند إلى فرضيات المحاججة العقلانية المستقلة، التي قد تصل إلى الشك في كل المسلمات بغية إعادة البناء مرة أخرى.
تكتسب المُسلَّمة في البداية قوة الاعتراف بها نتيجةً لظروف سياقية تتعلق بالزمان والمكان، وبنفس المقدار الذي ساعد فيه الزمان والمكان على تمتين قوة المُسلًَّمة فإنه سوف يساعد على توفير عناصر الشك في منظومتها الدلالية وكل طاقتها التي تعمل بها وتؤثر. ويبدو أن طه حسين، قد نفذ إلى محاكمة المسلَّمات من خلال بوابتي الزمان والمكان. مفهوم الإسلام الذي اكتسب قوة دلالية مؤثرة وكاسحة في زمان ومكان معينيين، قد ألقى بظلاله الوارفة على كثير من الأكاذيب والتلاعبات والتزييفات ليقدَّم في طبق مقدس إلى جمهور ضمني وحقيقي في آن. رواية التاريخ وحبكها على وفق رؤية ومنظور إسلاميين، قد مارست قمعاً دائماً لرؤى ومنظورات غير إسلامية، تشبه كثيراً ما يجري الآن من فبركة التاريخ على وفق تصورات وأكاذيب ملفقة. طه حسين أراد أن يضع يده على الفبركة. هنا تحديداً، شفعت له قوة الباصرة أن يكون مبصراً يرى ما لا يراه الآخرون.
مع التزييف، تجد وثائق الحقيقة.
عليك أن ترهق ذاتك بالشك لتصل إلى الحقيقة، وتكشف التزييف.
طه حسين، كان مرهقاً بالشك فأربك مؤسسات التزييف والأقنعة الكاذبة.
وإذا كان القارئ الكريم، قد عرف الآن من هو (الأعمى المبصر)، فمن حقه أن يتساءل من يا ترى ذلك (المبصر الأعمى)؟. إن المشكلة التي تواجهنا باستمرار في ثقافتنا ومجتمعنا، هي ندرة الأول- أعني الأعمى المبصر- وكثرة الثاني. الأول يمكن تحديده عادة، لكن الثاني قد تحوّل إلى كناية عامة لكثرته وشيوعه وهيمنته على مراكز التفكير والسلطة معاً. إذن، ليس بالضرورة أن يكون المبصر الأعمى هو من وقف ضد فكر طه حسين من أمثال: الرافعي، أو الشيخ جاويش، أو الشيخ الغزالي، أو محمد فريد وجدي، ومحمد لطفي جمعة، وعبد المتعال الصعيدي، و... بل يمكن أن يمتد ليشمل كل أولئك الذين يجدون في هكذا نوع من الفكر معولاً يقوّض سلطتهم القائمة على تضليل العوام لضمان استمرار ذلك التسلط المقدس.
انقلاب طه حسين، لم يكن انقلاباً ثقافياً حَسْب، إنما هو انقلاب على طبيعة التفكير العربي في بدايات القرن العشرين. التفكير الذي لا يستطيع أن يتحرّر من عقدة البناء على المسلَّمات أو الافتراضات المسبقة، وليس بمقدوره أن ينسفها نسفاً تاماً. هذا النوع من التفكير كان يغضب طه حسين، ويجد أنه مرض اجتماعي قبل أن يكون مرضاً ثقافياً. وعلى هذا الأساس، كان من الطبيعي أن يتعرض إلى حملة مناهضة تدفع به وبمشروعه التنويري إلى خانة جاهزة ومعدّة سلفاً لهكذا نوع من التنوير، إنها خانة: التكفير. وبوسع القارئ الكريم، أن يبحث في قائمة التنويريين ابتداءً من رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك وانتهاءً بسيد القمني، وسوف يعثر عليهم مركونين في هذه الخانة المرعبة. إنها خانة طلقة الرحمة على هذا النوع من المفكرين والمثقفين. لكن لماذا هذه الخانة بالتحديد؟. إنها استعانة العقل العاجز بالقوة الباطشة. القوة التي تستمد جبروتها من الغيبيات المقدسة، ومن الطاقة الوجدانية الساذجة للمجتمع. هكذا هي فلسفة القوة دائماً، عند الدكتاتوريين، وعند المؤسسة الدينية الراديكالية التي لاتختلف عن مؤسسة الدكتاتورية سوى في شيء واحد هو أنها الأسوأ والأخطر على حياة المجتمع العربي. الجنوح إلى القوة، هو نوع من الهرب من معالجة القضية بالعقل. وبما أن مشاريع التنويريين عادة مشاريع عقلانية، فإن العجز أمام محاججة منطقها يقتضي ضرورة اللجوء إلى استعمال القوة.
الإضاءات التي أضاءها هذا البصير القادم من قرية الكيلو التابعة لمدينة مغاغة في صعيد مصر، لا يمكن أن تعدّ، فهو يعتقد أن أي تقدم للعلوم والفكر في العالم العربي لا يمكن أن يكون حقيقة متحققة إلا من خلال امتحان (آراء السلف) وإخضاعها إلى تجربة تمحيصية صارمة. وما تمحيص آراء السلف سوى طامة كبرى، تكشف الغطاء عن مهزلة العقل الثقافي المقدس الذي قادة المجتمع العربي عبر قرون. مجموعة ترهات غير إنسانية، أزهقت بسببها ملايين النفوس البريئة. أفكار نتنة تريد أن تلوث هواء الأرض وتقود العالم.
