إلى: الرضيعة الفلسطينية التي استشهدت دون أن تعلم لماذا؟.
من المؤسف، أن هنالك جمهرة من الكتّاب والسياسيين المتاجرين بهذه القضية النازفة لما يقارب الستين سنة إما بحثاً عن lt;lt; المجدgt;gt; على طريقتنا العربية البائسة والمتخلفة وغير المتحضرة، وإما بحثاً عن الفلوس. نحن عَبَدة المجد الزائف والفلوس. ومن المؤسف ثانية لكنه بوجع أكبر، أن كتلة كبيرة من الفلسطينيين أنفسهم يأتون في مقدمة هؤلاء الذين أضاعوا حق فلسطين، وحق هذا الشعب الذي أُدخِلَ عنوة في لعبة إنتاج النزف ذاتياً أو أوتوماتيكياً، فصار النزف أشبه شيءٍ بأوعية الناعور ما ان تفرغ واحدة حتى تمتلئ الأخرى عوضاً عنها لتديم عملية الامتلاء والسقي.
ناعور الفتنة لن يقف قط، مادامت الثيران التي تقود عملية السقي تدور معصوبة العينين. يصبّ الناعور في الساقية، والساقية في الحقل، وينمو الزرع والضرع معاً، فيَسرّ الناضرين، فيتجمهرون في حلبة الهتاف الأعمى لتقوية عزيمة الثيران العمياء، فتدور، ولا نهاية تلوح في أفق النزف.

لن تعثر على أي تحليل واقعي للمشكلة الفلسطينية لا عند السياسيين ولا في الإعلام ولا عند الكتاب المهتمين بالشأن الفلسطيني، إلا قلة عُزِلوا في خانة الخونة مسبقاً. بل إن التحليل العقلاني، والنزوع نحو التصرف القانوني، يعدّان من الأمور المعيبة، لا بل إن من يدعو إلى ذلك يعد خائناً، وعميلاً لإسرائيل وأمريكا. حدثٌ وقع في غزة، هل عرف الناس (العرب) والناس (الأجانب) لماذا وقع هذا الحدث؟. بمعنى آخر، لو أراد الصيني أو الجزائري أن يعرف من خلال الإعلام العربي أو تصريحات السياسيين العرب، هل يستطيع أن يضع يده على الأسباب والمسببات الحقيقية الآنية للحدث؟. طبعاً، لا. لأن لا تفسير لدينا لأية مصيبة سواء حدثت في فلسطين أو في أية دولة عربية سوى عدد من المفردات التي فقدت معناها لكثرة استعمالها: الاحتلال الإسرائيلي، الصهاينة، الحكام العرب الخونة، المجزرة الصهيونية، و.... وسوى ذلك من كلام لا يودّي ولا يجيب، كما يقال في عاميتنا. اقرأوا معي ما كتبه عبد الباري عطوان (شيخ الإعلاميين الفلسطينيين) الذي يعيش في الغرب، ويصدر جريدة من الغرب نفسه، وتستضيفه وسائل إعلام غربية، إذ كتب محللاً ما حدث في غزة على النحو الآتي:
- اجتياح اسرائيل لقطاع غزة لن يوقف المقاومة ولا صواريخها، وحتي إذا توقفت فلفترة مؤقتة، والتهديد بمحرقة في قطاع غزة قد يرتد على مطلقيه بالقدر نفسه، وربما يكون أي عدوان إسرائيلي على لبنان محرقة لإسرائيل نفسها، لأن السيد حسن نصر الله عندما يهــــدد باستخدام أسلحة جديدة تدمرها فإنه يعني ما يقول.
- سلطة الرئيس عباس أفلست، وباتت مهمتها محصورة في تسول المال لدفع الرواتب للأنصار، وتبرير الاعتداءات الإسرائيلية.
- إنها حرب الإبادة التي خططت لها أمريكا وإسرائيل، بالتعاون مع أنظمة الاعتدال العربية، بهدف تركيع العرب مرة واحدة، وإلى الأبد، بعدها يتم تتويج إسرائيل زعيمة إقليمية دون أي منازع، ويستمر تدفق النفط تحت السيطرة الامريكية، وبالأسعار التي تحددها الإدارة في واشنطن.
