المتابعون للشأن العراقي يعرفون تماما أن الوضع معقد جداً على الرغم من الأخبار التي تذكر بتحسن الوضع الأمني، وسبب تعقيده لا يقتصر على وجود القوات الأمريكية المحتلة حسب، إنما اتخذ الصراع مدى أوسع عندما انقلب إلى صراع: طائفي، إقليمي، سياسي، مافياوي.
وقد ساهمت الولايات المتحدة في إنتاج الإرهاب؛ بسبب سياستها في جعل العراق مكاناً لاستدراج الجماعات الإسلامية الراديكالية، ومن ثم محاربتها بعيداً عن المدن الأمريكية. وقد قيل إن هذه السياسة، هي جزء من استراتيجية الرئيس بوش في محاربة الإرهاب التي اصطلح عليها: الضربات الاستباقية، للجماعات الإسلامية المتطرفة. وعلى الدوام، كان صقور الإدارة الأمريكية، يرددون بأن الجيش الأمريكي يخوض حرباً ضارية ضد الإرهاب في العراق. ومؤخراً، أطلق ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي على العراق تسمية: الجبهة الحاسمة ضد الإرهاب. بيد أن المدهش في الأمر، هو انقلاب المعادلة إلى العكس، إذ إن تسلل الجماعات الإسلامية المتطرفة إلى داخل صفوف المجتمع العراقي تحت ذرائع شتى ولاسيما تنظيم القاعدة، ساهم في تنشئة جيل من المتطرفين الجدد والإرهابيين بحجج وذرائع دينية، وطائفية، وحتى سياسية.


ولعلّ أعظم الأخطاء التي وقعت فيها السياسة الأمريكية في العراق، هو أنها حولت خصومها من خصوم سياسيين إلى خصوم إسلاميين؛ بمعنى أنها أضفت على الصراع صبغة إسلامية أمريكية حينما تجاوزت الأهداف التي وضعت للاحتلال، وتذرعت في البداية أنها جاءت لتغيير النظام وتحرير العراقيين من النظام الديكتاتوري، لكنها انحرفت عن هذا المسار فأخذت تعلن بأنها في العراق لمقاتلة الإرهاب الإسلامي. ونحن نعلم قدرة الجماعات الإسلامية المتطرفة، على خداع الرأي العام الإسلامي، ولاسيما في حرب طرفها الآخر الولايات المتحدة، الخصم الأول للعالم الإسلامي، والداخلة كطرف ولاعب أساسي في مشاكل المنطقة العربية. وهكذا، استغلت حتى الأطراف العلمانية هذه الاستراتيجية، ولاسيما حزب البعث الذي أصدر بول بريمر تحت ضغط وخداع أطراف سياسية عراقية ثأرية، قرار اجتثاثه المرقم (1) في 16 مايس 2003. ولذلك، فإن البعثيين يخوضون الصراع الآن مع أمريكا بغطاء إسلامي، وتحت تسميات إسلامية. وحتى رجال المخابرات والبعثيون السابقون، تحولوا إلى العمل السياسي الآن تحت هذا الغطاء الإسلامي، أنا أعرف شخصاً كان يعمل في المخابرات العراقية، كان يلاحق أحد أصدقائي من التركمان الشيعة، ممن تم تعذيبهم بوحشية في كل أنحاء جسده أيام صدام لأن أحد أخوانه كان ينتمي إلى حزب الدعوة. بيد أن المدهش في الأمر، أن رجل المخابرات هذا يعتمر الآن العمامة السوداء، ويرأس إحدى الجامعات في مدينة الحلة. وقد كان يلاحق ويضايق أحد أصدقائي، وهو مصطفى ابن الدكتور عدنان الدليمي الذي يترأس الآن جبهة التوافق، ومؤتمر أهل العراق. كان مصطفى غير منتمٍ إلى حزب البعث، ومن هنا كان فرقد وآخرون يستدعونه باستمرار للتحقيق في سبب عدم انتمائه للحزب. وكان أحد زملائنا في كلية الآداب، من الأعضاء البعثيين المتقدمين في الدرجة الحزبية، وهو الآن يشغل منصباً رفيعاً في التيار الصدري ويعتمر عمامة بيضاء في مدينة البصرة وتقلّد مناصب كبيرة في المحافظة.


