عبد الجبار العتابي من بغداد: في عالمنا الذي يركض مسرعا في اتجاهات الدنيا المختلفة، يقف الادب متفرجا تارة وراكضا معه تارة اخرى، وبين هذا وذاك نقف نحن متسائلين عن اسرار عديدة نرفعها على الطرق نحاول البحث عن اجابة للأسئلة التي تصدر من أفئدتنا، ومن تلك الاسئلة تتناثر فوق عيوننا اوراق بأشكال مختلفة، نجد بينها حكايات قصيرة وأخرى طويلة، ننظر اليها بعين وبعين اخرى ننظر للزمن المتقافز المدجج بالعولمة والالات والضجيج وكليبات الاغاني والفضائيات التي تخترقنا اينما حللنا، ومع كل هذا لا يسعنا الا ان نقف امام جنسين ادبيين لهما عالمهما الخاص وتأثيرهما هما القصة القصيرة والرواية، ولكن نتساءل: ما الذي تبقى لهما؟ وايهما يمتلك حظوة وخطورة ان صح التعبير حاليا وسط هذه الاشياء او لنقل اكثر تأثيرا، القصة القصيرة التي (لا تتجاوز بالحجم (عشرة آلاف كلمة) وتهدف إلى تقديم حدث وحيد غالبا ضمن مدة زمنية قصيرة ومكان محدود) ام الرواية التي لها حجمها و(تحتوي على العديد من الشخصيات لكل منها اختلاجاتها وتداخلاتها وانفعالاتها الخاصة)؟ من هنا وجدنا ان نقترب من الجواب من خلال استطلاع رأي اربعة من خيرة قصاصي العراق وروائييه.
وقفتنا الاولى كانت عند الكاتب احمد خلف الذي وضعنا امامه سؤالنا: ايهما برأيك اخطر الرواية ام القصة القصيرة ولماذا؟ فقال: - القصة القصيرة هي الاخطر، لانها تمتلك مقدرة على الوصول الى المتلقي بيسر لاتستطيع ولا يمكن للرواية ان تفوز بهذا، لأن القصة القصيرة تتمتع بميزة ليست المساحة السردية وحدها هي الشاخص في ذلك، انما ما تتمتع به من حرية في الصياغة والاقناع، بينما تعاني الرواية الكثير من العثرات في الطريق الى المتلقي، وقد تلمست ذلك بنفسي، وكثيرا ما اواجه عبارة اصبحت من المسلمات، (انني لم اقرأ الرواية الى حد الان، ولكنني قرأت القصة القصيرة لك يا استاذ)، ولكن قبل ان يجيب المتحدث معي، فأنني استطيع الحدس في ان الكثير من امثال ذلك المتحدش قد عانى ايضا من الرواية وقد تيسرت له الفرصة لقراءة اكثر من قصة قصيرة لكاتب واحد او عدد اخر من القصص لكتاب متعددين، تلك هي احدى امتيازات القصة القصيرة كنص يمتلك دفء اللحظة والدخول على الناس في موائدهم مع ان الرواية الان فازت بتسمية العصر انه عصر الرواية.
طه الشبيب، عبد الستار البيضاني، صلاح زنكنة وأحمد خلف |
وسألناه مرة اخرى:هل صحيح ما يقال ان القصة القصيرة مرحلية وان الرواية باقية للابد؟
فقال:- يعود هذا اصلا الى طبيعة الكاتب ورؤيته وتفكيره، فاذا كان قاصا آنيا ويريد ان يبلغ القاريء بما يمور من احداث على مستوى الواقع، فأننا سنجد ان القصة كتبت على اساس مرحلي، لكن الكثير من القصص تكتب حسب منظور القاص والذي يتمتع غالبا برؤيا أوسع من اليومي، أي يمتزج ما أسميناه اكثر من مرة المتعالي بالواقعي، وسأذكرك يا صديقي بقصة قصيرة للكاتب (وليم فوكنر) العظيمة (وردة الاميلي) التي لا أظن انها ستنسى يوما او تهمل يوما.
