الثقافة العراقية غصن يتكسّر(1)

بحجة المحافظة عليها من التدمير، تمّ الاستيلاء على البيوت البغدادية التراثية، ذات الطراز المعماري المميّز، التي يعود تاريخ بنائها إلى مطلع القرن الماضي. وهذه البيوت ذات ريازة محلية تكشف عن نمط الحياة البغدادية في تلك المرحلة، وتكشف كذلك عن نمط الثقافة والعادات الشعبية في المجتمع العراقي. في البداية، هجم السراق عليها ونهبوا مقتنياتها، بعد ذلك استولت عليها الأحزاب والجمعيات المشبوهة، وبعضها حُوِّل إلى دوائر حكومية معرضة إلى التفجير في أية لحظة. وقد استطاعت الشاعرة العراقية أمل الجبوري المتزوجة من شخصية متنفذة في وزارة الدفاع أن تحوّل بيتين شهيرين من هذه البيوت التي تقع في شارع حيفا الذي شُيِّد في الثمانينيات على طراز معاصر، إلى مؤسسة ثقافية هي: اتحاد ديوان الشرق- الغرب/ فرع العراق [ وكان هذا الاتحاد قد أسس في مدينة برلين في 26 حزيران/يونيو سنة 2001]. وهذه المؤسسة كما هو معروف تُموّل من ألمانيا، إذ قام بافتتاحها السفير الألماني في 9 آذار/مارس 2004.
إنّ شارع حيفا، الذي يعدّ تحفة من تحف العمارة المعاصرة، ويتوسطه مركز صدام للفنون، الذي نُهبت كنوزه من اللوحات التشكيلية والتحف والمنحوتات إبّان هجمة الحواسم الشهيرة السيئة الصيت في 9/4/2003، يتعرض الآن إلى تشويه في معالمه الجمالية، إذ تتلوث واجهاته الأمامية وجدرانه بموجات من الملصقات والصور والرايات والشعارات المكتوبة بألوان متعارضة وبخطوط سيئة، وتحمل مضموناً مخرباً للوحدة الوطنية بين أبناء هذا البلد.
ومع أنّ مركز صدام للفنون، أصبح الآن من ممتلكات وزارة الثقافة، وتستقر فيه مجلة جلجامش، لكنه لم يعد مكاناً تعرض فيه نفائس الفن العراقي الذي يحظى بمنزلة عربية وعالمية متميزة. وأصبح الفنانون العراقيون، يتذكرونه بحسرة وألم.
وعلى مقربة من هذا المركز، يقع المتحف الوطني الذي تعرض إلى هجمة بربرية سُرقت كنوزه وحُطِّمت على مرأى ومسمع الجنود الأمريكان. بيد أنّ ثمة تكاسلاً وإهمالاً شديداً من لدن الحكومة، لإصلاح حاله والقيام بحملة كبرى لإعادة ما سرق منه. ويجب أن نعترف هنا، بأنّ التكاسل مرده إلى الطابع الديني لهذه الحكومة التي تُعدّ هذه التماثيل حراماً استناداً إلى فتاوى المرجعيات التي تحرم النحت وكثيراً من الفنون الجميلة.
ولكي يظل المتحف تحت سيطرتهم في القضاء على ما لا يعجبهم فيه، والإبقاء على ما لا خوف منه، أو على أقل تقدير الإمساك بهذا المنجم المالي الذي لا يقدر بثمن، قاموا بإيصال رسائل تهديد وُصِفت بأنها من متطرفين إسلاميين إلى الدكتور دوني جورج مدير المتحف صاحب الخبرة المشهودة، مما اضطره إلى مغادرة العراق، لينضم إلى قائمة الكفاءات العراقية التي توزعت على خرائط العالم.
إنّ الشارع البغدادي، الذي كان يمتاز بخصائص عمرانية جمالية حوّلته إلى ذاكرة للحياة البغدادية بكل تجلياتها الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وباتت تختزن في تفاصيله كل تلك الحركة الحيوية الأصيلة، أصبح الآن فاقداً خصوصيته المكانية. المكان يعاد تشكيله لا على وفق رؤية معمارية او اجتماعية، إنما على وفق رؤية سياسية. الشارع لابد أن يفاجئ يتحولالداخل فيه بهويته المذهبية، وعلى هذا الأساس لابد للداخل أن يعيد تنظيم سلوكياته بما يتناسب مع الهيمنة المذهبية للمكان. اللغة تتبدل، مضمون الحديث، توجس داخلي يغزو النفس، اضطراب حركة النظر، محاولة استكشاف كل شيء، ورغبة لمغادرة المكان سريعاً. هذا بالنسبة للداخل المختلف مذهبياً، وقد لاحظته بنفسي عندما كنت أستأجر سيارة تاكسي يحاول السائق أولاً أن يستكشف مذهبي، لكي يمارس مجموعة من الانزياحات اللسانية بما لا يخلق نوعاً من التصادم المذهبي، ثم تتغير طريقة طرح الموضوعات عندما نمرّ على منطقة سكنية من مذهبه تزداد ممارسته الانتقادية، وعندما ندخل في منطقة تختلف عن مذهبه يختار طريق المسالمة والدعوة إلى نبذ التشاحن الطائفي، وعندما ينتهي بنا المطاف ولابد لي من دفع الأجرة والذهاب إلى بيتي ويكون ذلك في منطقة سكنية تتطابق مذهبياً مع السائق، قد يتحول الانتقاد إلى الشتيمة العنيفة للرموز المخيفة في العراق، وأهبط من التاكسي ومعي ابتسامة سوداء وأسف لا ينتهي.
