أسطورة الدولة الدينية التي تروج لها جماعات الإسلام السياسي لا تخرج عن كونها خزعبلة أخرى من تلك الخزعبلات والأراجيف التي تحاول ترويجها عبر خطاب رومانسي دعوي فضفاض يدّعي العصمة والصراط المستقيم، والطهرانية المطلقة، والتفويض الإلهي الشامل، وتتخذ من العقيدة الدينية صهوة وثيرة سهلة ومريحة للوصول لمآرب سياسية بحتة. إلا أن التجارب الفاشلة الكثيرة والمتكررة لهذا المشروع تدحض أي بعد روحي أو قدسي ميتافيزيقي يمكن أن تبنى عليه الدول. وهنا ينبغي الفصل، تماماً، بين الدين كعقيدة ومنظومة أخلاقية وسلوكية عليا، وبين المشاريع السياسية، والدولة الدينية، التي يشوبها الكثير من اللغط والإبهام والإشكاليات، وعدم الخلط والمزج بينهما على الإطلاق. فالعداء المجرد للدين، ومبادئه، وقيمه، وطقوسه أمر مرفوض بكل المقاييس والاعتبارات، كما أن ازدراء الأديان وتحقير الآخرين من منطلقات فكرية هو ممارسة همجية يرفضها المتنورون الأحرار. غير أن الحقائق تقول بأن الدول الدينية، لم تستطع، وعبر أساليب الترغيب تارة(الشحن الروحي والثواب: بصكوك الغفران وبالفراديس التي تعج بالخمور وأنهار العسل واللبن والحور العين والغلمان)، أو الترهيب تارة أخرى، (التلويح بالعقاب: قطع الأيدي من خلاف وجز الرقاب وبتر الأعضاء وحرق بالنار)، من تهذيب سلوك الناس، وخلق تيار سلوكي نمطي ملتزم، أو الاستمرار والوقوف بوجه العوامل المادية الأخرى الطاغية على حركة التاريخ، والموجهة له والمقررة لمسيرته.

إلاّ أن عملية النقد والتطرق للظواهر والتخاريف السلبية التي أقحمت على الأديان عبر مسيرة التراكم الإيديولوجي والسلوكي الطويل، أمر مباح ومارسه كثير من الدعاة والمصلحين المتنورين، من أمثال الكواكبي ومحمد عبده، على سبيل المثال، ومن هنا يأتي تناول هذه الظواهر بالتشريح في سبيل التطوير والإصلاح. ومن خلال تتبع مسيرة الدول الدينية فهي لم تفلح يوماً على أساس ديني وغيبي، أو أن تتمكن من الاستمرار إلى الأبد أو أن يكون لها حصانة سماوية وإلهية تمنعها من الانهيار والاضمحلال والزوال، حسب ما يحتوى النص الديني ويبشر فيه. ولقد تفرقت وتشتت، مثلاً، جميع الأديان إلى ملل ونحل وطوائف ومذاهب تتصارع فيما بينها على الدوام، وفقدت بذلك الزخم والبعد السماوي والغيبي المتكامل الذي هطلت به على رؤوس الناس.

فلقد بدأت مثلاً، الخلافة الراشدة كموجة دينوسياسية، وبعد صراع مرير على التسيد والزعامة، ويجب فصلها في هذا السياق عن بعدها الغيبي واللاهوتي المقدس، بحرب أهلية ضارية ضروس، وتصفيات جسدية وسياسية عرفت باسم quot;حروب الردةquot;، لإضفاء الطابع المقدس والعقيدي على صراع سياسي وفكري بحت، وذهب ضحية ذلك الكثير من الأبرياء وسالت فيه دماء عزيزة وكريمة من المسلمين وquot;المرتدينquot; الكفار كما أطلق عليهم. وانتهت تلك الخلافة الراشدة فيما بعد إلى مواجهات دموية عنيفة أفضت إلى كارثة سياسية وخلافية فظيعة وكبرى عُمـّدت بدماء ثلاثة من خلفائها الراشدين، ولا تزال نتائجها تتفاعل في شوارع المدن الإسلامية، حتى اليوم، فرقة، واقتتالاً، وكراهية، وحروباً لا يعلم أحد متى ستكف عن استنزاف الدماء، وتكريس وإنتاج الكراهية والحقد والبغضاء، quot;من طنجة إلى جاكرتاquot;، وهو بالمناسبة الشعار الرسمي لحزب التحرير الإسلامي. كما افتتحت خلافة بني أمية عهدها الميمون والزاهي الذي يتغنى به الفقهاء بالفضائيات، بمذبحة مروّعة قطعت بها رؤوس كثيرة واستبيحت وهتكت فيها أعراض، وانتهت بمجزرة أخرى وحفر ونكش لقبور خلفاء بني أمية. وقد روّع، لاحقاً، الخلفاء أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور والحجاج السياف، صاحب النظرية العربية الأشهر التي عرفت بالرؤوس اليانعة والقطاف، الناس وحكموهم بيد من حديد ونار باسم الله، وقامت دولتهم العتيدة على جبال من الجماجم والعظام، ولكنها انتهت كالمعتاد إلى دويلات وولايات وكانتونات المعتصم والمعتز والمنتصر والحاكم والقائم والقاعد بأمر الله. فيما انهارت خلافة بني عثمان الإسلامية، التي تتباكى عليها قنوات الملثمين وكليبات الإرهاب، بالشكل المرير المتهافت والمريض الذي آلت إليه، وأصبحت إمارة أفغانستان الإسلامية مثالاً للتندر والتهكم بين الناس، وانهارت على وقع فضيحة عولمية مجلجلة، وكانت قد أفلحت فقط في النصر على أصنام بوذا الصماء، ووأد النساء في الشادور والحجاب، وتداعت بشكل مهين، وفرّ مجاهدوها الميامين الأبرار أمام ضربات طائرات الـ ٍ Stealth والـ بي 52 التي صنـّعها الملحدون وquot;الكفارquot;، وتلاشت دولة المحاكم الإسلامية الصومالية وذابت كالملح، واختفت كالأشباح أمام تقدم القوات الإثيوبية، ولم ينفعها كل خطابها الدعوي وأدعية الفقهاء، وبركات شيوخ التطرف والإرهاب والإفتاء. ولن يفضي الإجرام والتفجيرات الطائفية الحالية في العراق إلى دولة قانون ولن يصبح المجرمون والقتلة أسياداً في يوم ما.

