دولة دينية بسراويل ديمقراطية: وضع الثقافة في دولة العمامة
نشأت الثقافة الحديثة في العراق، منذ مطلع القرن الماضي متزامنة مع الحملة الكولونيالية الإنگليزية التي شجعت الانفتاح على الغرب، والعمل على تحديث المجتمع العراقي على وفق أصول المدنية الغربية. وطوال هذا التاريخ حتى سقوط نظام صدام حسين في 9/4/2003، ظلت الثقافة محافظة على الطابع العلماني. بمعنى أن الأصوات التي عُدَّت واجهة المشهد الثقافي، وكوّنت تاريخ الثقافة العراقية في السينما والمسرح والأدب والفكر والفن التشكيلي وسائر الفنون وفروع الثقافات الأخرى، كانت علمانية التفكير والرؤية، مع استثناءات قليلة.
لكن مع إشراقة الشمس الأولى، بعد السقوط الشهير لتمثال صدام، اختفت أيقونات لثقافة أصبحت من الماضي، على حين برزت أيقونات جديدة لثقافة ستكون في قلب صراع الأفكار الذي يدور في العراق الجديد، وستكون هذه الثقافة هدفاً لاستقطابات شتى.
كانت الأعلام المختلفة الألوان ذات الرموز الدينية، وصور الشخصيات التي اغتالها صدام، ترفرف في كلّ مكان لتأكيد الهوية الإثنية، التي قُمِعت سابقاً، وحان الوقت لتعبّر عن نفسها من خلال مظاهر ثقافية مختلفة، بإصدار الصحف والمجلات التي بلغ عددها في البداية أكثر من 150 صحيفة ودورية، وبافتتاح المراكز والجامعات والمحطات الفضائية، وإقامة الندوات والمهرجانات، وممارسة الطقوس والشعائر.
كلّ هذا، كان يجري في الطرف الشيعي والكردي، على حين اختار السنة معارضة الوضع الجديد الذي أنهى إلى الأبد حكمهم في هذا البلد، فاستغلوا الثراء الذي حصلوا عليه من امتيازات النظام السابق، ليعلنوا الحرب على الأمريكان والشيعة والأكراد في آن واحد.
وهكذا، صار من المؤكد أن تنقسم الثقافة العراقية من الناحية السياسية، إلى معسكرين: معسكر يريد أن يفرض هويته، ويؤكد أحقيتها بالمشاركة في العملية السياسية، ومعسكر آخر يعارض هذه الهوية بالإبادة الجماعية، بذريعة الوحدة الوطنية ومقاومة الاحتلال.
لكن من ناحية ثانية، كان ثمة تغيير في الطبيعة البنيوية للثقافة العراقية التي ذكرنا أنها ظلت محافظة على الطابع العلماني، ذلك أن التكوين الأساسي بالنسبة لعرب العراق، ينقسم إلى طائفتي: الشيعة والسنة، وهو الانشطار المذهبي الأكبر في بنية الإسلام. وهو إنشطار ديني لا عرقي، ولذا فإنّ تأكيد الهوية المذهبية يحتِّم أن يمرّ عبر باب التمركز الطائفي، الذي يعمل على فرز نمطين من الثقافة: ثقافة العرب السنة، وثقافة العرب الشيعة. وهو التمركز الذي جعل الصراع السياسي جزءاً من الصراع الطائفي، وأضفى الصبغة الدينية على النظام السياسي الجديد، بدافع تأكيد الهوية.