ونتيجة لسياسة أمريكا لأسلمة حربها في العراق، تحول هذا البلد إلى مكان لتحقيق حلم الجماعات الإسلامية الراديكالية بإقامة: الدولة الإسلامية. وشهدت هذه الفترة، تحول كثير من السياسيين العلمانيين من القوميين والبعثيين وأجهرة الأمن السابقة إلى جماعات تتبنى خطاباً إسلامياً متطرفاً.
الخطأ الأمريكي الأبرز، حدث عندما أقدمت في العام 2003 على: تفكيك مؤسسات الدولة العراقية الأمنية والمدنية معا، مما جعل العراق منـزلاً مشرع الأبواب من كل الجهات، فسهلَّتْ بذلك هجرة الجماعات الإسلامية والمخابراتية نحو العراق إما بدافع الانتقام من أمريكا، أو بدافع الانتقام من الشيعة والأكراد الذين تمكنوا من إنهاء احتكار السنة للسلطة طوال قرون من تاريخ العراق.


وفي الوقت الذي كانت أمريكا تتباطأ فيه لتشكيل حكومة انتقالية قوية، كانت تغضّ الطرف عن أهمّ زعيمين راديكاليين هما: مقتدى الصدر الوسيط الذي مرّ عبره التغلغل الإيراني، وحارث الضاري الوسيط الذي مرّ عبره تغلغل عناصر تنظيم القاعدة، والجماعات الإسلامية المتطرفة. وهكذا، شرع الاثنان ( الضاري والصدر) إلى التحريض على التمرد والعصيان عبر خطب الجمعة، مما خلق فوضى عارمة اجتاحت البلاد.


ولعل هذا يفسر لنا، لماذا اختار أبو مصعب الزرقاوي في 2004 العراق ميداناً لنشاطات تنظيمه: قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، بعد أن فرّ هارباً من نيران الجيش الأمريكي في أفغانستان؟. فليس من المعقول، أن يختار دولة يعاديه فيها حوالي 80% من مواطنيها شيعةً وأكراداً ممن طالتهم هجماته، وأفتى بتكفيرهما. وليس من المعقول كذلك، أن يقترب أكثر من مخابرات الدولة الأردنية التي تلاحقه بقوة. بيد أن التفسير المعقول لذلك، هو أن تلك الفوضى العارمة، واشتعال نار الفتنة، هما من بعث برسالة إغراء لأبي مصعب الزرقاوي لتحقيق أحلامه في العراق، الذي يعيش حالةً عارمةً من التردي الأمني.
وبعد تهيش العرب السنة، وتوجيه ضربات إلى المدنيين في المناطق السنية، واعتقال الآلاف من أبنائهم، فإن هذا ساعد على نجاح الزرقاوي في تأجيج العداوة بين السنة والشيعة عندما كان يرمي في المعسكرين، ومن ناحية أخرى كان يعبئ أبناء السنة ويفتح ذراع تنظيمه ليضمّ كفاءاتهم العسكرية والاستخباراتية في صراعه الدائر مع الأمريكان والشيعة والكرد ومع ما يسميهم: مرتدّي السنة.


وفي ظل عدم وجود حكومة مركزية، وتردي الأوضاع العامة، استفحل الفساد في كل مؤسسات الدولة، الأمر الذي استثمرته القاعدة، والجماعات المحسوبة على النظام السابق، والتيارات الإسلامية الشيعية، لتمويل عمليات العنف أوتوماتيكياً. واستثمرته في تجنيد عدد واسع من الشباب العاطلين عن العمل. ولعل هذا، يفيدنا في القول بأن العنف الإسلامي ليس من الموضوعية أن يُرجَع دائماً إلى أسباب عقائدية، بل إن الفقر والبطالة والأمية كلها عوامل يجب أن توضع في الحسبان، في أية محاولة لتحقيق فهم أفضل للعنف في الإسلام.


- كان من أهداف أمريكا المعلنة، أنّ الاحتلال يهدف إلى تغيير النظام السياسي لا تغيير الدولة العراقية بكل مؤسساتها الرئيسة، لكنها أقدمت على اتخاذ قرارات صعبة وحساسة جداً ومن دون أية مرجعية دستورية أو جماهيرية، وفي مقدمة ذلك ما أقدم عليه الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، في حل الجيش العراقي بحسب الأمر رقم (2) في 23/5/2003، وتم تشكيل الجيش الجديد بأمر آخر رقمه (22) في 8/8/2003. وكذلك الإقدام على حلّ وزارة الإعلام العراقية السابقة بالقرار رقم ( 2) في 16 مايس 2003، وتسريح الآلاف من الموظفين والصحفيين والإعلاميين مما فاقم عدد المناوئين للتغيير الجديد.
- استعمال العنف المفرط بحق المدنيين. قُتل عدد غير قليل من الأشخاص الذين أعرفهم، بسبب أنهم كانوا يقودون سياراتهم من دون أن ينتبهوا إلى وجود العجلات الأمريكية، فالردّ لا يكون بتعطيل حركة السيارة، إنما بتسديدة إلى رأس السائق ومن يجلس إلى جانبه. وعلى هذه الطريقة، أُمطِرَ أحمد بكر المخرج في فضائية الشرقية، وهو شاب متزوج حديثاً، بوابل من الرصاص على الخط السريع، لمجرد عدم اقترابه من عجلات عسكرية أمريكية. وقُتل أحد جيراننا وهو شاب في مقتبل العمر أمام أنظار والديه في حاجز تفتيش، إذ أبلغه المترجم العراقي بانتهاء التفتيش، وحينما انطلق بسيارته انهال عليه الجنود بالرصاص، وبعد أيام فارقت أمه الحياة، وظل أبوه يعيش حياة تعيسة وصعبة للغاية. إن هذه الحوادث وغيرها، عادة ما تؤجج بقوة الرأي العام، وتستنفره للانضمام إلى الجماعات المتطرفة التي تتخذ من الدين غطاء لمطامح سياسية.


