إلى: مجنونةٍ أكثرنا عقلاً.

قبلَ أنْ أدعكَ عيني بأصابعَ مرتبكةٍ تستيقظُ الفوضى ويرتبكُ النهارُ..
أهبطُ من سريري بفكرةِ الأمسِ وكابوسِها..
أنظرُ عبرَ زجاجِ نافذتي إلى سماءٍ ملبدةٍ..
في أيةٍ سحابةٍ يتشكلُ وجهي؟..
في أيةِ أغنيةٍ عابرةٍ تختلطُ بصوتِ السيارةِ العابرةِ؟:

I just want you close
Where you can stay forever
You can be sure
That it will only get better
كلُّ شيءٍ يمرُّ عابراً..
المقيمُ يرحلُ والراحلُ يقيمُ..
في الخارجِ..
ثمةَ مصابيحُ خافتةٌ يهزمُها ظلامُ الليلةِ الماضيةِ..
ثمةَ وجهُ امرأةٍ يلتصقُ بزجاجِ نافذتِها..
هي والشجرةُ الثلجيةُ كلاهما تحملقُ في الأخرى..
قربَ رأسي كانَ كتابٌ مفتوحٌ..
مقطعُ المرأةِ المجنونةِ يفضحُ حكمةَ العقلِ..
الجنونُ مع المجنونةِ يُصلحُ عطبَ النهارِ عطبَ اللغةِ عطبَ الماءِ الأسودِ الذي ينزلُ في عينِ الحياةِ عطبَ الوردةِ الحائرةِ في اليدِ عطبَ اليدِ المغروسةِ في جليدِ الانتظارِ..
مقطعٌ يهبطُ معي من سريرهِ..
يتسلقُ فوقَ رقبتي..
ها هما قدماهُ تتأرجحانِ على صدري..
ويداهُ تعبثُ برأسي..
يغني ويرقصُ يموتُ ويحيا نصفٌ يجلسُ في حضنِ الشيطانِ ونصفٌ في حضنِ الملائكةِ..
نصفٌ يدخلُ تابوتاً نصفٌ يخرجُ بوردةٍ بيضاءَ..
ويتسلقُ فوقَ رقبتي ويعبثُ..
نسيتُ ماذا أفعلُ بعد أنْ هبطتُ من السريرِ..
تسمّرتُ أحكُّ رقبتي ونسيتُ تفاصيلي..
ليسَ لهذا الصباحِ قلبٌ تقولُ الأغنيةُ التي أسمعُها..
بدليل كلما أعلّمُ أصابعي أن تقولَ للمجنونةِ: وداعاً..
تنشغلُ بحكِّ مقدمةِ رأسي..
وبدلاً من أن تقضمَ ما تبقى من الوقتِ..
تصبُّ الشايَ في الكوبِ الأبيضِ لتخفّفَ من غلواء الشاي الداكنِ..
أتركُ الكوبَ ليبردَ قليلاً وأدخلُ إلى شاور الصباحِ..
جَرَحَ قِصَرُ الوقتِ ذقني مرتين..
فانشغلتُ ببعضِ دمي ونسيتُ تجانسَ ألوانِ ملابسي..
عندما وقفتُ أمامَ المرآةِ قبلَ أن أغلقَ بابَ شقتي وجدتني مثلَ مهرجٍ بألوان متنافرةٍ وكان الوقتُ يُنشبُ حرباً بين المفتاحِ في يدي وثقبِ البابِ سقطَ المفتاحُ على الأرض سقطتْ رغبتي في الخروجِ سقطتْ رغبتي في البقاءِ الذي خرجَ بقيَ والذي بقيَ خرجَ الأضدادُ تتعاركُ النهارُ يستحيلُ آلةً مكسورةً أسحبُ معي النهارَ وجثتَهُ وكلماتٍ مازالتْ تتمزقُ والهواءُ يجمعُها ويبعثرُها الهواءُ يتعاركُ مع أرنبةِ الأذنِ والأذنُ تتعاركُ مع صدى الكلماتِ الأخيرةِ يُستعادُ الصدى ويلدغُ:
لا لستُ مرتاحةً..
يركضُ القطارُ أمامي وألهثُ خلفهُ..
كلانا لا يلحقُ بالآخرِ
كلانا يحرقُ وقوداً بوقودٍ..
والطريقُ تنتهي وتستعادُ.. ونركضُ ولا نلتقي..
ها هما قدمايَ تنغرسانِ في الثلجِ والطريقُ يستحيلُ إلى هاويةٍ..
ومع كلّ خطوةٍ أتذكرُ شيئاً منسياً:
كوبَ الشاي فوقَ طاولتي..
الموبايل فوقَ سريري..
نظارةَ القراءةِ..
الرسالةَ التي كتبتُها لك:
وجهكِ في بيروتَ يلبسُ الحافاتِ الأولى للحربِ..
وفي بغدادَ ينامُ في يديهِ كأنهُ عينٌ خائفةٌ..
في متاحف برلينَ رأيتُكِ في مخطوطةٍ يقفُ قربها خمسةُ حراسٍ..
في لوحةٍ تتشاجرُ مع اللهِ..
في مسلةٍ تتجوّلُ في المتحفِ..
تقفُ على كتفِ كلِّ زائرٍ..
في بوابةٍ أسطوريةٍ هي ما قبلَ اللهِ وما بعدَ العقلِ العاطلِ
أهذي ومعي جنونكِ ومقاطعُكِ..
أهذي ونسيتُ قدميَّ وبوصلةَ الطريقِ..
وها أنذا في الشارعِ أمارسُ بروفات أن أكونَ معتدلاً فلا أثيرُ الشبهاتِ..
لكنَّ الخصومةَ بيني وبيني تأخذُ بيدي إلى شارعِ فيكتوريا..
مررتُ بتمثالِ الشاعر الساخرِ نيلز فرلين..
وقفتُ قربَ لسانِهِ وغفوتُ في نظرتِهِ الساخرةِ..
أردتُ أنْ أتعلّمَ كيفَ أوقفُ اضطرابَ هذا الصباحِ..
أوقفتُ كلَّ شيءٍ فيَّ ولم أوقفْ رقّاصَ ساعةِ الكنيسةِ الذي صعدَ فوقَ الساعةِ الثامنةِ..
لم أوقفْ هذهِ الموسيقى التي تعزفُ على وترٍ وتُقطّعُ وتراً آخرَ..
غيرّتُ طريقي مرتين حتى لا أصلَ إلى الصالةِ المنتَظَرةِ..
وبدلاً من الالتزامِ بالموعدِ ذهبتُ إلى البحيرةِ المنجمدةِ..
انشغلتُ قليلاً بحكمةِ السمكِ الذي يعيشُ تحتَ الثلجِ،
وبحكمةِ الطيورِ التي تغفو فوقَ الثلجِ،
وبحكمةِ القلبِ يرتجفُ مذعوراً من الثلجِ،
الثلجُ وساعةُ الكنيسةِ يجلدانِ نظرتي..
ويركضُ الوقتُ كأنهُ احترابُ الزمنِ بينَ النابِ والفريسةِ..
تركضُ الموسيقى على سطحِ البحيرةِ..
على صليبِ الكنيسةِ..
وتحتَ أقدامي..
وفوقَ الأشجارِ المنجمدةِ..
وكلما أقولُ وصلتُ أجدني أُغيّرُ وجهتي فلا أصلُ.