ونتيجة لهذه الصبغة الدينية، أصبح من المحتّم أن تتعرض بنية الثقافة العلمانية، إلى هزة عنيفة ولاسيما بعد نتائج الانتخابات التي أعقبت الحكومة الانتقالية في شهر ديسمبر من العام 2004، وفوز كتلة الائتلاف ذات الخطاب الديني، الطامحة إلى تأسيس دولة ثيوقراطية، ذات مبادئ أخلاقية مستمدة من الماضي، تعمل على تعبئة الجماهير ليتحولوا إلى كائنات تاريخية، تستنشق هواء المواعظ التي أصبحت جزءاً من الماضي العتيق. لكن من الإنصاف، أن نشير إلى أنّ الثقافة العراقية الآن ظلت تقاوم كلّ عمليات الاحتواء الديني. وفُتحت مراكز، وأُقيمت نشاطات ذات خطاب علماني صريح في وسط عدم رضى الزعماء الدينيين.
ولكن بإخفاق السياسيين العلمانيين في الحصول على الأصوات التي تمكنهم من قيادة البلد والتخطيط لمستقبله السياسي، فإن الثقافة العلمانية باتت تتعرض إلى تهديد حقيقي، يضعها في خانة المحظورات، أو ما يصطلح عليه في الفقه الإسلامي ثقافة: الحرام. ففي صيف 2004، أقيمت في المركز السويسري العراقي ندوة عن الإصلاح الديني في العراق، حضرها الملحق الثقافي السويسري الذي يتكلم العربية، كنّا ثلاثة محاضرين، حاولنا أن نقدّم رؤية عن لا واقعية الخطاب الديني ومثاليته المفرطة وكليته المطلقة، استعرضت أنا موقف الحركات الدينية من التحديث الاجتماعي، وأردت أن أوضح أن تاريخ الثقافة العربية، لم يكن تاريخاً دينياً بشكل مطلق كما تزعم بذلك الحركات الإسلامية السياسية التي اختزلت تاريخ هذه الثقافة في الإسلام فقط، وإنما ينطوي على متن واسع من الفكر الشكي والإلحادي والعقلاني، وضربتُ أمثلة على ذلك، وعندما وصلت إلى هذه الفكرة الأخيرة همس في أذني مدير المركز أن ثمة رجلاً خطيراً يراقب المحاضرة، وأنك تجاوزت الخط الأحمر، حينها علمتُ أن هذا الخط سيكون المأساة الجديدة التي ستدمر تاريخ هذه الثقافة.
وفعلاً بعد أسابيع من هذا التاريخ، وقف علاء المسعودي بعمامته البيضاء التي يستمد منها مرجعيته في الحلال والحرام، في وسط قاعة اتحاد الأدباء، ليحرّم الغناء والموسيقى. وعاد هذا الشخص بعد فترة لينقل إليّ تهديداً بصيغة تنبيه على سلسلة مقالات أسبوعية نشرتُها في جريدة الصباح الجديد عن علاقة الثقافة بالدين والدولة، وزعم أن الأمور كادت تأخذ مساراً آخر لولا أن مكتب الشهيد الصدر طلب منه أن يهدئ الموقف. وبعد انتهاء وزارة مفيد الجزائري ( وزير الثقافة الذي ينتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي) ومجيء الوزير الجديد نوري الراوي ( الذي كان في عهد صدام يحمل رتبة عسكرية متدنية، ولا عهد له بالثقافة لا من قريب ولا من بعيد) كان الشيخ علاء المسعودي وعدد كبير من التيار الصدري يزيحون كبار موظفي وزارة الثقافة العلمانيين ليأخذوا أماكنهم في إدارة ثقافة العراق من خلف العمامة والجلباب الديني.
في عهد هؤلاء طال التحريم مختلف الفنون، إذ تمّ تفجير عدد من التماثيل، وأهملت تماثيل أخرى لتتحول إلى مكان للنفايات. وتعرض أساتذة وطلبة كلية الفنون إلى تهديد بترك النحت لأنه حرام، وتعرضت معامل النحت الكبرى إلى سرقة محتوياتها أولاً، ثم أهملت إهمالاً تاماً بحجة أنّ التجسيم حرام في الفقه الإسلامي. وفجّرت محلات أشرطة الغناء ومحلات الموسيقى الشعبية في البصرة وبغداد، تلك الموسيقى التي عدّت جزءاً من الموروث الشعبي، والعادات العراقية في حفلات الأعراس والختان والخروج من المستشفى والتخرج من الجامعات، وسواها من المناسبات. وفجرت كذلك صالونات حلاقة النساء، وأسواق بيع طيور الزينة، وقاعات الانترنت، وملاعب الرياضة الشعبية، ومحلات المشروبات الروحية، ودور السينما، والمقاهي، وأغلقت الملاهي ومدن الألعاب والأماكن السياحية، وحُرّم على النساء قيادة السيارة وارتداء البنطلون، وفرض عليها أن تتشح عنوة بما يسمى: اللباس الإسلامي.
