كيف زيّف جورج تينت وكولن باول الصورة الإعلامية؟
بعض جوانب تغطية الحرب على العراق


يوماً إثر آخر يتزايد تأثير الصورة المتحركة الحية في وسائل الإعلام ( الميديا)، إذ تريد أن تستعير من السينما قدرتها على استثمار عدد واسع من المؤثرات في الصوت والصورة والديكور والملابس والطبيعة، فأصبح كل شيء مشروع استثمار لخلق مؤثرات تجتذب المشاهدين من كل صنف ولون. ولأنّ هذه الوسائل تسعى باستمرار إلى تقوية أثر الصورة في الناس وتمرير الخطاب الفكري المصاحب، فإنها تعمل بجهد حثيث لتطوير قدراتها التقنية والفنية معاً. ولأنّ الصورة في البثّ الفضائي الحيّ وغير الحيّ، باتت تشكّل ظاهرة كبيرة في التواصل البشري في عصرنا هذا، ومن المؤكد أنها ذات تأثير واسع على فئات المجتمع، فقد سعت وسائل الإعلام المسموعة ndash; الإذاعة- إلى تحديث وسائلها في نقل الخبر، أو تغطية الأحداث، حتى لا تفوتها فرصة اللحاق بالتطور التقني في وسائل الإعلام المرئية التي أصبحت تسحب البساط من أقدامها شيئا فشيئاً. وهكذا جعلت هيأة الإذاعة البريطانية ( BBC ) مبدأ تجسيم الصوت غاية كبرى، تسعى إلى تحقيقها لمستمعيها، فكأنّ الأذن ترى ما تسمع من نشرات للأخبار ومن تقارير وبرامج. وهذه الآلية الجديدة في البث الإذاعي، تقوم على ملاحقة ( مصدر الخبر) أينما كان، لتقدّمه إلى المستمع في لحظة حصوله أولاً بأول. وقد عززت إذاعة ( صوت أميركا) وإذاعة ( سوا ) الممولة من الكونجرس الأميركي، هذه الآليات بتحليل ( الخبر) أو ( الحدث) من طرف ( مراقبين) أو( شهود عيان) أو ( محللين مطلعين). لم يعد الخبر كما في السابق يروى إلى الصحفي أو يقوم بتوصيفه لفظياً، بل ثمة خطة إعلامية جديدة لإشباعه تغطية وتحليلاً، أو جعل المراقبين أو شهود العيان يصوغون ذلك الخبر، ويقدمونه إلى زملائهم المستمعين.


بيد أنّ الأمر يختلف تماماً في وسائل الإعلام المرئية، فلا يُجبر المشاهد على الاستعانة بقدرة تراسل الحواس، وإنما المشاهد يرى ويسمع على نحو مباشر كأنه ينظر إلى الشارع عبر نافذة شقته، والسمع والبصر قوتان حاسمتان في التأثير على الإنسان في عملية إدراك المعنى. وإذا ما كانت الحرب تنشب سابقاً بين الإذاعات، فإنها اليوم تدور رحاها بين القنوات الفضائيات. فريق يدّعي الموضوعية والحياد في تغطية الأحداث، وفريق آخر يشكك في ذلك. غير أنّ المتلقي لوسائل الإعلام لم يكن بمنأى عن بعض الأغراض التي تحاك في الخفاء، إذْ لم تكن الصورة تُقدّم دونما سرد آخر يصاحبها، ويتجه إلى هذا المتلقي مباشرة. وقد وضع السرد الذي يرافق الصورة المشاهِدَ في وضع المراقب للتحريف الذي يجري على صناعتها. أخطر ما في الصورة هو صناعة سرد الخبر، أو الإيماءات السردية التي تحوم حول تخوم الصورة. وعند ذاك، يتحتّم على المتلقي أن يراقب صناعة الصورة وصناعة السرد في آنٍ.


ولم يكن خافياً على الجميع أمر تلك الحرب الأخرى، التي كانت تجري إعلامياً بين طرفي النزاع في حرب الخليج الثالثة بين العراق من جهة، والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة ثانية. وعلى الرغم من التفاوت الكبير في القدرات، إلا أننا كنا نشهد بقوة غبار النزاع الإعلامي المثار بين الطرفين. كان الإعلام العراقي يلعب على الوتر القومي في حشد الرفض لما تخطط له الولايات المتحدة، ويشدد على أنّ الحملة الأميركية تخفي وراءها مخططاً شاملاً للهيمنة على الثروات العربية، وتغيير الأنظمة غير المرغوب فيها في المنطقة. تردد هذا الكلام على لسان ناجي صبري وزير خارجية العراق آنذاك، وعلى لسان طه ياسين رمضان نائب رئيس الجمهورية، وعلى لسان صدام حسين نفسه. غير أنّ الإعلام الأميركي كان يلعب على الوتر الإرهابي، الذي يدخل الرعب في قلوب الشعب الأميركي منذ صدمة صورة برجي التجارة وهما يتهاويان في مشهد من مشاهد الخيال المرعب، الذي عجزت هوليود أن تأتي بمثله عبر تاريخها العتيد.


بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي المرقم ( 1449) في 2003 كانت الصورة على غير ما ترغب به الولايات المتحدة، فثمة تعاون مع مفتشي لجنة ( الأنموفيك) من جانب العراق، وكان هذا عرضة لكاميرات وسائل الإعلام المختلفة الأجنبية والعربية. كان ذلك يغضب الولايات المتحدة التي تتربص بسقوط خصمها اللدود في العراق. لم يهدأ لها بال، وكان السياسيون الأميركيون، بدءاً من الرئيس جورج بوش، لا يدعون مرحلة من مراحل التفتيش إلا وفنّدوا مصداقيتها، وشككوا في أمرها. بيد أنّ ( جورج تينت) مدير وكالة الاستخبارات المركزية كان يعمل في الخفاء للاستعانة بالصورة المصنوعة صناعة إعلامية، لتقديم دليل دامغ يدين العراق في أروقة مجلس الأمن الدولي. حبس العالم أنفاسه وهو يشاهد تلك الصور التي عرضها ( كولن باول ) وزير خارجية الولايات المتحدة على شرائح إلكترونية في مجلس الأمن. كانت الصور من مجلوبات ( جورج تينت) الذي جلس ببدلته الداكنة في الصفّ الخلفي لكولن باول، يراقب نجاح ما قام به. ادعى باول أنّ المخابرات العراقية بالتعاون مع عدد من المسؤولين العراقيين الكبار وضعت برنامجاً دقيقاً لنقل الأسلحة المحظورة من مكان إلى آخر، بشاحنات مخصصة لهذا الغرض. ولأن الصور المعروضة لم تكن حاسمة، وهي غير حاسمة من الناحية القانونية، فإنّ تلك الصور فشلت في كسب تصديق أغلبية الأعضاء، فتحول مزاج جورج تينت إلى ما يشبه بدلته الداكنة. استعمل الوزير الأميركي ما يمكن أن يطلق عليه في الفوتوغرافيا وسيلة ( الخداع الممكن) في الصورة. ويعني ذلك أنّ المحاكاة - التي كان يفترض أنْ تماثِلَ بين الواقع الحقيقي وما في الصورة من مادة - قد تعرضت إلى تحريف فني من قبل لجنة جورج تينت كي تؤدي غرضاً آخر في هذه الصورة الملتقطة من الفضاء؛ غرض توفير الشرعية القانونية لاحتلال العراق وإسقاط نظام الحكم فيه. كان العامل الأهم في عدم التصديق، هو عدم القدرة على معرفة التحريف الذي أصاب الصورة التي عرضت على أعضاء مجلس الأمن. وربما كان هذا الأمر بأمسّ الحاجة إلى خبراء متخصصين في طبيعة الصورة، للحكم على الكيفية التي تمّ بها التلاعب بالزمان والمكان لينسجما مع الهدف الذي كانت تسعى إليه الولايات المتحدة. لكن الردّ من الجانب العراقي كان رداً لا يتعدا الجانب المنطقي، وقد جاء على لسان الفريق ( عامر السعدي) الذي ادعى أنّ ما قاله كولن باول غير صحيح، طالباً منه تزويد المفتشين بأماكن هذه الأسلحة إذا كان يعلم بها فعلاً.


اتخذ الأمر طابعاً أكثر إثارة عندما اندلعت الحرب بين الطرفين في صبيحة العشرين من شهر آذار؛ لأنّ الصور التي تعرضها وسائل الإعلام، في هذه المرة، ليست صوراً سينمائية، بل صوراً حقيقية لمعركة منتظرة، كثر فيها التهديد والوعيد. في البدء اضطرب المركز الإعلامي في ( السيلية) بالدوحة، والتابع لمركز قيادة القوات الوسطى، تأخر عقد المؤتمر الصحفي اليومي الي وعدت به هذه القيادة، فاهتاج الصحفيون. بعد ذلك، كانت هنالك بيانات عسكرية في هذا المركز، لكنها غير مشفوعة بصور متحركة ملتقطة من كاميرات أرضية، وإنما كانت الصور التي عرضها العميد ( فنسنت بروكس) صوراً ملتقطة من الجو، وهنا تكمن معضلة مصداقية ( الخبر). وعلى أثر ذلك، تعرّض تومي فرانكس - الذي لم يعقد من هذه المؤتمرات إلا القليل الذي لا يتجاوز أصابع اليد- وتعرّض فنسنت بروكس كذلك إلى سيل من أسئلة الإعلاميين المشككين بصدق هذه الأخبار. وفي الوقت الذي كان فيه العالم لا يتوقع أنْ تسقط طائرات أميركية أو يؤسر جنود أو يقتلون أو تُحْرَق آليات، بسبب الفارق في تكنولوجيا التسليح، فإنّ عرض صور لأسرى حرب أميركيين قد أغضب الإدارة الأميركية كثيراً، فقد شكك وزير الدفاع الأميركي ( دونالد رامسفيلد) بصحة الصور التي عرضتها قناة الجزيرة والتي نقلتها بدورها عن ( قناة العراق الفضائية) على الرغم من أنّ هؤلاء الجنود قد عرّفوا بأسمائهم ووحداتهم ومدن سكناهم. والمفارقة الغريبة، أنّ هذه الصور التي أثارت حنق الأميركيين وتمنوا لو أنها لم تُصوّر ونفوا على لسان رامسفيلد أن يكون هؤلاء جنوداً أميركيين، قد استعملوا صور هؤلاء الأسرى أنفسهم للدعاية على قدرة الجيش الأميركي عندما حرّروهم من الأسر في مدينة سامراء. فتكرر ظهور هؤلاء الأسرى على شاشات التلفزيون في مدينة سامراء وفي الكويت وفي أميركا أيضاً في حفل استقبال بهيج. وقبل ذلك، كانت عملية تحرير المجندة الأميركية ( جيسيكا) في مستشفى في مدينة الناصرية، قد شغل حيّزاً كبيراً في وسائل الإعلام الأميركية، فتحوّل من عملية إلى دعاية وحرب نفسية تؤدي بعض الأغراض المقصودة.