سنتر العاصمة؛ الباب الشرقي، يتمتع بمسحة جمالية خاصة صارت جزءاً من المخيال البغدادي، إذ تتوسطه ساحة التحرير، ويطلّ عليها من الحافة الغربية لحديقة الأمة، نصب الحرية العظيم للفنان العراقي الكبير جواد سليم، ومن حافتها الشرقية جدارية الفنان فائق حسن ذات الألوان الخلابة وحمامات السلام البيضاء. بيد أنّ نصب الحرية الذي يعد واحداً من أكبر وأهم النصب في العراق اكتسى بملصقات وصور لرجال الدين، وتوشّح بالقاذورات. ولم تنفع حملة التنظيف التي قادها جمع من الفنانين والمثقفين لرفع الملصقات والصور وتنظيفه من الأوساخ، إذ سرعان ما عادت الصور والشعارات في زحمة التكالب على توكيد الهوية.
كان الباب الشرقي، يتزين بالمحلات التجارية المودرن، ويعدّ سنتر صالات السينما، ويمتاز بكثرة حركة الشباب فيه الذين يأتون إليه بحثاً عن آخر صرخات الموضة، ويحتضن حركة صاخبة من الباصات الحمراء ذات الطابق الواحد أو الطابقين، وتلمع واجهات محلاته، وتنتشر فيه البارات والمقاهي والمساجد والكنائس، فيه المسيح والمسلمون وما تبقى من اليهود، فيه نصب الحرية، وجدارية فائق حسن، وتمثال رئيس الوزراء في العهد الملكي عبد المحسن السعدون، وفيه نصب الجندي المجهول القديم الذي استُبدل بآخر في أيام صدام حسين الذي وضع محله تمثالاً شخصياً له هو التمثال الشهير الذي أُسْقط في 9/4/2003 وكان دلالة على سقوط النظام، واستبدل ذلك بنصب آخر لجماعة فنية جديدة لمجموعة من الفنانين العراقيين الشباب، وقد اضطر الفنان الذي أنجز العمل إلى مغادرة العراق هو الآخر. ويحاذي الباب الشرقي من الجانب الغربي، نهر دجلة وكورنيش أبو نواس إذ يحتضن هذا الكورنيش الذي كان ملتقى العشاق عدداً من التماثيل من أبرزها تمثال أبو نواس وهو يمسك متكئاً أمام بحيرة كأس الخمرة الذي أشتهر بتوصيفها حتى قال:
ألا فاسقني خمراً وقلْ لي هيَ الخمرُ ولا تسقني سرّاً إذا أمكنَ الجهرُ
وقال أيضاً:
مازلتُ أستلُّ روحَ الدنِّ في لطفٍ وأستقي دمَهُ في جوفِ مجروحِ
حتى انثنيتُ ولي روحان في جسدٍ والدنُّ منطرحٌ جسماً بلا روحِ
بيد أنّ شارع أبو نواس، قُطّعت أوصاله بالعوازل الكونكريتية بسب وجود عدد من الأحزاب فيه، وهجِر الكورنيش تماماً بعد كان يزخر الحركة، وتول إلى مكبّ للنفايات والأنقاض، حاله في ذلك حال كورنيش الأعظمية الذي تحول إلى مكبّ للجثث المغدورة وأنقاض البناء، وحال جزيرة بغداد السياحية التي تحولت إلى معسكر يعيث به الجنود فساداً، بعد أن كانت واحدة من أجمل المواقع السياحية في العراق، وحال جزيرة الأعراس التي تحولت إلى شبح مخيف واندثرت كل معالمها.
وتحولت حديقة الأمة ( حديقة الملك غازي سابقاً)، إلى مكان للتبرز والتبول، ورمي النفايات، ومؤخراً تم تشويه الحديقة بإقامة دكاكين صغيرة قيد الإنشاء لاشك في أنها ستجعل الحديقة مكاناً لتجمّع المشردين الذين يعيثون فساداً في هذا الموقع الجميل الذي يتزين بأهمّ نصبين كما ذكرت.