ومن المدهش أن أحد الوزراء التابعين إلى تيار ديني مشارك في العملية السياسية قام بتفتيش دوائر وزارته، وعندما دخل إلى إحدى الغرف ووجد فيها موظفاً وموظفة يعملان معاً، طلب منهما الافتراق حالاً ليكون كل واحد في غرفة من بني جنسه. وقد قتل كثير من الشبان والصبيان، الذين كانوا يرتدون الشورت الطويل في أيام القيظ الحارقة لأن ذلك بدعة غربية كما يزعم المتشددون. وفي ندوة تلفزيونية، شكت إحدى مدربات الباليه التي تقوم بتدريب عدد من تلاميذ ( مدرسة الموسيقى والباليه) من تعرضها إلى إكراهات بارتداء الحجاب واستبدال ملابس الباليه بملابس فضفاضة. وطلب وزير الثقافة أسعد الهاشمي، من راقصات الفرقة القومية في إحدى الحفلات الثقافية، أن يقمن بتطويل ثيابهن، وارتداء الحجاب ليتناسب مع الحشمة الإسلامية.
وفي شتاء 2005، أجهش النحات المعروف نداء كاظم بالبكاء في وسط حشد من المثقفين في مدينة البصرة، عندما أشار إلى وجود شائعة لإزالة تمثال بدر شاكر السياب (1926-1964) أبرز شعراء الحداثة العربية.
إن الشيء الأكثر إيلاماً، هو السعي الحثيث للقضاء على الثقافة الشعبية، وتغيير معالم المدينة العراقية، فقد تم تدمير تمثال أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الذي بنى مدينة بغداد وصنع مجدها الذهبي. وكان هذا التمثال يزيّن إحدى ساحات بغداد، وتحيط به سلسلة من المحلات والمطاعم ومشتل كبير للزهور والأشجار، مما يجعل المنطقة مكاناً للقاءات العشاق، ففُجِّر التمثال، وأُغلقت معظم المحلات، ففرَّت العصافير وهرب العشاق، الذين كانوا يملأون متنـزهات بغداد، فغدت الآن أماكن مهجورة. وعندما أخذ العشاق يتبادلون الحب عبر الموبايل، ويتفقون على مواعيد الزواج، فُجِّر عدد من حفلات زواجهم في النجف وبغداد والرمادي وأبي غريب وديالى ومناطق أخرى، وتعرضت بعض مواكب الزفاف إلى خطف الزوج والزوجة، وإعادتهم جثثاً إلى ذويهم.