أما الحرب الأخرى الأكثر إثارة، فهي سقوط الطائرات وحرق الآليات، ادعى الأميركيون أنّ كثيراً من هذه الطائرات قد تحطمت بنيران ( صديقة)، شاع هذا المصطلح بين وسائل الإعلام، وأصبح محطّ غمز ولمز من لدن كثير من الإعلاميين. لكنّ الجانب العراقي الذي يعوّل كثيراً على الدعاية في هذه الحرب، لم يدع سانحة لتصوير سقوط الطائرات المسيّرة بغير طيّار، إلا وعرضها متزامنة مع بعض البيانات المبالغ فيها كثيراً. لكنّ ذلك ألهب الحرب بين الطرفين، وأوهم أنّ ما يقوم به الجيش الأميركي هو مجرد عمليات إنزال يصطادها العراقيون. وحصلت هذه الفرضية على بعض المصداقية بعد عرض صور لآليات أميركية محترقة خلال توغلها في الأراضي العراقية. وكانت الدعاية العراقية تستند إلى المقاومة الكبيرة في ( أمّ قصر)، فاستغلت ذلك لتعزيز ادعاءاتها المشفوعة بعرض لصور من هنا وهناك. لقد ادّعت الولايات المتحدة الأميركية أنها ستستعمل ( القنابل الذكية) في حملتها لنشر دعاية عدم مهاجمة الأهداف المدنية، وحينما سئل ( ريتشارد مايرز) عن ذلك، قال لا تسألوني عن هل ستصيب الهدف، بل عن أيّ شباك في ذلك الهدف إذا كان بناية. كان واثقاً من دقة الإصابة، لكنّ هذه القضية كانت من أخطر مراحل هذه الحرب، فقد كانت القيادة العراقية تجد في ذلك فرصة لكشف عورة عدوّها، فاصطحبت المراسلين الصحفيين وكاميراتهم لتصوير الدماء الحارة التي كانت تسيل من الضحايا المدنيين بسبب القصف الأميركي. بادر الجانب الأنجلو أميركي إلى التصريح بأنّ هؤلاء الضحايا سقطوا بصواريخ أطلقها النظام العراقي عامداً متعمداً، لإثارة الرأي العام.


ومن جانب آخر،كانت الصور التي تبثها محطة (CNN) ومحطة (fox ) والمحطات الأميركية الأخرى المرافقة للجيش الأميركي تغطّي مادة صالحة لإعطاء مسوّغ أخلاقيّ لهذه الحرب، التي دخلتها الولايات المتحدة دونما قرار من مجلس الأمن الدولي. أخذت صور المواطنين العراقيين الذين كان يبدو عليهم العوز الشديد، والحاجة إلى الماء والطعام تتصدّر هذه المحطات، ويتزامن ذلك مع ( تدفّق) مواد الإغاثة، كما يحلو للمسؤولين الأميركيين أن يطلقوا على عملية وصول بعض المواد الإغاثية من أموال العراق التي بحوزة الأمم المتحدة. فيما اعتبر العثور على بعض ( الأقنعة الواقية) من الغازات الكيمياوية في أحد مخازن الجيش العراقي دليلاً على امتلاكه لأسلحة محظورة. لا شكّ في هذه الصور كانت تهيء الرأي العام الأميركي والعالمي معاً إلى قبول هذه الحرب المثيرة للجدل. لم يكن هدف الصورة هدفاً إعلامياً محضاً، تنوي إخبار مادة معينة، بل اشتركت في الحرب النفسية والسياسية أيضاً؛ طرف يتهم والطرف الآخر ينفي، وهكذا دواليك. وفي الوقت الذي كانت فيه الحرب مشتعلة في هذه البقعة من العالم التي ابتليت بالكوارث والحروب، كان العرب والعراقيون يبيتون لياليهم بين ميت ومخدوع.
عام مفعم بالمسرات على كل العرب.

ناظم عـودة

[email protected]