أما شارع أبو نواس، فلعل أهمّ مصيبة تعرض لها كورنيش هذا الشارع، هي إغلاق الكازينوهات التي كانت تصدح بالمقام العراقي، وأغلقت مطاعم أشهر أكلة تخصص فيها العراقيون دون غيرهم من العرب والأجانب، وهي السمك المسكوف على الطريقة العراقية.
إنّ الباب الشرقي، هي ملتقى الطرق الآتية من جهات بغداد الأربع، وهي حلم الشباب الذين يزورون العاصمة، إذ لابد من التجول في هذه المنطقة الزاخرة بالألوان الجذابة والمكتبات والمسارح وصالات السينما والملاهي والبارات والمقاهي ومحلات الموضة، بيد أن من يتجول فيها الآن لا يجد فيها سوى أكداس الكارتون والنفايات وعربات البضائع وبسطيات الأرصفة، وكل هذا في جو من التشنج والخوف من التفجيرات والعبوات الناسفة والاغتيالات.
أغلقت سينما النصر، وسينما بابل، وسينما سمير أميس، وسينما النجوم، وسينما النجوم، وسينما الرصافي، وسينما الأندلس، وظلت سينما الخيام والسندباد وأطلس تعْرَضُ فيها أفلام تافهة، ومع ذلك فقد تناقص عدد روادها إلى أكثر من 95%.
لقد كانت الباب الشرقي، مصدر إلهام للفنانين والكتاب والشعراء العراقيين من كل حدب وصوب، فهي تشبه لوحة متعددة الألوان، وكل لون هو لوحة في ذاته، ليست تجريدية إنما نابضة بحركة بشرية تشترك مع خيوط النسج الأخرى ليُنْتَج نسيج كامل هو: نسيج العراق.
كانت اللهجة البغدادية التي اندثرت تقريباً الآن، بسبب تدفق المهاجرين من المحافظات، لهجة تُلْحَظ في الشارع ومن أفواه الجموع التي تسير على أرصفة الباب الشرقي، لكنك الآن تستمع إلى لهجة مهجنة على نحو تنفر من الأذن، فيه خشونة، ولا يراعي مقام العاصمة، إذ تنعدم فيها الاعتبارات تماماً، على حين تسود السوقية وقلة الذوق.
الباب الشرقي، التي كانت لوحة مهيبة، تحولت الآن إلى مستودع لعربات البضائع التي تدفع باليد، ومكان لتجمع أكداس القاذورات. وبدلاً من الاستماع إلى الغناء والموسيقى التي كانت تضج بها هذه الباب، أصبحت اللطميات الحزينة الدامية، وخطب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، وكذلك خطب رجال الدين الآخرين من الميتين والأحياء هي تملأ أذنيك وأنت تسير في الباب الشرقي.
وفي الساحة المقابلة لصالتي: سينما الرصافي وسينما الأندلس، هذه الساحة التي كانت تجمعاً للشباب بعمر الورد يأتون على شكل جماعات لمشاهدة الأفلام التي تنطوي على مشاهد الإغراء الجنسي، أو أفلام الـ Action، أو أفلام الرعب. وكان ثمة جمهور سينمائي رائع في بغداد، يتابع الأفلام على نحو منتظم، ويعرف أبطال السينما العالمية والعربية، ويملك معلومات جيدة عنهم. ويمكن القول، إنّ ثمة ثقافة كانت تسربها السينما إلى هؤلاء الشباب، أو رواد السينما بصورة عامة. ومجمل هذه الثقافة، ينعكس على الزي، وبعض القيم الروحية، وغرس روح التفاؤل والحلم بالمستقبل، ورؤية الحياة على وفق تصورات واقعية طموحة ومتحررة من سلطة الآخر. ولم يكن رواد السينما ببغداد من الشباب فقط، بل ثمة عوائل تجد في ذلك نزهة وترفيهاً وزيادة تثقيف، بيد أن دور السينما الآن هي والعدم سواء. فقد أصبحت شيئاً محظوراً في ظل دولة دينية، توطد أركانها بـ: ثقافة الحرام.
من ناحية ثانية، اندثر الإنتاج السينمائي العراقي لأنّ لفظة: سينما، تثير حساسية الدولة الدينية، فهي لفظة مشبعة بالتهتك والإباحية والخروج على الأخلاق وترتبط بإفساد طبائع الشباب، ومن هنا فإنّ الموقف الرسمي من السينما هو موقف سلبي، فهي تُحرّم في فقه المراجع الدينية، إلا إذا تحولت إلى سينما بحسب الضوابط التي يضعونها، والقائمة على الحذف المستمر، حتى لا يبقى من الشريط السينمائي سوى الحركة التي لا تدلّ على شيء.
[email protected]