وقفتنا الثانية كانت عند الكاتب عبد الستار البيضاني الذي قال حينما طرحنا عليه سؤالنا: لااستطيع فهم كلمة (اخطر) من السؤال، لكنني سأفترض ان المقصودفيها التأثير، فهذا سيجنبنا الدخول في جدول المقارنة بين القصة القصيرة والرواية والتي غالبا ما توحي للبعض ان (القصة القصيرة) هي ابنة الرواية، ولا نريد الدخول في معمعة المصطلحات ومعانيها، لذلك نختصر الامر بالقول ان القصة الفصيرة جنس ادبي قائم بذاته وكذلك الرواية ويمكنك ان تدخل القصيدة والمقالة والمسرحية في احد طرفي المقارنة الواردة في السؤال، بدليل ان هناك ادباء عرفوا ككتاب رواية وغيرهم عرفوا ككتاب قصة قصيرة ومن النادر جدا ان تجد احدهم برز في كتابة القصة مثل بروزه في كتابة الرواية، بورخس مثلا، كاتب قصة قصيرة واشتهر بهذا الجنس الادبي، وماركيز اشتهر ككاتب رواية، صحيح ان اغلب الروائيين كتبوا قصة قصيرة لكنهم لم يبلغوا في مستواهم الفني وشهرتهم اقرانهم الذين تفردوا بكتابة قصة قصيرة ويمكننا ان نعقد مقارنة بين نجيب محفوظ ويوسف ادريس لنقع على الكثير من التفاصيل التي تصلح للمقارنة والتفحص ولا نجد في هذه الاجابة مجالا لايرادها، لكن الواقع الثقافي على مستوى العالم يمنحنا حقيقة مهمة على مستوى التلقي، فالروائيون اكثر شهرة من القصاصين، ويمكنك ان تستدل على ذلك من احصاء الفائزين بالجوائز العالمية مثل نوبل والغونكور وغيرها، والروايات اكثر انتشارا وقبولا من قبل القراء، وكذلك دور النشر تفضل نشر الروايات على نشر المجاميع القصصية، وينطبق الحال على الترجمة، حتى بالنسبة للاعمال العالمية تجد ان اعادة طبع الروايات اكثر منه اعادة طبع المجاميع القصصية مهما كانت معروفة ويمكنك ان تعقد مقارنة بين عدد طبعات روايات ديستوفسكي او تولستوي وعدد طبعات مجاميع تورجنيف، وهذا جعل الاعمال القصصية قليلة في المكتبات قياسا للرواية، وهذه المعطيات قد تعطينا القول بقوة انتشار وشعبية الرواية قياسا للقصة، وقد تبدو القصة القصيرة ومضة مهما كانت شديدة التوهج وبديعة الالتماعات لكن لاتلبث ان تنطفيء وتبقى في الذكرى مثل صدى على عكس الرواية التي تبدو وكأنها تترسخ وتعيش طويلا في الذاكرة مثلما تبقى طويلا في المكتبة او سوق الكتاب.
اما الكاتب طه الشبيب فقال: لاينبغي لمتساءل الخلط بين جنسين ادبيين، بمعنى ان الرواية جنس مختلف تماما عن القصة القصيرة برغم مشاطرة الاثنين لصفة السرد فالرواية ليست سردا لحكاية، هكذا ببساطة، انها مسألة لو صح لنا التعبير: (تأمل بصوت عال) اذن هي رحلة في التأمل واثارة الاسئلة ومحاولة الاجابة دون اجابة وسبر اغوار الوجود بكلمات معدودة، الرواية قراءة درامية لفلسفة الوجود وهذا يختلف تماما عن ما تعنى به القصة القصيرة فهي لحظة شعرية نعبر عنها بالنثر، ليست ثمة من متسع فيها لاي تأمل حقيقي بالوجود بل اقتناص مقطع شعري من الوجود.
ولكنني سألته عن علاقة المتلقي بأي منهما الاقوى فقال: ليس هناك من متلقي واحد لكلا الجنسين، فمتلقي الرواية غير متلقي القصة القصيرة، كلاهما مستعد لمهمته تماما، متلقي القصة لايتوقع من النص الا التأثير الشعري الذي ذكرته آنفا اما متلقي الرواية فهو مهيء للابحار طويلا في اللجج الفلسفية التي يقلبها النص الروائي
وقفتنا الرابعة كانت عند الكاتب صلاح زنكنة الذي اجاب قائلا: لايوجد في الادب شيء اكثر من شيء، القصة القصيرة جنس ادبي يختلف كليا عن جنس الرواية، كاتب الرواية امامه متسع للتعبير لضخ اكثر عدد من الشخوص في مسار الاحداث، واعتقد ان التأثير او الخطورة يعتمد على شيئين: الكاتب نفسه، ربما تكون القصة التي يكتبها اهم من عشر وروايات، وربما رواية تتناول حقبة تاريخية او مسألة اجتماعية تكون ذات اهمية قصوى ربما اهم من عشرات المجاميع القصصية، اي المبدع وكيف يصنع، اما الشيء الثاني فهو يعتمد على ذائقة المتلقي، واضاف زنكنة: ارى ان الزمن اختلف، ففي زمن ديستوفسكي كان الناس ينتظرون الجريدة التي ينشر بها فصل من رواية وتحديدا الطبقة المتعلمة، وكانت هذه الفصول مثل الافلام والمسلسلات، هي جملة اصوات يصوغها الكاتب آنذاك، اما الان في عصر الاتصالات والسرعة ما بقي هذا المتلقي، من يقرأ رواية من (800) صفحة، لكي ينجح الكاتب الروائي عليه ان يحسب حساب الزمن للمتلقي، القصة القصيرة تقرأ بالسيارة، انا عندما ارى رواية حجمها كبير اتشاءم، انا اميل لكتابة القصة القصيرة وارى انها اكثر اهمية من كتابة الرواية من ناحية الجانب النفسي.
التعليقات