- لم يكن السيد وليد جنبلاط ينطق عن هوى عندما صرخ متحدياً قبل شهر: أهلا بالفوضى، أهلا بالحرب. فالرجل كان لتوه عائداً من واشنطن، ومعرّجاً على الرياض، ولا بد أنه سمع ما يرضيه ويشفي غليله، فها هي نبوءته تترجم عملياً في البحر، وربما نراها واقعاً على الأرض في الأسابيع القليلة المقبلة.
بهذا التحليل، يريد عبد الباري عطوان أن ينقل صورة ما حدث في غزة إلى العالم. من المؤكد أن المستمع الغربي ndash; الذي يخاطبه عبد الباري عبر حواراته الشفاهية وهو يعيد ما يقوله باستمرار- سيكون أمام صورة كاريكاتيرية حقيقية، فيتبسّم ويصفح عن تلمّس النزف الفلسطيني، ويغيّر القناة إلى قناة أخرى، فنكون قد خسرنا المساحة الزمنية والمكانية التي توفرت لنا لمخاطبة الغربيين. عبد الباري يعتقد أن الصواريخ وحدها، قادرة على طرد الاحتلال، هكذا يؤمن ويفسر الأمور. وفي الجانب الآخر يقف إيهود ألمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي ويصرح بأن إسرائيل لا تخشى قوة إيران ولديها القدرة على مواجهتها. قوم منشغلون بالمواجهة العملية وحيثياتها العلمية والتكنولوجية والاستخبارتية والسياسية والمعلوماتية، وقوم منشغلون بالهتافات العرجاء.
كل سلاح العرب لن يهزم إسرائيل، بل إن الذي يهزمها هو أن نعرف كيف نتصرف بحكمة، أن نعيد بناء ذاتنا ونتحرر من ذهنية الخرافة والعبودية والعنف. أن نتحرر من عبودية الفتاوى التي تنطّ علينا بشكل مضحك بين الفنينة والأخرى، ويتكاثر ما شاء الله علماء الفتاوى في بلادنا، وينحدر المجتمع، ومن يريد أن يقيس درجة انحداره فما عليه إلا أن يثبت عينه على شريط المسجات ورسائل الأس أم أس في الفضائيات الترفيهية، ليقرأ صورة المجتمع العربي الإسلامي؛ و مجتمع علماء الفتاوى الذين سيتجاوز عددهم عدد أفراد الشعب العربي قريباً.
كلما يتكاثر الناس المؤمنون بالعلم والعقل، وينحسر الهتافون اللطامون تشعر إسرائيل بهزيمتها، كلما كنا حراصاً على موت قطة من قططنا سوف تشعر إسرائيل بهزيمتها، أما إذا كنا نتبجح بقوافل الشهداء فإنهم سوف يشعرون أنْ لا قيمة للإنسان في عقليتنا وعرفنا وثقافتنا وديننا فيمارسون معنا سياسة الإبادة.
أعلم أن هذا الكلام لا يروق للكثيرين، لكنني سأقوله، تأسياً على أناس يذبحون يومياً دون أن يعلموا لماذا ذبحوا؟!. تأسياً على تلك الطفلة التي ذبحت بجريمة إسرائيلية، فيما كان الذي يرفعها أمام كاميرات الإعلام يشعر بنشوة الاستعراض، جعلته يحجز حتى أمها من أن تحضنها الحضنة الأخيرة. تأسياً على تلك العجوز التي تمددت صامتة بين أنقاض القصف، يدها اليمنى تتكئ على دمار منزلها وتنظر نظرة جارحة كأنها تتكلم، فكانت صورتها أبلغ من كل الصواريخ التي تقذف على إسرائيل من دون أن تسفر عن أيّ شيء.

قبل أن نطلب من الآخر أن ينصفنا، علينا أن نتعلم كيف ننصف أنفسنا.