- لم تكن السياسة الأمريكية حيال العراق، سياسة حكيمة قائمة على استراتيجية المعرفة الوافية بطبيعة الصراع الثقافي والإثني، وتصورت أن القوة العسكرية كفيلة بتحقيق كل شيء: تغيير نظام الحكم من الشمولي إلى الديمقراطي، تحقيق الأمن، تحقيق الولاء لأمريكا... ومن طريف ما يروى أن أحد الجنود الأمريكان وقع في أسر جماعة إسلامية بالفلوجة، فاستغاث بالإمام الحسين، وقال لهم: من شان الحسين، فقال له المسلحون: أمريكي، وشيعي أيضاً. بعدها قاموا بحزّ رأسه حالاً.


- إنّ من أعظم الأخطاء التي وقعت فيه أمريكا، هي عندما تباطأت في تشكيل حكومة وطنية وانتظرت حتى تقوم التيارات الدينية بأسلمة الشارع العراقي، وهي بذلك جعلت رقاب ملايين العراقيين من البسطاء رهينة بأيدي التيارات الدينية التي نجحت للأسف في إخراج الديمقراطية عن مسارها الصحيح، وجعل نظام الحكم الجديد نظاماً دينياً صرفاً، بل من أسوأ أشكال النظام الديني القائم على التمييز الطائفي، والاعتداء على حقوق الإنسان.
- علاقة العراق بدول الجوار علاقة معقدة جداً، وكان يجب أن توضع في الحسبان قبل الاحتلال الأمريكي، وهذا خطأ آخر وقعت فيه السياسة الأمريكية أدى إلى تعقيد الصراع في العراق. هناك شيعة على صلة روحية بإيران، وهناك أحزاب سياسية وجدت في إيران ملاذاً آمناً أيام النظام السابق، وهي الآن لا تريد أن تتنصل عن تحالفها السياسي مع إيران. وهناك أيديولوجيا مشطورة إلى شطرين في سورية والعراق، هي أيديولوجيا حزب البعث. وهناك سنة العراق الذين يجدون عمقهم الاستراتيجي مع دول الخليج وفي مقدمة ذلك المملكة العربية السعودية، وكذلك مع الأردن ومصر واليمن. وهناك المشكلة الكردية التركية، بل المشكلة الكردية الإيرانية السورية التركية في آن واحد، إذ تعارض الدول الثلاث قيام دولة كردية في شمال العراق، أو حتى قيام فيدرالية قد تحرض أكراد هذه الدول على المطالبة بالفيدرالية أيضاً. وهناك مشكلة تركمان العراق، الذين يجدون في الدعم التركي عوناً لهم بوجه المارد الكردي. وهناك دولة الكويت، التي تناضل مرة لقيام نظام تأمن جانبه، ومرة تتشفى بما يحدث في هذه الدولة التي غزتها في يوم من الأيام. وهناك الفلسطينيون الذين نعموا برعاية مادية ومعنوية وإعلامية مناصرة لهم على طول الخط أيام النظام السابق، فوجدوا أنفسهم الآن فاقدين لتلك الامتيازات. ومن جانبها، فإن المملكة الأردنية تنظر بعين الريبة إلى قيام هلال شيعي كما صرّح بذلك الملك عبد الله في أكثر من مناسبة. هذا بالإضافة طبعاً، إلى وجود عدد من المصالح الاقتصادية التي تجد في استمرار الصراع، فائدة اقتصادية كبيرة تدفع باتجاه تحقيق نمو لاقتصاديات هذه البلدان، ولاسيما البلدان غير النفطية.

ناظم عودة

[email protected]