من المؤكد أن تبني طه لفرضية تمحيص آراء السلف، استفزاز كبير لثقافة مازال فمها يرضع من ثدي القيم السلفية المقدسة، التي أشكّ في أنها كانت سلفية خالصة بل كانت تلوذ بعباءة السلطان، وتحت يدي نصوص عديدة وذات خطورة عظيمة سأتناولها في مقالات لاحقة. عندما كان طه حسين يواجه بأسئلته الحرجة الواقع والمجتمع العربي وثقافته وتقاليده وتعليمه وطرائق تفكيره، كان الأزهر في قمة قوته ومرجعيته الدينية والثقافية والاجتماعية. طه اختبر الثقافة الدينية من داخل الأزهر، درس هنالك واكتشف مغالطات العلم الديني. طه خلق بلبلة بين طلبة الأزهر، وحوّل الهالة القدسية لأساتذته إلى موضع سخرية دائمة من بعض الطلاب المتنورين. طه الفاقد البصر في عينيه، كان يحمل بطريقة إعجازية عينين تقارنان باستمرار بين وضع وآخر، فكان أنْ قارن بين تلهف الطلاب لحصة الدرس لدى المستشرقين، ونفورهم من حصة الدرس لدى الأزهريين. طه قوي لا ينكسر أمام تعالي الأصوات ضده، يتخذ من جريدة أحمد لطفي السيد منبراً ليقارع الاتهامات والتهديد والوعيد الأزهري بالحجة البالغة والروح العصرية، والابتعاد عن التشنج والملاسنة. طه يشق طريق العقلانية النقدية بلا هوادة، يغرس الأسئلة والفرضيات الجديدة، فاستمعوا إلى صلابة الأعمى وحكمته الباصرة:
هذا النحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقاً منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقاً آخر سيزورّون عنه ازوراراً. ولكنني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث.
طه أصرّ على إذاعة ذلك النوع من البحث العقلاني بين طلابه ومريديه، ولما اشتدّ عَضُد فكره ومنطقه انطلق بهما إلى محافل الثقافة العربية ومنتدياتها. لا بل إنه تحوّل من الإصرار على الإذاعة إلى التصريح والمجاهرة بالشك فلسفة لاختبار مصداقية الحقيقة، انصتوا ماذا قال:
نحن بين اثنين: إمّا أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث والذي يتيح لنا أن نقول: أخطأ الأصمعي أو أصاب، ووفق أبو عبيدة أو لم يوفق، واهتدى الكسائي أو ضلّ الطريق؛ وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث. لقد أُنسيت، فلست أريد أن أقول البحث وإنما أريد أن أقول الشك.
إذن هو لا يريد المخالفة في البحث، إنما الشك في الحقائق، ومن حقه ذلك. وعبارته الأخيرة في غاية السخرية الأنيقة من عقول دُجِّنتْ على هضم ما يُقَدَّم إليها في طبق من ذهب. ولأن حساسية كلمة (الشك) في المخيال الشعبي متأتية من أنها تنطوي على جملة معان سلبية، بعضها ديني وبعضها الآخر أخلاقي، فقد عانى طه كثيراً في توضيح ما يتضمنه مفهومه من دلالة: الشك المعرفي. ومع أن القبول بهذه الدلالة، يفضي حتماً إلى مساءلة بعض الثوابت المقدسة، فقد تمسك طه بفرضيته حتى مات عليها.
أبصر طه سخافة الزخارف البلاغية التي يحتمي خلفها كتّاب فاشلون يَزِنون الثقافة بميزان القشور الأسلوبية المتواترة، فاختار لنفسه أسلوباً مشرقاً عصرياً قريباً من أسلوب الحياة البعيدة عن التصنع الزائف، فأثار بذلك حنق الملتفين ببردة الزخرفة.
أبصر طه أن الذين يبحثون في زمانه، إنما هم مجرد أيادٍ تكتب لا عقول تنطق. مجرد ألسنة تُكرِّر لا تُبدِع. مجرد ذاكرة تستعيد، لا تتمثل فتخلق. فازورَّ عما هم فيه مغرقون، واختار طريق العقلانية النقدية إذ لا يقبل بما قيل إنما بما يقول وينطق به العقل المُسائِل، العقل الذي يريد أن يعرف هو لا أن يُعرَّف به من قبل مُعرِّفين يختبئون خلف الكلمات.
أبصر طه عوز وافتقار الثقافة العربية إلى المنهج، لكن أي منهج ذلك الذي يعنيه؟. المنهج الذي يعنيه، لم يكن مجموعة وسائل تقليدية أكل الدهر عليها وشرب فأصبحت بفضلها كل البحوث ونتائجها متشابهة ولا فائدة ترتجى من ورائها، إنما المنهج عنده لم يكن سوى رؤية واكتشاف. وقد فتحت له هذه الرؤية أن يميط اللثام عن أوهام كثيرة في معتقداتنا وثقافتنا وحياتنا الاجتماعية والثقافية والفكرية.
أبصر طه أن الوعاء قد يخفي معايب ومهازل المخبوء فيه. الأزهر، الجبّة، القفطان، العمامة، البلاغة المقدسة، المسبحة، اللحى المخضبة، الألقاب الطنانة، الشهادات الجامعية التي نال أصحابها أعلى lt;lt; الأرقامgt;gt; المناصب الكبيرة من قبيل lt;lt; كرسي الأستاذيةgt;gt; و...و... هي مجرد أوعية لم ينخدع بها طه، إنما مدّ نظره إلى ما بعدها؛ أو بعبارة أوضح إلى عطائها وقيمة هذا العطاء.
أخيراً وليس آخراً، هل يحقّ لي أن أقول بأن طه حسين لم يكن أعمى، وإنه خدعنا بإغماضة من عينيه على حين كان يرقبنا عن كثب؟!.