هنالك أخطاء تاريخية ارتكبها ويرتكبها عدد من الزعماء الفلسطينيين ومثقفي الهتافات وخطباء الفتنة، هي السبب الأول في عدم نيلهم حقوقهم، بل إنها السبب الأول في تشويه صورة الفلسطيني وجعله في صورة الإرهابي الخاطف الطائرات أو المتحزّم بحزام ناسف في وسط باص للركاب حتى لو كانوا من طلاب المدارس، أو الملفّع من أعلى إلى أسفل بلباس أسود لا ترى منه إلا عينيه وبندقيته، ولم أعرف السبب لحد الآن لماذا هذا التخفي إذا كانوا مقاومة تطالب بحق مغتصب؟ لماذا لا يظهرون أوجههم للعلن؟ سيجيب عبد الباري عطوان ndash; أحد مثقفي الهتافات-: هنالك جواسيس فلسطينيون لإسرائيل، فإذا كان كذلك، أقول له: كفّ لسانك عن توجيه الشتيمة إلى الآخرين الذين حولتهم جميعاً إلى عملاء، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. أو سيجيب أن إسرائيل ستكشفهم وتستهدفهم، فأقول: إن طالب الشهادة ndash; وهؤلاء كلهم إسلاميون ndash; لا يخاف من الموت، لأنه يعرف نهايته مسبقاً. لماذا دائماً لا نطالب بحقوقنا في وضح النهار؟ فنعمد إلى التخفي كالأشباح في قتل الآخرين، والتستر على هزائمنا، على حين أن الإسرائيليين يرتكبون مجازرهم في وضح النهار وبلا لباس الأشباح، ويقولون على رؤوس الأشهاد إن هذا جاء رداً على الصواريخ، أو المفرقعات كما يسميها رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض، والصواريخ العبثية كما يسميها محمود عباس. لماذا الإسرائيليون- استناداً إلى تقرير فينوغراد مثلاً- لا يخشون أحداً في الإشارة إلى إخفاقاتهم في الحرب؟. وكيف لهم أن يخشوا وجيرانهم يرقصون على إيقاع أهزوجة: يا محلى النصر بعون الله، وكانوا خير الخاسرين المنهزمين. وقد أعلنت حماس بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة أنها انتصرت في الحرب، ففزع العالم من القوة الجبارة لحركة داخل دولة تهزم جيشاً مثل الجيش الإسرائيلي، وأخذت الدول العظمى تراجع حسابات جيوشها تحسباً لخطر قادم. لماذا لا نتعلم من أعدائنا كيف يمارسون حياتهم بوضوح وينتقلون من حالة إلى حالة أفضل؟.
لماذا أعداؤنا المفترضون يعرفون عنا كل شيء، ونحن لا نعرف عنهم أي شيء بسبب الحصار المقدس؛ الحصار المنيع والمحصن من تداول مطبوعاتهم وأفكارهم وعلومهم ومعارفهم وعادات مجتمعهم ومواردهم وطبيعة حياتهم ونقاط قوتهم وضعفم ومعتقداتهم و....؟. من يجرؤ أن يجلس الآن في مقهى بعاصمة عربية ويضع رجلاً على رجل ويمسك فنجان قهوة بيد وبيد أخرى جريدة إسرائيلية؟ فمن المؤكد أنه سيفارق حياته قبل أن تهضم عينه السطر الأول. والأمر لا يقتصر على إسرائيل وحدها، فكم من شخص أعدِمَ في الثمانينيات بالعراق لأنه كان يستمع إلى نشرة أخبار من إيران أو البي بي سي؟.
خطاب العربدة والهتافات والجعير يتصاعد، وكأننا لا نستطيع أن نخاطب الناس إلا من خلال ذلك الجعير الفوضوي. يتصاعد، ويتساقط الفلسطينيون الأبرياء، ويعود الجعير ثانية يتصاعد ويتساقط من يتساقط، والجرح نازف لا يندمل.