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، إنما طال التخريب كلّ شيء، فالجامعات الآن رهينة بيد المليشيات، وفي ظل التدهور العلمي أصبحت الأطاريح تُكتب لبعض الطلاب، فقد نوقشت في صيف 2006 أطروحة دكتوراه لإحدى الطالبات وقد اعترف لي الأستاذ المشرف وثلاثة من المناقشين بأن أحداً ما كتب لها الأطروحة، وكانت النتيجة أن منحت درجة الدكتوراه بدرجة تقترب من الثمانين. وانتشر الغش بين الطلاب بصورة يصعب وصفها، حتى إنني عندما كنت أراقب على إحدى القاعات في امتحانات صيف 2006 بالجامعة المستنصرية، وجدت أن القاعة بأسرها تحوز على قصاصات الغش، وعندما نهرت أحدهم ويدعى شاكر، هددني بأنه ضابط في الشرطة واتصل بالموبايل بزعيمه ( الحجّي: كناية عن القاتل الأكبر) ليثير الفزع في داخلي، وعلى الجانب الآخر من القاعة كان أحد الغشاشين يستل سكيناً يخيف به أحد الأساتذة الذي حاول منعه من الغش. ومن لحظتها قررت أن لا أبقى في الجامعة العراقية أبداً. وفي كلية الإعلام اعتدى الطلاب على الدكتور مؤيد الخفاف لأنه تحدث في موضوع تاريخي لا يروق للطلاب الشيعة، وفي النهاية منع من الدوام في الجامعة، ولم تنفع لا استغاثته بالحكومة ولا بالمرجعيات الدينية. وقد قتل كثير من أساتذة الجامعة إما لسبب طائفي، أو نتيجة لخوضهم في موضوعات فكرية غير مرغوب فيها.
ولم ينجُ الأدباء من الاعتداء، ففي ربيع 2005 تعرض الشاعر والمذيع التلفزيوني أحمد المظفر للضرب من قبل مليشيات تحمي فندق المربد في البصرة، وكانت الحجة أنهم عثروا في حقيبته على زجاجة خمر. وبعدها بأشهر، أُعتديَ على رئيس اتحاد أدباء البصرة، وفي مهرجان المربد في العام الماضي، قرأ الشاعر عدنان الصائغ قصيدة ذات فحوى ديني انتقادي، فما كان من أحد الرجال الخطرين، إلا أن وضع إصبعه في عينه مهدداً إياه بالقتل، فقام أصدقاء الشاعر بتهريبه عبر الطريق الصحراوي المؤدي إلى الكويت.
ولعلّ أخطر ما يواجه الأدب العراقي الآن، العمل على احتوائه أيديولوجياً، وجعله جزءاً من الانقسامات العقائدية، وذلك بفسح المجال للمتأدبين والمتشاعرين لأن يحظوا بالدعاية والرعاية معاً. فتحول الأدب العراقي من بحثه الدائم عن الحداثة والتحديث، إلى أدب دعائي وتعبوي، فتمت العودة إلى كتابة القصيدة الكلاسيكية التي هجرها الأدب العراقي قبل أكثر من خمسين سنة، بعد أن تحول العراق إلى عاصمة الحداثة الشعرية منذ العام 1947.
إنّ هذا التعصب، الذي استفحل بتدمير أصول الثقافة العراقية، لم يجد أية معالجة من الحكومة التي دارت ظهرها لهذا التدمير المنظم، ولكن كيف لها أن تبادر إلى ذلك وهي حكومة قائمة على ذهنية دينية بسراويل ديمقراطية مهلهلة؟.
إنّ نظرة الدولة ى إلى الثقافة،لم تكن بأحسن من نظرة المتشددين الإسلاميين، فهي دائماً تعدها شيئاً غير ذي أهمية، ولم يتضمن الدستور أية إشارة لصيانة الطابع الثقافي للتراث العراقي. من جانب آخر،لم تتنافس عليها الكتل المتصارعة على الوزارات، ومن الطريف أنّ عضو مجلس الحكم السابق محمد بحر العلوم الذي يرتدي الجبة والعمامة السوداء، صرح بأنها: وزارة الدمبكچية؛ أي وزارة للطبالين والمزمرين. وهو كناية عن نظرة احتقار للثقافة والفنون. وعندما انتشرت تكهنات بإسناد حقيبتها إلى جبهة التوافق، علّق فائز الجربة على ذلك بأنها: وزارة تافهة.
وظلت ميزانية وزارة الثقافة، بحدود 17 مليون دولار، في مقابل ضعف هذا الرقم تحصل عليه جامعة البصرة رابع أكبر الجامعات العراقية.
ناظم عودة
[email protected]
التعليقات