ما يمكن الخروج منه من خلال إيراد كل تلك الأمثلة عن انهيار مشاريع الدول الدينية عبر التاريخ، هو نفي وإبعاد صفة القداسة والماورائيات الميتافيزيقية التي تحاول الجماعات إياها أن تلصقها بهذه المشاريع السياسية وتلبسها رداء الدين لدغدغة عواطف الدهماء والرعاع والمؤمنين البسطاء. وأنه ينقص تلك المشاريع المقدسة الكثير من الركائز والأسس والمتممات لتصبح دولاً وكيانات سياسية بالمفاهيم العصرية للدول الحديثة القائمة على الأرض والدستور وخيارات الناس لا الدول الطوباوية والإفلاطونية المشيدة في الغيب والمجهول والسماء والفراغ وخيال الدعاة، ومبنية على القانون الوضعي العام المتغير والمتحول مع التطور العام ورغبات وحاجات الإنسان.

هذا الخلط واستثمار واستعمال الدين كواجهة للوصول للقصور الرئاسية والتحكم برقاب الناس وممارسة الإرهاب الفكري والتنكيل بهم، والتفرقة العنصرية البغيضة، هو ما يرعب في هذا الفكر السياسي المدمر. فأين يكمن، مثلاً، تصنيف الممارسات اللاوطنية والعنصرية لجماعة الإخوان المسلمين، داء العصر الديني، التي تميّز بين المواطنين على أسس أيديولوجية وفكرية وطائفية فقعاء، وترفض انضمامهم إليها إلاّ بناء على تصنيف وتطييف ديني بغيض تخجل منه حتى شبيبة هتلر النازية، وجماعة كو كوكس كلان العنصرية الفاشية الأمريكية. وتشكل ببنيوتها الفكرية والتنظيمية الدولية مشروعاً صدامياً وتوطئة لحروب أهلية بكافة الاعتبارات والمقاييس. إنها صدام مع الداخل الوطني المتنوع عبر نزعتها العصموية الفئوية الاحتكارية، ومع كل ما هو مختلف. وصدام مع العصرنة والحداثة وكل المفاهيم والقيم والمعارف الإنسانية التي بلورتها التجارب البشرية العصرية. وترفض هذه الجماعات حتى اليوم التوقيع أو الاعتراف بمواثيق الأمم المتحدة باعتبارها قوانيناً وضعية من صنع البشر، ويدخل ضمنها بالطبع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يعتبر أزهى ثمرة لنضال البشر المضني ضد الطغيان والقمع والاستبداد بكافة أشكاله. وتتبنى مفاهيماً ومبادئ خارج العصر والزمان والمكان، وترفض كل الأطر السياسية والتجارب الإنسانية الثرية التي بنت أعظم الحضارات حتى اليوم، وتفضل العودة إلى النماذج والعصور التاريخية الأولى المنقرضة للعيش فيها وتمثـّل قيمها وسلوكياتها، وتتبنى السيف، رمز الدم والبتر، لا القلم أو الورد وغصن الزيتون، كشعار وحل لكل ما يعترضها من مشكلات. هل في هذا ما يرعب أم لا؟ وهل في هذا تجن عليها أم تبيان لخطورة مشاريعها وأطروحاتها؟ ألم يعلن السيد محمد مهدي عاكف، المرشد الروحي للتنظيم الدولي للجماعة، بأن الماليزي والإندونيسي المسلم، هو أحب وأقرب على قلبه من القبطي المصري وسواه، وازدرى مصر الرمز الوطني الأشمل والدولة والنظام السياسي والتاريخ والعراقة بتلك الكلمات النابية التي نخجل من ترديدها، ويترفع هذا المقام الرفيع عن ذكرها.


انقراض الدولة الدينية، وزوالها، وخضوعها للقوانين الطبيعية والمادية، أمر حتمي ومفروغ منه، ولا تشفع له كل بركات السماء ولا توسلات ومواعظ، ورطانة الفقهاء. فلنعطِ ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ولنخرج من تلك الدوائر الفكرية والدموية المفرغة والتصورات المنحرفة والمريضة الشوهاء، نحو رؤى أكثر انفتاحاً وإنسانية وحضارية وتجدداً وعطاء. فهل ندعو مرة أخرى لبناء الدولة الدينية، ليس لغرض ما، ولا سمح الله، إلا لنشهد انهيارها المريع بعد حين، ونكرر كل تلك الكوارث والتجارب الإنسانية المروعة ذات الإشكاليات العديدة المتجذرة، أم نتبنى خيارات عصرية تسامحية تصالحية وإنسانية لا تصادمية مثمرة؟

نضال نعيسة
[email protected]