طيلة ثلاثين سنة؛ أي منذ 1978 حيث عاش في لندن، لم يتعلم عبد الباري عطوان من الأوروبي كيف يأخذ حقه عندما يُعتَدى عليه؟. لم يتعلم كيف يعرض صاحب الحق قضيته أمام الآخرين، أو الجهات القانونية. لا بل إنه لا يريد أن يعرض قضيته قانونياً، لأن هذا العرض يسدّ باب رزقه، فلا بأس من سقوط الضحايا الأبرياء في غزة أو وفي أي مكان آخر، المهم استمرار النزف واستمرار الجعير والمتاجرة. بل إنه ينتظر بفارغ الصبر حصول المجزرة، ليظهر في الجزيرة أو البي بي سي أو سكاي أو السي أن أن، أو القدس العربي، ويمارس دورين: يصبّ الزيت على نار النزيف، ويحجب حقّ أبناء وطنه عن الرأي العام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان بتحليلاته البعيدة عن جوهر الحدث وواقعه. لأن لقمة عائلته، وباب رزقه، سوف تصابان بالضرر لو نطق بخلاف ما يُراد منه ليكون عضواً مقبولاً لدى جهة الدفع المالي، وعند ذاك لا يهم الدفاع عن الدكتاتور، أو التغني بأفكار المتطرفين والتبجح بصداقتهم، أو ممارسة الشتيمة ضد مصر- متناسياً دماء المصريين التي أسيلت فوق تراب فلسطين ودور مصر بوصفها لاعباً سياسياً أساسياً في القضية الفلسطينية- أو ممارسة الشتيمة ضد السعودية والكويت ndash; متناسياً دعمهما المالي الكبير ودعمهما السياسي وفتح بلدانهما للعمالة الفلسطينية- وممارسة الشتيمة ضد العراق، متناسياً كل شيء فيه عدا رجل واحد يركع أمام جلاله وربوبيته هو: صدام حسين. فهو يشتم الكرد ومجالس الصحوة السنية ومن يناصرها ويشتم الشيعة، يسخِّر لسانه وقلمه وجريدته للشتيمة، ويفسح المجال أمام القراء الشاتمين لهؤلاء أو المادحين له ولصدام.
عندما كان يعمل في جريدة (المدينة) في السعودية، أو قل في الجرائد والمجلات السعودية منذ السبعينيات إلى نهاية الثمانينيات متنقلاً ما بين (المدينة) و(الشرق الأوسط) ومجلة (المجلة)، لم تكن السعودية دولة ضد قضايا العرب، ولم يكن نظامها نظاماً استبدادياً أو غامطاً لحقوق الإنسان ولا ثقافتها ثقافة سلفية متخلفة، بل كانت أيام ما كان يرتزق من فلوسها، نموذج الدولة المثالية.
يشتم السعودية بمناسبة وبغير مناسبة، إرضاء لقطر إذ حُجِزَ له مقعد دائم في (الجزيرة) يحلّل ويعلّق ويمارس حق النقض الفيتو أيضاً. كم يضرّ هذا بالقضية الفلسطينية لا يهمّ، المهم يبقى السير مدهوناً كما يقال في عاميتنا.
وعندما كان يعمل في جريدة (البلاغ) في ليبيا- وأنا هنا أتحدث عن إعلام عربي ينطق باسم الدولة- فهذا هو نموذج الإعلام الحرّ في نظره. وعندما شاهد العالم كله وحشية غزوة صدام للكويت، وقف عبد الباري خطيباً بارعاً ضد تحرير الكويت، ولعبت جريدة القدس العربي على الوتر العاطفي للشارع العربي دون أن تعلّمه الحق من الباطل.
ولا يقتصر الأمر على عبد الباري وحده، إنما هنالك لفيف من الكتاب والخطباء والسياسيين الفلسطينيين الذين يسحبون بساط التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية. هؤلاء لا يعرفون سوى الشتيمة والاستهانة بالآخر العربي الذي قدّم مئات الألاف من الضحايا من أجل قضيتهم، وحرق مليارات الدولارات من أجل هذه القضية.
قبل أيام شتم عبد الباري العراق، وشتم كل العراقيين، ومع الألم القاتل الذي شعرت به قلت لا أكتب عنه ولا عن تاريخه وتفاصيله التي من المؤكد أنها لا تسرّه أبداً. لكن هذا الرجل سرطان بالنسبة لفلسطين، ووبال على أهلها، إنه من أجل المال والقبض لا يتورع في أن يقول أي شيء، وأن يتاجر بأي شيء. يدير مؤسسة إعلامية في قلب لندن، ولم يستطع ان يُقنع بريطانياً واحداً بعدالة النزف الفلسطيني.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية